الوفد: 31/1/2002
الفراغ يولـّد الفراغ
أحاول فى هذا المقال أن أرد على قارئ صديق اعترض على عبارة وردت فى المقال السابق تقول “..إن الجريمة الحقيقية هى فى الفراغ السياسى الذى يتزايد يوما بعد يوم” “جاءت هذه الجملة بعد ما يلى: “إن الخطيئة السياسية الكبرى التى نعيشها لا تتمثل فى أخطاء الحكومة، فأى حكومة تخطئ وتصيب”.
كان اعتراض صديقى على أنه علىّ أن أركّـز على أخطاء الحكومة مثل غيرى، وألا أكون متسامحا هكذا وأنا ألتمس لها العذر بأن “أى حكومة تخطئ وتصيب”، ثم مضى صديقى فى مزيد من تنويرى قائلا: أما كلامك عن الفراغ السياسى فهذا “كلام نظرى”لن يفهمه أحد، ولن يلتفت إليه أحد”. صديقى هذا مواطن صالح، جامعى، ناجح ، متخصص، يقرأ الصحف أحيانا ويفرش أسنانه كل صباح بمعجون به فلورايد كاف، صديقى هذا يعتبر الكلام عن “الفراغ السياسى”كلام نظرى، وبالصدفة هو عضو فى الحزب الوطنى، هو نفسه لا يعرف متى أصبح عضوا، كل ما يذكره أن ذلك كان بناء عن توصية صديق مهم، كان يسهل له أمرا إداريا يوما ما، وصديقى المحتج لم يكن يعنيه آنذاك أن يفهم ما علاقة أن يكون عضوا بهذا الحزب بتسهيل مهمته تلك، لكنه وافق الرجل المهم ، وقضيت حاجته، فما الداعى للحديث عن “الفراغ السياسى”؟
أنا لا أدّعى أننى أعرف ماذا يجرى داخل ما يسمّى الحزب الوطنى، أعرف أن هناك مبنى جميلا على الكورنيش بجوار فندق هيلتون النيل، مكتوب عليه لافتة تشير إلى أن ما يشغله هو هذا الشىء الهام صاحب الاسم الظاهر على الواجهة “الحزب الوطنى”. سألت نفسى ذات مرة : لماذا على كورنيش النيل، ولماذا بجوار الهيلتون، مع أن الشعب، عامة الشعب، أغلب الشعب،لا يعرفون شيئا عن مزايا هذا الموقع، وجمال المنظر الذى يطل عليه. قلت لنفسى مترددا بعد هذا الاعتراف: كيف أسمح لنفسى أن أنكر شيئا لا أعرف عنه ما يكفى؟ مرّة اعتبرته حزبا تحت التأسيس المستمر، ومرة اعتبرته لم يوجد أصلا، ومرة اعتبرت أن عمره الافتراضى قد انتهى. لماذا ؟ بأى حق ؟
هل من حقى وأنا للأسف مواطن غير حزبى، أن أصدر مثل هذه الأحكام الساخرة أو العدمية على حزب يقال إنه يحكم البلد منذ ما يقرب من ثلاثين عاما ؟ أنا أعرف أفرادا أفاضل مخلصين متميزين ومختصين، أكاديميين وغير ذلك، هم أعضاء فى هذا الحزب، وهم أعضاء نشطون فى الأغلب لدرجة أن بعضهم أصبح وزيرا متميزا، وغير ذلك. لكننى كنت كلما التقيتهم، قبل أن يتولوا السلطة طبعا، كنت أبحث عن أى علامة فى حديثهم أو توجهاتهم أو مواقفهم تدل على أنهم ينتمون إلى حزب له طعم ولون ورائحة مميزة، فلا أجد أىا من ذلك، لكننى أظل على احترامى لهم، وتقديرى لشخوصهم دون حزبيتهم، ثم إننى لا أنكر ما يعترينى من إشفاق عليهم بعد أن يلوا السلطة، كان علىّ والأمر كذلك أن أراجع نفسى. ربما كان لهذا الحزب نشاط سرّى كذا أو كذا لم يصل إلى علمى.
