الوفد:23/4/2001
الفساد ليس مقصوراً على الصحافة!
عولمة النخاسة
لم يستعمل فهمى هويدى تعبير “سوق النخاسة ” وهو يفتح ملف ما أسماه “صحفيون للبيع”. الذى استعمل هذا التعبير هو السيد الغضبان وهو يتناول بالقياس ما آل إليه حال التلفزيون فى هذا السوق (الوفد 16 إبريل).
أصل الفعل “نخس” لا يفيد كثيرا هذا المعنى الأحدث حيث أنه: “نخس الدابة نخسا، طعن مؤخرها أو جنبها بالمنخاس” لتنشط”، وصفة “النخاس” تفيد بائْع الدواب والرقيق. هذه صورة ينبغى استحضارها من لغتنا الرائعة ونحن ننظر فى هذا المشهد: بيع البشر كالدواب، ونخسهم بالمنخاس (اِلمنح، والإكراميات، وموائد المؤتمرات، وتسهيلات السفر، والمكافآت القانونية، وتحت المائدة) “لينشطوا”، فيزيد ثمنهم لمشتر آخر.
أما العولمة، فهى الإسم الحركى للسيطرة، والتعصب، والأمْْرََكـة، وتقنين الظلم، والإيهام بالحرية.
حين نقول “أمْركة” نعـطى لأمريكا صفة لا تستحقها، إذ أنها لا تملك مقومات أن تتصف بها، ذلك أن هذا اللفظ (أمركة)، يشير إلى أن لأمريكا معالم محددة، تريد لها أن تسود العالم. وهذا غير صحيح. وعدم صحته يشير إلى وضع خطر فعلا، خطر على البشر كنوع. إن البشرية تساق-سرا- وراء نبى جديد، يملك كل وسائل البث، والحث، والترغيب، والترهيب، وهو يدعو لدين لا يعرف هو نفسه معالمه، ولا مآله !! إن كل ما تعنيه “الأمركة”حتى الآن هو عبادة (تقديس) ما يسمّى”اقتصاد السوق”.
اقتصاد السوق ليس مرادفا للاقتصاد الحر، وقد تركز بعد أن تأمْرَك فى ثلاث قيم: (1) إن كل شىء قابل للبيع والشراء،لا يُستثنى من ذلك المبادئ والضمائر والمواقف والعقائد والأخلاق. (ثم الأديان! والأشخاص) (2) أنه لا يتحكم فى السعر إلا العرض والطلب (متضمنا مضاعفات الاحتكار المعلن والخفى)، ثم (3) أنه “إللى ييجى منّه أحسن منّه”.
القضية التى أثارها هويدى هى قضية أعم بكثير من الصحافة والتليفزيون والإعلام، هى قضية عامّة (عالمية أو عولمية!) لا تقف عند حدود مهنة بذاتها، ولا دولة بذاتها.
بدأت هذه القضية بمحاولة هادئة أمينة تُــذكرنا بقيمة كنا نسيناها، أو أُنسيناها، رغم بداهتها وأصالتها، هى قيمة “أمانة النقد الذاتى” (وليس مجرد النقد الذاتى)، وهى التى تعنى معاملة الذات بنفس المقياس الذى نقيس به الغير. هذا أصل من أصول الدين، كل دين، والآية صريحة تقول: لماذا تنظر القذى الذى فى عين أخيك، وأما الخشبة التى فى عينك فلا تفـطن لها”( لوقا : 6:41).
فما الجديد فى ما أثاره هويدى الآن هكذا؟ وما الفائدة؟ وهل يمكن أن نصفق، ونفرح، ونخاف، ونتحاور، ونحذّر، ونلمز، ونعتذر، حول أمر هو بهذه البداهة؟ ما الجديد فى كل ذلك؟ ثم إلى ماذا يمكن أن يؤدى ذلك؟ هل أصابتنا عدوى التطبيب الـمُمَيْكن الذى يهتم بلافتة التشخيص أكثر من اهتمامه بخطة العلاج؟ هل نحن نقتدى بحكومتنا السنية وهى تعلن حجم المشاكل-بعد التخفيف- ثم نفاجأ بأنه : وقت الله يعين الله !؟
قبل محاولة الإجابة دعونا نتأمل أعمق:
قضية قديمة جدا
لأول وهلة، تبدو القضية االمثارة قديمة قديمة، أو فى أحسن الأحوال هى قضية معادة، حتى يخيّل للمتعجّل أنها مجرد تحصيل حاصل. إن مشكلة انحراف الصحافة والصحفيين لتكون أداة فى يد سلطة رأس المال أو الحاكم، قد شبعت تناولا منذ كانت الصحافة، ومنذ كان القضاء، بل إنها أقدم من الصحافة نفسها قبل أن تسمّى كذلك. إنها عميقة الجذور فى التاريخ عامة، وفى تاريخنا العربى خاصة. كان الشعراء، وهم يقفون على أبواب الخلفاء وولاة الأمر، هم المنوطون بهذه المهمة، بكل خيرها وشرها.
