نشرة “الإنسان والتطور”
10-11-2010
السنة الرابعة
العدد: 1167
الفصل الأول
الصحة النفسية (5)
الجنون فى رحاب العقل!
جاء فى يومية أمس، النص سابعا:
يكون الانسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما يصبح الجنون جزءا من وجوده، وفى نفس الوقت لا ينفصل عن كل الوجود ليقوده إلى التناثر أو التدهور، حين يحدث ذلك نكتمل به – بجنوننا – فى نفس اللحظة التى ننتصر فيها عليه، وهكذا فإن الإنسان المعاصر الصحيح إنما يكون صحيحا ليس بفرط التعقل وإحكام ضبط الداخل، وإنما بحجم التكامل والسماح والتناوب المرن والامتداد المتعدد
ثم أضيف فى الهامش :
بدأت هذه الفكرة تلوح لى باكرا بدرجة من الغموض، ثم تبلورت فى عمل سابق هو “جدلية الجنون والإبداع“، والذى نشر باكرا فى مجلة فصول “المجلد الثالث، العدد الرابع 1986 ثم أعيد نشره وتحديثه فى كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع: المجلس الاعلى للثقافة 2007) ـ والأرجح أنها ستكون موضوع نشرة الغد، وربما تمتد إلى الأسبوع القادم أو بعده، فقط أنبه الآن إلى أن استعمال لفظ الجنون هنا باعتباره “جزءا من وجود الإنسان، وفى نفس الوقت لا ينفصل عن كل الوجود” هو مفتاح التعامل مع هذا اللفظ (الجنون) بحضوره الحيوى الحركى، وليس بحضوره المرضى التفسخى أو الشاطح، كذلك سوف نعود غالبا إلى شرح هذه الجملة التى تبدو معقدة ، وهى غير ذلك ، وهى الجملة التى تقول “ليس بفرط التعقل وإحكام ضبط الداخل، وإنما بحجم التكامل والسماح والتناوب المرن والامتداد المتعدد“، لأن كل لفظ فيها قد يحتاج إلى شرح تفصيلى قد تتاح له الفرصة غدا أو بعد ذلك.
وبعد
دفعنى هذا الذى ورد أمس إلى الرجوع إلى هذه الدراسة الباكرة، تمهيدا للنقلة إلى عرض أنواع الحركة والسكون، فيما يتعلق بالصحة النفسية.
تمهيد:
للدخول إلى الإيقاع الحيوى، جوهر النظرية، وجدت أنه من المهم التعرف على ما أسميته حالة الجنون التى افترضت أنها ضمن الدورات الطبيعية لأى فرد، وليست قاصرة على من نسميه المجنون، مع فارق التوقيت والمظاهر والتمادى، وحين رجعت إلى هذه الدراسة الباكرة وجدت تعريفا للجنون يستأهل الاثبات هنا هكذا.
2- تحديد مفاهيم:
……..ما معنى “حالة الجنون” فى الحديث عن جدلية الجنون(1)،
لم يستقر الأطباء المختصون أنفسهم على وصف الجنون أو تحديده أو تقسيمه إلى فئات متفق عليها اتفاقا تاما حتىالآن، ناهيك عن عجزهم عن تحديد أسبابه أو أبعاده أو معانيه أو غاياته، فكيف يكون الحال عند الأديب والناقد، فضلا عن المثقف العام، (والشخص العادى) لاسيما أن لفظ “الجنون” يستعمل فى هذه المجالات استعمالا متواترا؟ إن المـُراجع لاستعمال الأطباء المختصين للفظ الجنون، سوف يكتشف أنهم يستعملون – الآن خاصة – ألفاظا بديلة، كما سوف يتبين أنهم لم يتفقوا لا على مضمون اللفظ ولا على مضمون ما اقترحوا من مترادفات للفظ الجنون. فى الإنجليزية. مثلا: نجد أن لفظ Madness لم يعد مستعملا فى اللغة العلمية الطبية، بعد أن أحلوا محله ألفاظ مثل الذهان Psychosis، والخرف Dementia وما شابه. والترجمة إلى العربية – وهى السائدة بين الأطباء العرب للأسف– تسير على نفس النهج الغامض غير الجامع وغير المانع. على الرغم من كل ذلك فما زال الاستعمال (الطبي) الشائع للفظ الجنون يشمل معانى: الاختلاف الشديد، والغربة الشاذة جدا، والاغتراب المتمادى، والانسحاب الشامل من الواقع، والتفجر الخطر، والتناثر، …….، والموت النفسى، والنشوز السلوكى الخطر، ولا يمكن لأحد أن يتبين أيا من هذه المعانى هو المراد إلا فى سياق متكامل أو بعد تحـديد إجرائى معلن.
