الاهرام: 11 / 1 / 1979
الفرق بين “فن المواجهة” و”فن الرشوة”
تناول ماساة الجنون فى الأعمال الأدبية متواتر بشكل لايحتاج إلى إثبات، وان كان يحتاج يقينا – إلى إعادة نظر، ويختلف الفنان فى موقفه من هذه المأساة باختلاف زاويه تناوله من ناحية، وباختلاف عمق رؤيته ووظيفة فنه ومسئوليته من ناحية أخرى، وذلك على مستويات الابداع المختلفة بدءا بالتأليف، فالمسرحية والسينمة والتلفزة .. الخ، وبدهى أنى لا أعرض هنا لتناول الجنون من خلال تلك التفاهات المزرية المليئة بدناءة السخرية أو قسوة الشفقة، تلك السخافات التى شاعت فيما يقحمه التليفزيون فى بيوتنا اقحاما فيشوه به كل ماهو كريم فى الأنسان اذا يلطخ عقول صغارنا – بل وكبارنا – بدماء الام البشر فى غباء مزر، بل انى لا اتعرض كذلك للأعمال الفنية التى تتناول “أعراض الجنون” من هلاوس وخيالات وهوس واكتئاب من أول “هاملت شكسبير” حتى عمر، شحاذ نجيب محفوظ، ولكنى اعرض هنا لعملين تعرضا لمشكلة الجنون فى جوهرها الوجودى، وفى تحديدها الصارخ لبديلها فيما يسمى بالحياة العادية أو السوية، وقد حاول كل منهما أن يتحدى موقف المجتمع وحكمه على الجنون من أساسه.
اذ يعرض الأن فى مسرح الطليعة بالقاهرة مسرحية هنرى ا لرابع (تأليف بير اندللو) وهى تتناول مشكلة الجنون من زاوية انسانية صارخة تلقى بالقفاز فى وجوه الناس العاديين بلا هوادة، ومنذ اكثر من عام عرض فيلم “وطار فوق عش الوقواق” عرضت فيه مشكلة الجنون من زاوية نقد الميكنة العلاجية، وتحد للقهر الاجتماعى للمجانين، وبالرغم من أن العملين يبدو ان وكأنهما يقولان شيئا واحدا، أو كأنهما يسيران فى اتجاه واحد الا أن الفرق بينهما شاسع ودال فى نفس الوقت.
الصرخة والمرأة :
يحاول بيراندللو فى هنرى الرابع ان يصخر من المجتمع الخائف المغمى عليه فى بركة التقاليد والمسلمات الاثمة، ومسرحه يصرخ بأمانة فى وجه المشاهد “ان فكر وانتصر”، ولم أشعر ابدا انه قالها (كما سيأتى فى الوقواق) “نجنن ولا يهمك”، ان الجنون الذى عرضته هذه الفرقة من الشباب المصرى الرائع هو عصارة الألم النابض، وهو تحدى الهزيمة المجنونة والخدر التأمل على حد سواء، يصيح فى كل منا ان واجه ذاتك فى المرأة ولا تنزعج ان رايت شخصا اخر لان هذا الشخص هو انت، ولن تكتمل الأية، او بنص كلام جميل برسوم (هنرى الرابع) لليلى سعد (ماتيلده)، هل حدث ان وجدت يوما فى نفسك نفسا غير نفسك؟ أم أنك كنت دائما نفس نفسك؟ “فيلخص بيراندللو فى حدس الفنان الأصيل نظرية تعدد الذوات لا تجزؤ الذات فى كلمات هى الالهام العلمى الفنى ذاته، الذى لم تقل به أحدث النظريات النفسية الا مؤخرا، وهذه الصرخة فى المرأة هى التى نتجنبها جميعا، ولست ادرى ان كان خلو المسرح الليلة بعد الليلة هو دال فى ذاته على درجة هذا التجنب ام ان أسبانا حضارية ومرحلية اخرى تساهم فى ذلك، ويالهفى على هؤلاء الشباب يتقنون ادوارهم فى صبر وروعة حتى ولو لم يكلوا الا الحقيقة داخل انفسهم او يخلوها على صفحة التاريخ.