أول من نبّهنى إلى هذا الدور الذى كان يقوم به الشعراء هو شيخى نجيب محفوظ. كنت أحدثه عن المتنبى حين صارحته بما لم أجرؤ أن أصارح به أحدا، وهو أنى لا آحب المتنبى، قد أقف عند شعره، ولكنى لا أحبه شخصا.
بدأ خصامى مع المتنبى من قصيدته الميمية التى كانت مقررة علينا فى الثقافة العامة (1949 = سنة ثانية ثانوى الآن)، والتى تبدأ ببيت الشعر القائل ” واحر قلباه ممن قلبه شبِم، ومن بجسمى وحالى عنده سقم”، (والعهدة على الذاكرة -نصف قرن) وما إن انتقلت إلى البيت القائل ” ما لى أخبّئ حبا قد برى جسدى، وتدعى حب سيف الدولة الأمم “حتى كرهت المتنبى كرها شديدا، ما هذا التهافت كله، لماذا؟ بيت واحد فى هذه القصيدة هو الذى هزّنى وظللت أردده بينى وبين نفسى فى مناسبات كثيرة حتى اليوم، يقول هذا البيت:
“أعيذها نظراتٍ منك ثاقبة،
أن تحسب الشحم فيمن شحمُه ورم”
أريد أن أعترف -معتذرا- أن هذا البيت كان يحضرنى بعد كل تعديل وزارى، وكنت أوجهه -بينى وبين نفسى- إلى السيد الرئيس مبارك وأنا أشفق عليه من امتحانات الاختيار فى كل مرّة وهو يحمل وحده مسؤولية التغيير، وربما هذا ما عنيته فى مقالى السابق وأنا أشير إلى أن من أهم هموم أى رئىس فى نظام كنظامنا، هو مسألة أن يعاود “إعادة فرز من حوله باستمرار”. أنا مواطن عادى، من حقى أن أتعاطف مع رئيسى، وأن أدعو له الله أن ينير بصيرته حتى “يولى من يصلح”، وحتى لا يحسب الشحم فيمن شحمه ورم، ولم أكن أقصد -طبعا- أى مسؤول له وزن خاص، أو لغد خاص.
أقول إننى حين اطمأننت إلى رحابة صدر شيخنا نجيب محفوظ سألته تفسيرا لهذا التهافات الفظيع الذى أثارنى صغيرا حتى أبيت على المتنبى أن “يذل نفسه هكذا “، مقابل ماذا؟ لم يستطع كل جمال شعر المتنبى ولا حكمته أن تصالحنى عليه بعد ذلك. فإذا بشيخى الجليل ينبهنى أننى أقيس شعر المديح بمقياس اليوم، وأن علاقة شعراء زمان كانوا بالنسبة للأمراء والولاة بمثابة وزراء الإعلام اليوم، وأن الشعر كان بمثابة الصحافة الآن. فانتبهت.
حضرنى كل ذلك وأنا أبحث عن الجديد فيما أثاره هويدى حالا. وانتقلت بى المراجعة إلى الإبداع الأدبى (ثم السينمائى والتلفزى) المعاصر، وكيف تناول كل من هذا وذاك فساد الصحافة بوفرة وافرة. من منّا يستطيع أن ينسى “”محفوظ عجب” (موسى صبرى) فى دموع صاحبة الجلالة.كما جسده فاروق الفيشاوى ؟ من منا لا يتذكر “الرجل الذى فقد ظله”،ثم “زينب والعرش” لفتحى غانم ؟ وقبل ذلك وبعده نجيب محفوظ سواء فى اللـص والكلاب، أو ميرامار، أو ثرثرة فوق النيل، أوغيرها، (مع اختلاف الجرعة والتناول) ؟
أين الجديد إذن فيما أثاره هويدى؟
على الرغم من كل هذا فإنه يبدو أن ثم جديد يستأهل كل هذه الضجة، ثم إنه لا يجوز إهمال قضية لمجرد أنها قديمة أو مطروقة، مادمت متجددة وقبيحة.