أما عند العامة فإننا نجد نوعا آخر من الخلط والتداخل فى استعمال لفظ الجنون فى مختلف المجالات، فـفى مجال الأخلاق يـستعمل لفظ الجنون ليشمل معانى متعددة، مثل: العدوان الفج، والتبلد، والحمق، والجسارة الجسيمة، والقحة، وغيرها. وفى مجال الأدب لانجد للفظ نفسه حظا أوفر تحديدا. وقد يصل الاختلاف إلى حد التضاد، فثمَّ الجنون/ التجاوز، والجنون/الحلم، والجنون/الوله، والجنون/البله، والجنون/السبْق، وخرق العادة، والجنون /الجمال، والجنون/القفزة، والجنون/ التناقض… إلخ. ولا تسعفنا المعاجم بما يفيد إلا تجذيرا وتأريخا لأصل اللفظ وتنوع وروده فى التراث أساسا، دون مراجعة مضمونه الحركى الحالى”.
انتهى المقتطف الأول:
ثم إنى حاولت أن أحدد ما أعنيه شخصيا فذكرت أن الجنون قد يعنى معنيين أساسين مختلفين(2) فالجنون قد يعنى:
أولا: العملية التى يتفكك بها الكيان البشرى، تركيبا وسلوكا بلا اتجاه واع بداية – يتفكك إلى وحداته الأولية (وما دونها)، إذ تنشط صراحة – وفى وساد الوعى القائم نفسه - بعض مستويات الوجود الكامنة، ومحتوياتها، تظهر منافسةً، ومعارضة، ومباعِدة للمستوى الغالب ظاهرا فى السلوك اليومى المعتاد،
وهذه مرحلة الجنون النشط، وهى مكافئة لمرحلة الحلم النشط، وبالتالى فاستعمال اسم الجنون هنا هو إشارة إلى هذه المرحلة، أكثر منها إشارة إلى الاستعمال الآخر للجنون الذى هو:
ثانيا: الناتج الانهزامى المتهدم، أو الساكن، أو المنسحب، لهذه العملية بعد إخفاقها، على نحو تترتب عليه حالة من التفسخ المستقر، أو الإعاقة البالغة، أو الانسحاب المنغلق، أو كل ذلك.
حالات الوجود الثلاثة:
حين أشرتُ أمس إلى حالات الوجود الثلاثة تصوّرت استحالة أن أتمكن من تقديم الجنون باعتباره إحدى الحالات السوية بشروط معينة، فعدت مرة أخرى استهدى بمحاولاتى السابقة فوجدت النص التالى :
بإعادة النظر فى موقفنا مما يسمي”الحياة العادية”، يبدو أنه ليس صحيحا أن يكون هذا التعبير: مصطلح “الحياة العادية” (عند العامة والأطباء على السواء) هو المرادف البديهى لما هو “صحة” “نفسية !!”. ذلك لأن مايسمى بالحياة العادية ليس إلا إحدى “صور/حالات” الوجود المتعددة. ومهما كانت هذه “الحالة العادية” وهى الغالبة إحصائيا (حيث يتصف بها معظم الناس) والسائدة زمنيا (لمعظم الوقت)، هى ليست كل الوجود حتى تحتكر ما يطلق عليه الحياة العادية، بمعنى الصحة المرجَّحة. ذلك لأن مايسمى”الحالة العادية” لو سادت -هكذا- طوال الوقت لأصبحت عاملا معوٍّقا لمسيرة الحياة، فالتطور، حيث أنها عاجزة عن احتواء حركية الظاهرة البشرية فى جدليتها المتصاعدة.