أسمع من بعيد لبعيد أن نشاطات ما تتم فى هذا الحزب، نشاطات ثقافية وشبابية ، وخدماتية ، وربما رياضية، لكننى لست متأكدا من أن لهذه النشاطات أى علاقة بالسياسة ولا مؤاخذة، بل إننى لست متأكدا أن هؤلاء الشباب الظرفاء حسنى النية، وهم يمارسون هذه النشاطات تحت لافتة هذا الشىء، أى الحزب، يمكن أن يميزوا الفرق بين النادى والحزب، أو بين البرلمان ومائدة البلياردو، أكاد أن أرجّح أن أغلبيتهم، إن لم يكن كلهم لا يعرفون أصلا ما “هى السياسة”، ناهيك عن “لماذا السياسة”، لكنهم حزب وطنى مائة فى المائة.
لى قريب وقريب، رحمهما الله وأسكنهما الجنّة، خدم كل منهما حكومة الحزب الوطنى ورجالاته خدمة العبد للسيد (هذا قول شعبى يحمل معنى الإخلاص وليس العبودية). واحد وصل إلى قرب قمة وزارة الداخلية ، والآخر ولىَ عدة مناصب رئاسية، وبرلمانية، ومثّلنا خارج مصر فى منصب قومى هام. وكان الاثنان أعضاءا عاملين جدا فى هذا التنظيم المسمى بالحزب الوطنى. ثم إنهما كانا- والحمد لله-على درجة من الكفاءة والشرف والأمانة كافية لأن ترشحهما لخدمة هذا الوطن فى أى موقع . لظروف لا أعرفها رفض الحزب ترشيح أى منهما فى الدورة قبل السابقة، فرشحا نفسيهما مستقلين، وحدثت القصة المعادة: قبل الانتخابات سألت كلا منهما على حدة ، هل إذا نجحتَ سوف تظل مستقلا أم سوف تصبح من نواب الحزب، فأجاب كل منهما على حدة، لا بد أن أنضم للحزب لأستطيع أن أخدم الناس الذىن انتخبونى، وإلا كيف أرد لهم الجميل؟ لم أعلّق، وحمدت الله أن دائرتى الانتخابية كانت بعيدة عن كليهما، لأننى نويت ألا أنتخب أيا منهما واعتبرت ما يعلنانه خداعا صريحا لمن انتخبهم دون مرشح الحزب. أعرف أن هذا الموقف قد تناولته الأقلام، بل وساحات القضاء بعد الانتخابات الأخيرة، وأعرف أنه قد أثيرت المسألة من الناحية الأخلاقية والقانونية بما لا يحتاج لإعادة، لكن لا هذا ولا ذاك هو مغزى رواية هذه القصة هنا الآن. إننى أقصد أنه حتى هذه الفئة المخلصة المتميزة من المواطنين، وإن كانوا من الحزب الوطنى شخصيا، وإن تولوا ما ولوا من مناصب، هم لا يضعون ما هو “سياسة”فى موقع مناسب من اهتماماتهم ومسئوليتهم و هدفهم. المسألة تتعلق أساسا بالرغبة فى خدمة أهل الدائرة ما أمكن ذلك. خدمتهم فى التعيين فى الوظائف، والسفر للعمرة والحج، والعلاج على حساب الدولة. أما السياسة بالمعنى الذى عشناه فى الأربعينات والذى تعيشه أوربا بما أوصلها أخيرا إلى توحيد العملة، فهذا أمر يأتى أو لا يأتى حسب الظروف.
إسأل أى واحد من هذا الحزب (إذا عرفَ أنه من هذا الحزب) ما موقف الحزب من الانتفاضة، أو تحديد إقامة عرفات، أو الاستيراد من الصين وغير الصين (حتى الثوم، والفول المدمس، وعصير الطماطم) فإذا كان مهذبا وصادقا، وكثير منهم كذلك ، فإنه سوف يرد عليك أنه لم تصدر إليه تعليمات محددة من الحزب فى مسألة الانتفاضة، وربما قال لك أنه – أنهم – ينتظرون قرارات مؤتمر القمة دون تحديد أى قمة، كما لم تصدر تعليمات حزبية بشراء ما صنع بمصر، وأنه حتى لو صدرت، فهو يعرف مصلحته، ويحول جنيهاته إلى دولارات، من يدرى ؟، ثم إنه لدماثة خلقه وإخلاصه لصداقته لك قد ينصحك أن تحذو حذوه ..إلخ . فإذا ظهر عليك أى نوع من التعجب طمأنك أنه لا خوف على حكومة الحزب فهى سوف تدبر نفسها مهما حدث، لأنهم حكومة من أهل الثقة، وهو يثق فيها بدوره، وعلينا أن نثق فى قدرتها باسم الله ماشاء الله.