أعدد فيما يلى بعض أوجه هذه الجدّ ة :
أولا : إن الفساد لم يعد استثناء، بل أصبح قاعدة عامة. الاستثناء عادة يمثل موضوعا مناسبا للقص والإبداع الأدبى، أما حين تصبح الظاهرة المعنية هى الأصل، فهى لا تثير دهشة ولا تتطلب إبداعا، فلا يمكن لواحد مثل نجيب محفوظ أن يرسم الآن شخصية ” محجوب عبد الدايم” ليكتب رواية مثل القاهرة الجديدة. يكفى أن ينظر أى واحد منا حوله ليجد ألف “محجوب عبد الدايم” دون حاجة أن يقرأ رواية.
ثانيا : إن تواتر الفساد أصبح من الوضوح بحيث يلتقطه الأصغر مباشرة وهو فى أول السلم، مما يجعله يستسلم بنعومة تسهّـل عليه تحقيق طموحاته المشروعة وغير المشروعة، دون أن تهتز فيه شعرة. والخطير أنه لا يسمى الفساد باسمه، (أصبح اسمه الآن: الواقعية، أو الذكاء العملى، أو التكيّف، أو حتى النجاح)، كما أطلق عليه بعد ذلك أسماء التدليل من اللغة الجديدة بدءا من “أبّجنى تجدنى “، وليس انتهاء بـ ” ظرّفنى تعرفنى”.
ثالثا: الجديد أيضا هو أن الأستاذ هويدى نبّه بشكل مبدع على برامج “الإفساد المنظم”، الذى تمارسها القيادات المسؤولة، سواء أسموه عطفا حميدا، أو تسهيلا لمعيشة الأصغر “الغلبان”، أو نوعا من الإشراك فى الوليمة حتى يسكتوهم عن النظر إلى ما هبر الكبير منهم (وحتى لا يلمزونه فى الصدقات).
رابعا : تضمنت هذه “التذكرة” (تذكرة هويدى: كلا إنها تذكرة، فمن شاء ذكرها، ليست قنبلة، ولا زلزالا) ) رفضا واضحا للمثل القائل “إذا كان بيتك من زجاج، فلا ترم الناس بالطوب”. ليحل محله ” إذا رميت الناس بالجمرات مشتعلة، فاعمل حساب ما سوف تكشفه وهى تضىء بيتك ضمنا “
خامسا : إنه جديد أيضا أن تنبه هذه “التذكرة” إلى أن كثيرا مـمـا كان يعتبر “رشوة”، أو “عمولة مشبوهة، أو” عطاء مشروطا” أصبح مقننا حسب نص ألفاظ القانون، وبما أنه : لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص (مبدأ الشرعية) فخذْ عندك !!. وقد انتبهت الشريعة الإسلامية إلى هذه الخدعة استلهاما من النص الكريم فى قوله تعالى “”بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره”، وأيضا اتباعا للحديث الشريف الذى معناه : أن من قـُضى له بحق ليس له، لمجرد أنه “ألحن بحجته”، فقد قضى له بقطعة من النار. بهذا الوضوح يفرق الإسلام بين صحة الأمر”دينا، وتقوى”، وصحتـه “قضاء وحكما تشريعيا”.
وأخيرا : فإن فتح هذا الملف هو دعوة لكى يقول كل واحد من موقعه (فى كل مهنة، ونقابة، وجماعة، ومؤسسة) بعض ما كتمه فى نفسه طويلا (مثلما فعل السيد الغضبان فى شأن الإذاعة والتليفزيون الوفد16 إبريل).