إن التحدى الملقى علينا – والذى نحاول تحمل مسئوليته فى هذه الدراسة- هو مواجهة هذه الشائعة السكونية (العادية) بفهم أعمق لطبيعة المسيرة البشرية، حتى لانخدع فنعتقد أن الصحة النفسية المناسبة ليست إلا المضاعفة المتراكمة لهذه العادية العددية الكمية السكونية.
معالم مبدئية:
إن ما يطلق عليه تعبير”الحياة العادية” Normal Life، ليس سوى “حالة العادية” State of Normality، على أساس أنها “حالة” من بين حالات أخرى لازمة، بالتبادل والتفاعل، لاستمرارية الحياة البشرية فى كفاءتها القصوى ونمائها المتصل.
فما هى تلك الحالات الأخرى؟
إنها ليست سوى “حالة الإبداع” “وحالة الجنون”، على أساس أنهما تمثلان ألوان النشاط المتبادلة (والمتداخلة والمتفاعلة) مع حالة الوجود العادى الغالبة.
وإذا كنا نقبل أن تتبادل حالة العادية مع حالة الإبداع، بمعناه الأشمل، بما فى ذلك إبداع الحلم وإبداع الذات نموّا، فكيف نتصور ضرورة التبادل مع حالة الجنون؟
إن الحالة التى نسميها هنا الجنون والتى نصر على أنها إحدى الحالات اللازمة لكفاءة الوجود البشرى، هى مرحلة زمنية (مهما قصر زمنها) قد تتحور أو تنتهى، وقد تسكن وتتراجع لتعلن حالة العادية وقد تتمادى للتفسخ، فالناتج السلبى فقط هو الجنون بمعنى المرض، ولأن نفس العملية قد تتوجه ضامة فى إعادة تشكيل إلى حالة فائقة من الجدل والتوليف فهو الإبداع.
لقد قصدت أن أستعمل تعبير “كفاءة الوجود البشرى” ليحل محل تعبير ”الصحة النفسية” حتى يتضح أن المفهوم السكونى الشائع عما هو صحة تحت زعم تقديس “العادية” فحسب، لا يتفق مع ما يعد به الوجود البشرى ويستطيعه فى حركيته النامية الغائية.
الفرض:
“لا يوجد إنسان هو مبدع بالطبيعة والاستعداد والموهبة، والآخر ليس مبدعا ولا يمكن أن يكون كذلك، الاختلافات واردة، والفرص مختلفة، لكن الطبيعة البشرية بمسيرتها الحيوية تسمح بالتبادل الحتمى لكل فرد دون استثناء بين حالات الوجود التى أشرنا إليها حالا: حالة العادية، وحالة الجنون، وحالة الإبداع. الإشكال إذن فى التوقف عن هذا التبادل قهرا أو خوفا أو تشويها، بما يترتب عليه دوام إحدى هذه الحالات على حساب الأخريتين.
فلو غلبت حالة العادية طوال الوقت، لتجمد الوجود، فيما يسمى “فرط العادية” الذى قد يشمل فى تضخمه الكمى بعض ما يعرف بـ “اضطرابات الشخصية”
ولو غلبت حالة الجنون طوال الوقت، لتمادى التناثر فتحلل الوجود إلى التدهور المتمادى فالتحلل المتفسخ السلبى (الإزمان والموت النفسى = الجنون الصريح المتمادى).
ولو غلبت حالة الإبداع طوال الوقت، لتقلص الوجود باسطا ما احتوى فى تشنج ممتد حتى قد ينقلب الإبداع إلى عكسه مفتقرا إلى تجديد مادته الأولية اللازمة المتغيرة لحركية الجدل فى نبضة إبداع تال.