ان هذه المسرحية تؤكد وظيفة الفن فى اثارة المواجهة البناءة، حيث تنفذ الى داخلنا مباشرة تعمق الوعى باضافة الجزء الأخر من وجودنا بحيث يخرج من كمونه فى عنف التحدى ولكن جنبا الى جنب مع وعينا الأصلى، وهذه هى المواجهة الحافزة على نمو الوعى وتحمل الغموض ثم التوليف الاعلى على مسيرة النمو وبيراندللو – كعادته وكحياته – يثير عدة تساؤلات ايجابية من خلال هذا العمل مثل من المجنون ومن العاقل؟ (تعيشون جنونكم فى حالة من القلق الدائ دون وعى به او ادراك له) وهو نفس السؤال الذى اثاره بموضوح اكبر فى مسرحيته “لكل حقيقته” ثم سؤال يقول ما هو الجنون ولماذا الخف منه؟ (تصديق مايقوله المجنون امر مستحيل، ومع ذلك ينصتون اليهم بعيون كلها خوف ومع شخص يهز اساس كل ما اقمتموه داخل انفسكم، اليوم بصورة وغدا من يدرى على اى صورة) واخيرا يقول هذا هو الجنون (صور لم نستطع ان ناسرها اثناء النوم فتطاردنا بالنهار ترعبنا او تقطع الخيوط التى تفككت بالعقل ولكنها مازالت تربطه باوهامه وفى نفس الوقت هجم لاهوادة فيه على عقلية القطيع وترديد الكلمات القديمة وفى كل لحظة نحس بدعوته لاعادة النظر والمواجهة وليس للاستسهال او الهروب، فصيحة تصل الينا عبر اتقان هؤلاء الشباب المصرى ان “لا” “لا” حتى للشفقة او ادعاء تانيب الضمير.
عش الوقواق .. والرشوة السهلة:
وعلى النقيض من هذه الدعوة العميقة للمواجهة، نجد العمل الاخر الذى لقى اقبالا جماهيريا شديدا، نجده يقول فى نفس المسألة قولا أخر، فاحساسى به انه قدم رشوة للعاجزين عن المواجهة والمدعين الحرية، رشوة سهلة تبرر الجنون ولا تحترمه، بل ان هذا العمل كاد يؤكد اقسى وأجهل نكته قيلت فى هذا الشأن، وكأن “المجانين فى نعيم” فعلا؟!! اذا قدم الجنون لا بوصفه وجهة نظر “أخري” تحتاج للمواجهة، ولكن بوصفه النقيض الحر (الحرية اياها) لمسئولية الاستمرار على أرض الواقع بألمه وغبائه وروعته معا والغريب ان بعض الاطباء النفسيين الثقاة قد وصف هذا العمل ذا البعد الواحد بأنه افضل من حضور ثلاثة مؤتمرات علمية – .. والحقيقة انه رغم ما قدم من معلومات حقيقية ونقد هام الا انه كان فنا تبريريا مشوها شارك فى البدعة المساة الحركة المناهضة للطب النفسى
فن المواجهة ..، وفن الرشوة:
وهكذا، ومن خلال تناول مأساة الجنون ذاته نجد الفرق الشاسع بين فن وفن:
فن مسئول نحن فى اشد الحاجة اليه وفن مستسهل بهددنا بخطر تخديرى محدق
فن نخرج منه وقد زادت زاوية وعينا درجة واتسع طريق مسئوليتنا خطوة وفن نخرج منه وقد زادت جرعة تنويمنا كذبة وهيا نسمى الاول: فن المواجهة ونسمى الثانى فن الرشوة، فن المواجهة فن يؤلم ويهز وفن الرشوة فن يخدر ويخدع فن المواجهة يواجه الحقيقية بجانبيها معا، وف الرشوة يفصم الوجود ويبرر الانشقاق فن المواجهة يثير قضية تحتاج الى عمل، وفن الرشوة يحل قضية بتفكيك اجزائها، ومن ثم الشلل فن المواجهة يرينا الجانب الاخر من وجودنا “ايضا”، وفن الرشوة يخفى عنا الجانب الاول م وجودنا “اصلا” فن المواجهة يتحذانا لكى نفعلها “جميعا” وفن الرشوة يعفينا من أن نتحمل مسئولية وجودنا “معا” فن المواجهة ه وقود الحقيقة الانسانية الاصعب، وفن الرشوة هو افبون المتحمسين والمتعصبين والمتشنجين.
يا ترى هل نواجه وجودنا الاعمق لنمضى أعلى أم نقبل الرشوة وننام؟