الإضافة والقياس
فإذا كان الأمر كذلك، فما دخْــل العولمة بهذا الجديد القديم ؟
المفروض أن الإنسان، إذ يرتقى، يحاول أن يتخلص من قيمه البدائية، ليكتسب قيما أرقى وأنقى، لكن الذى حدث فى الأغلب هو مجرد تغيير الأسماء مما أدى إلى خبث وسرعة انتشار القيم الأدنى فالأدنى تحت شعارات أحدث وأخطر، لأنها أكثر بريقا وأشد مراوغة:
حين يفتخر العالم بالتخلص من الاستعمار الصريح، ليستبدل به استعمار العقول، واستعمار الثقافات، واستعمار الوجدان، يصبح الخطر أعم.
بنفس القياس: حين يدعى المتحضرون التخلص من الرق، ثم لا يكون همّهم إلا ااستعمال كل إنجازات التكنولوجيا الحديثة لاسترقاق كل من لا يملك قدرة التنافس بأدواتهم، يصبح الجنس البشرى فى مأزق ألعن
إن خطر العولمة ليس فحسب : فى ضياع هوية الأدنى والأضعف، ولا فى سيطرة المال للمال حتى على الاقتصاد والحكومات، ولا فى ألعاب الشفافية المتحيّزة، وإنما أخطر الخطر هو تقنين وتبرير وتعميم القيم السلبية القديمة بإعادة صياغتها فى لغة خبيثة ملتبسة.
إن ما يفعله سورْس فى بورصات العالم، ينعكس تلقائيا على غش الطالب ابراهيم بركات أبو طاقية فى “أم جمّص” مركز ملوى. كذلك ما ينقضه السيد جورج دبليو بوش فى مجلس الأمن باستعمال حق النقض لترسيخ وتقنين الظـلم، يتردد صداه فى وعى الصحفى الصغير (والطبيب الصغير، وموظف الشهر العقارى ) فى بولاق أبو العلا.
إن الذى يحكم العالم الآن ليس هو السيد دبليو بوش أو حتى شارون، وإنما تحكمه ثلاثة غيلان عملاقة (1) شركات السلاح، (2)وشركات الدواء ثم (3) مؤسسات الإعلام والتواصل. ينضوى تحت هذه الغيلان الثلاثة سلسلة من المؤسسات دون استثناء المؤسسات الدولية مهما ادّعت الطهارة ورفعت شعارات الإنسانية.
إن الفساد الذى تكلم عنه هويدى فى الصحافة ليس أكثر مما يجرى فى منظمة الصحة العالمية، أو صندوق مكافحة “لست أدرى ماذا!!” (محليا، وأمريكيا، وعالميا).
إن فساد وإفساد عقول الأطباء الذى يتم عن طريق شركات الدواء، هو أخطر كثيرا من فساد الصحفيين والصحافة، إن الذى يباع ويشترى بواسطة هذه الشركات هو فروض شبه علمية ومناهج على المقاس، تشوه وعى الممارسين، وتزيف معارفهم، لتخدم المكسب المسعور، دون المريض ودون المعرفة.
(وهذا يحتاج إلى حديث مستقل).
الآن وليس بعد:
كلما زادت الكارثة عمومية زادت المسؤولية الفردية. ليس معنى أن السابقين المتمدينين المتعولمين يباركون هذا الفساد وينجحون به، وأننا نقلدهم رغم فشلنا به، أنهم مسؤولون عن فساد أخلاقنا. إن فساد العالم كله، ليس ذريعة لفساد أى فرد على حدة. ناهيك عن أمة بأكملها.”وكلكم آتيه يوم القيامة فردا” (مريم: 95).
إن الله سبحانه لن يحاسبنا على ما اقترف بوش، أو شارون، أو رئيس شركة لِلِى للأدوية، أو رئيس تحرير صحيفة الكرنك المصرية، أو رئيس دولة بروناى، أو جزر القمر، أو مصر.
ثم إننى على يقين من أنهم سوف يتبرءون من إفسادنا، ومعهم كل الحق، ولن تتاح لنا الفرصة لنعاملهم بالمثل، فعلينا أن ننتبه: إما أن نتبرأ منهم الآن، أو لن تكون ثمة فرصة أبدا.
“إْذ تبرأ الذين اتُّبِعوُ من الذين اتَّبَـعوا، ورأوْا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وقال الذين اتُّبـعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا”، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار”.