نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 5-12-2020
السنة الرابعة عشر
العدد: 4844
الفرق بين “فن المواجهة” و”فن الرشوة”
تناول ماساة الجنون فى الأعمال الأدبية متواتر بشكل لايحتاج إلى تذكرة، وان كان يحتاج يقينا – إلى إعادة نظر، ويختلف الفنان فى موقفه من هذه المأساة باختلاف زاويه تناوله من ناحية، وباختلاف عمق رؤيته ووظيفة فنه ومسئوليته من ناحية أخرى، وذلك على مستويات الابداع المختلفة بدءا بالتأليف، فالمسرح والسينما والتلفزيون .. الخ، وبديهى أن هنا اتناول من خلال تلك الأعمال المليئة بالسخرية أو قسوة الشفقة، تلك السخافات التى شاعت فيما يقحمه التليفزيون فى بيوتنا اقحاما، هو عمل نشوه به كل ماهو كريم فى الإنسان وهو يلطخ عقول صغارنا – بل وكبارنا – بدماء آلام البشر فى غباء قبيح، بل انى لا اتعرض بذلك للأعمال الفنية التى تتناول “أعراض الجنون” من هلاوس وخيالات وهوس واكتئاب من أول “هاملت شكسبير” حتى عمر: شحاذ نجيب محفوظ، ولكنى أشير هنا لعملين تعرضا لمشكلة الجنون فى جوهرها الوجودى، وفى تحديدها الصارخ في مواجهة ما يسمى بالحياة العادية أو السوية، وقد حاول كل منهما أن يتحدى موقف المجتمع وحكمه على الجنون من أساسه.
يعرض حاليا فى مسرح الطليعة بالقاهرة مسرحية هنرى الرابع (تأليف بيراندللو) وهى تتناول مشكلة الجنون من زاوية انسانية صارخة تلقى بالقفاز فى وجوه الناس العاديين بلا هوادة، ومنذ اكثر من عام عرض فيلم “وطار فوق عش الوقواق” عرضت فيه مشكلة الجنون من زاوية نقد الميكنة العلاجية، وبعض القهر الاجتماعى للمجانين، وبالرغم من أن العملين يبدو وكأنهما يقولان شيئا واحدا، أو كأنهما يسيران فى اتجاه واحد الا أن الفرق بينهما شاسع ودال فى نفس الوقت.
الصرخة فى المرآة:
يحاول بيراندللو فى هنرى الرابع أن يصرخ فى المجتمع الخائف المغمى عليه فى بركة التقاليد والمسلمات الباردة، فمسرحه يلقى بأمانة فى وجه المشاهد “أن فكّر وانتصر”، ولم أشعر ابدا انه قالها (كما سيأتى فى الوقواق) “تجنن ولا يهمك”، ان الجنون الذى عرضته هذه الفرقة من الشباب المصرى الرائع هو عصارة الألم النابض، وهو تحدى الميكنة المجنونة والخدر الرخو على حد سواء، وهو يصيح فى كل منا ان واجه ذاتك فى المرأة ولا تنزعج أن رأيت شخصا اخر لان هذا الشخص هو انت، ولن تكتمل إلاّ بهِ، او بنص كلام جميل برسوم (هنرى الرابع) لليلى سعد (ماتيلده) “هل حدث ان وجدت يوما فى نفسك نفسا غير نفسك؟ أم أنك كنت دائما نفس نفسك؟”، فيلخص بيراندللو فى حدس الفنان الأصيل نظرية تعدد الذوات فى كلمات هى الإلهام العلمى الفنى ذاته، الذى لم تقل به أحدث النظريات النفسية إلا مؤخرا، وهذه الصرخة فى المرآة هى التى نتجنبها جميعا، ولست ادرى ان كان خلو المسرح الليلة بعد الليلة هو دال فى ذاته على درجة هذا التجنب ام ان أسبابا مادية ومرحلية اخرى تساهم فى ذلك، ويالهفى على هؤلاء الشباب على خشبة المسرح وهم يتقنون ادوارهم فى صبر وروعة حتى ولو لم يخاطبوا إلا الحقيقة داخل أنفسهم أو يسجلونها على صفحة التاريخ، بدون نظارة أو تشجيع.