تصنيف الأحوال بديلا عن تصنيف البشر:
هذه النقلة من “تصنيف البشر” إلى “تصنيف الأحوال” هى اعتراف ضمنى بحتمية التطور عند كل الناس إذْ تمثل انطلاقة نحو قبول الطبيعة البشرية بما يسمح للعادى أن يبدع، ويُطَمْئُن المبدع حتى لو خاف مخاطرة الجنون (اللاعودة = سكة اللى يروح ما يرجعشى)، كما أنها بمثابة تنبيه إلى ضرورة احترام الذى جـُنّ باعتبار أنه احتمال قائم عند أى واحد منا، وأيضا باعتبار أن ثمة فرصة أمام الذى تورط فى هذه المحنة: ليس فقط للعودة إلى العادية والتبادل الصحى، وإنما لاحتمال الإبداع ما دام أنه تحرك بما يشير إلى احتمال أنه أَجْهزُ للتفكيك من المتصلب العادى، مع اتخاذ كل الحذر لتعرضه أكثر من غيره للحل السلبى المتمادى.
حالة الجنون ليست هى الجنون، لكنها مشروع جنون كامل:
نوضح هنا- ثانية وكثيرا- أن اعترافنا بـ “حالة الجنون” على أنها مرحلة ضمن حركية النمو، لاينبغى أن يعطيها أية شرعية للتمادى، حتى تصير إلى ما يسمى “الجنون”، إذن فلا بد من التأكيد على أن حالة الجنون هى غير الجنون وإن كانت هى المؤدية إليه متى طالت، وتمادت، وظهرت كما هى دون تطوير فى الوعى العادى، كما أن دفاعنا عن حق التواجد والتبادل والتفاعل لهذه الحالة هو دفاع عن حالة الجنون ضمنا، لكنه ليس دفاعا عن ظاهرة الجنون مرضاً، أى أننا نقبل الجنون-وندافع عنه- بما هو حالة مرحلية نشطة، واحتمالٌ وارد، وبالتالى نسمح بحركتها فى إطار حركية متكاملة ، لكن ليس أبدا بوصفها ظاهرة مستقرة.
إنها دعوة أن نقبل حالة الجنون وليس الجنون، باعتبارها حالة نحترم بدايتها دون مسارها (إلى التدهور والنكوص المستتب). هذا الاضطرار الحذر “الجنون فى رحاب العقل” هو المخرج المحتمل لمواجهة غلبة رفضنا للجنون كليةً وابتداءً ، مما يترتب عليه رفض للحركية ضمنا، ومن ثم تراجع احتمالات الإبداع الذى يتفق معه (مع الجنون) فى البدايات.
وبعد
كل هذا هو مجرد مقدمة للتأكيد على الاستعمال الخاص لتعبير حالة الجنون التى هى تنشيط خطر للتركيب البشرى يحمل احتمال التفسخ بقدر ما يمثل أحد أدوار دورات الايقاع الحيوى، كذلك فإن حالة الإبداع لا تشترط إنتاجا إبداعيا بقدر ما تصف عملية إعادة تشكيل تركيب الذات، أو ممارسة فعل الحلم إيجابا مهما قصرت مدته أو تواضعت أشكال ظهوره.
وقفة مؤقتة:
ما جاء فى هذه النشرة ليس إلا تمهيدا لتقديم الصحة النفسية، متضْمنة حالة أو مرحلة ما اسميناه حالا “الجنون فى رحاب العقل” كتقدمة ضرورية قبل أن ننتقل الأسبوع القادم إلى الصحة النفسية بين الحركة والسكون.
[1] حركية الوجود وتجليات الإبداع، يحيى الرخاوى ، المجلس الأعلى للثقافة، 2007، ص ، 145
[2] حركية الوجود وتجليات الإبداع، يحيى الرخاوى ، المجلس الأعلى للثقافة، 2007، ص ،147