إن هذه المسرحية تؤكد وظيفة الفن فى اثارة المواجهة البناءة، حيث تنفذ الى داخلنا مباشرة تعمق الوعى بإضافة الجزء الأخر من وجودنا بحيث يخرج من كمونه فى عنف التحدى ولكن جنبا الى جنب مع وعينا الأصلى، وهذه هى المواجهة الحافزة على نمو الوعى وتحمل الغموض ثم التوليف الأعلى على مسار النمو، وبيراندللو – كعادته وكحياته – يثير عدة تساؤلات إيجابية من خلال هذا العمل مثل من المجنون ومن العاقل؟ (تعيشون جنونكم فى حالة من القلق الدائم دون وعى به أو إدراك له) وهو نفس السؤال الذى اثاره بوضوح اكبر فى مسرحيته “لكلّ حقيقته” ثم سؤال يقول ما هو الجنون ولماذا الخوف منه؟ لا شك أن تصديق مايقوله المجنون بلا تحفظ به مخاطرة عليه وعلى غيره، ومع ذلك فلابد من قبول ما وراء مرضه من ألم، وما يقوله بمرضه من احتجاج، لكنهم – عامة الناس – في الأغلب ينظرون إليه بعيون كلها خوف، فهو شخص يهز اساساً كل ما أقاموه داخل أنفسهم، هذا الفن يقول هذا هو الجنون: صور لم نستطع ان نأسرها اثناء النوم فتطاردنا بالنهار ترعبنا او تقطع الخيوط التى كبلت العقل ولكنها مازالت تربطه بأوهام مشكوك فى متانتها، وفى نفس الوقت يقدم العمل هجوما لاهوادة فيه على عقلية القطيع وترديد الكلمات القديمة، وفى كل لحظة نحس بدعوته لإعادة النظر والمواجهة وليس للاستسهال او الهروب، فهى صيحة تصل الينا عبر اتقان هؤلاء الشباب المصرى أن: “لا” “لا” حتى للشفقة أو النصائح الفوقية.
عش الوقواق .. والرشوة السهلة:
وعلى النقيض من هذه الدعوة العميقة للمواجهة، نجد العمل الاخر الذى لقى اقبالا جماهيريا شديدا، نجده يقول فى نفس المسألة قولا أخر، وإحساسى انه قدم رشوة للعاجزين عن المواجهة والمدعين الحرية، رشوة سهلة تبرر الجنون ولا تحترمه، بل ان هذا العمل كاد يؤكد أقسى وأجهل وأسخف نكتة قيلت فى هذا الشأن، وهى أن “المجانين فى نعيم” قدم هذا العمل الجنون لا بوصفه وجهة نظر “أخري” تحتاج للمواجهة، ولكن باعتباره حلاّ ممكنا ينبغي التعاطف معه وتمكينه من الاستمرار على أرض الواقع بألمه وغبائه وروعته معا، والغريب ان بعض الاطباء النفسيين الثقاة قد وصف هذا العمل ذا البعد الواحد بأنه افضل من حضور ثلاثة مؤتمرات علمية – .. والحقيقة انه رغم ما قدم من معلومات جيدة ونقد هام، إلا أنه كان فنا تبريريا مشوها شارك فى البدعة المسماة الحركة المناهضة للطب النفسى
فن المواجهة ..، وفن الرشوة:
وهكذا، ومن خلال تناول مأساة الجنون ذاته نجد الفرق الشاسع بين فن وفن:
فن مسئول نحن فى اشد الحاجة اليه وفن مستسهل بهددنا بخطر تخديرى محدق
فن نخرج منه وقد زادت زاوية وعينا درجة واتسع طريق مسئوليتنا خطوة، وفن نخرج منه وقد زادت جرعة تنويمنا كذبة ونفاقنا مشروعية.
هيا نسمى الاول: فن المواجهة ونسمى الثانى ”فن الرشوة”،
فن المواجهة فن يؤلم ويهز
وفن الرشوة فن يخدر ويخدع
فن المواجهة يواجه الحقيقية بجانبيها معا،
وفن الرشوة يفصم الوجود ويبرر الانشقاق
فن المواجهة يثير قضية تحتاج الى عمل،
وفن الرشوة يحل قضية بتفكيك اجزائها، ومن ثم الشلل
فن المواجهة يرينا الجانب الاخر من وجودنا “ايضا”،
وفن الرشوة يخفى عنا الجانب الأول من وجودنا “اصلا”
فن المواجهة يتحذانا لكى نفعلها “جميعا”
وفن الرشوة يعفينا من أن نتحمل مسئولية وجودنا “معا”
فن المواجهة وقود الحقيقة الانسانية الاصعب،
وفن الرشوة هو افيون المتحمسين والمتعصبين والمتشنجين.
يا ترى هل نواجه وجودنا الاعمق لنمضى أعلى؟ أم نقبل الرشوة وننام فى العسل؟
[1] – نشرت بالأهرام بتاريخ: 11– 1- 1979