[لاحظ أننى لا أتطرق إلى من يصرف الملايين أثناء الترشيح ليقبض مقابل ذلك بضع مئات من الجنيهات شهريا مع أنه ليس من ضعاف العقول، ولا أتحدث عن نواب القروض، تاركا ذلك لصفحة العصفورة أو مباحث أمن الدولة. إن حديثى كله عن حسنى النية الشرفاء فى الحزب، ومدى معرفتهم بما هو سياسة “من أصله”…] .
للسياسة طعم ولون ورائحة
للسياسة الحقيقية حضور تلقائى فى وعى الناس العاديين، للسياسة طعم ولون ورائحة تطل جميعها فى السلوك اليومى. السياسة بالذات ليست نشاطا رسميا ينزل من أعلى، ولا هى نشاط كامن دورى يظهر قبيل كل انتخابات، وحتى ما يظهر مع الانتخابات لم يعد له علاقة بالسياسة. ولكنه انقلب إلى “صفقات”، أو “خدمات فردية”.
كنتَ زمان (حوالى 1949) إذا جلستَ على مصطبة فى بلدنا تستطيع أن تميّز لون الجالسين السياسى دون أن تعرف أسماءهم ودون أن يحملوا بطاقات هويتهم السياسية !!، تميز الشيخ محمد أبو عبد الحافض (يعنى عبد الحافظ) أنه وفدى صرف، كان جهورى الصوت يتابع أخبار البلد بكل التفاصيل، وهو كفيف لا تصله الأخبار إلا من وفدى آخر هو أحمد أبو نوار بائع الصحف، فى نفس الجلسة كنت تستطيع أن تميّز الإخوانى الذى يحلم بالحكم بما أنزل الله، بغض النظر عن مدى معرفته بما أنزل الله، وكنت تستطيع أن تميز وكيل شيخ الغفر الذى ينتمى إلى العائلة المنافسة الناحية الأخرى، تعرفه حين يتلمظ غيظا من حماس الشيخ محمد أبو عبد الحافظ، وأحمد نوار، ليدلى برأيه فى قوة الملك وقدرته على الاتصال بالإنجليز ليسهل حال البلد ويسكت أصوات الغوغاء، فتعلم أنه إما سعدى أو أحرار، وهكذا. بل إن هذا المجلس لا يعدم أن يحضره أحيانا زميل من زملائنا لم يتخط الخامسة عشرة من عمره ليدافع عن “أنصار السلام”، ويحلم بالعدل والمساواة ، فتعرف لونه اليسارى ولا تتهمه بالكفر ، رغم لمز الشيخ محمد أبو عبد الحافض وذكر أصله وفصله. أنا لا أحكى ذلك لتعظيم النظام قبل الثورة. كل ما أقصده أن وجود الشارع السياسى من عدمه ليس له علاقة ببيانات الحكومة، ولا بأغلبية حزب ما فى مجلس الشعب أو البرلمان، ولا ببيانات وتوجيهات الصحف القومية، ولا بمقالات وانتقادات صحف المعارضة.
يمكن أن تتبين حجم الشارع السياسى( وجوده أو عدمه) من على مقاعد المقاهى، وفى أحواش المدارس الثانوية في الفسحة الطويلة، إن وجدت، وفى حرم الجامعة، ومع تجمعات الناس التلقائية المواكـِبة للأحداث المهمة، وأثناء النقاشات الحامية فى العائلة الواحدة داخل البيوت بعد بيانات الحكومات، أو دونها. فإن مررت على أى من هذه الأماكن والاجتماعات ولم تجد من يطرق المواضيع العامة أصلا (اللهم إلا ما يتعلّق بالأسعار) ، وإذا لم تستطع أن تتبين أى اختلاف يميز اللون السياسى لهذا المتحدث من ذاك، فاعلم أنه لا يوجد شارع سياسى.
تفريغ الوعىبالوطن من وجود الناس
بالرغم من كل ذلك فإننى مع الرأى القائل بأن الحزب الوطنى أصبح يمثل الشعب المصري بما صار إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ، ذلك أن المفهوم المسمى “الشعب المصرى”لم يعد له وجود سياسى بعد أن تمّ تهميشه، أوترويضه، أو رشوته ، والاستغناء عن خدماته، تصورت يوما أننى أوقفت شابا يركب “موتوسيكله”ذى الأربع عجلات فى مارينا وسألته عما يعرفه عن شىء اسمه “الشعب المصرى”، وتوقعت أنه سوف يرفع حاجبيه دهشة وهو يعتقد أننى أتكلم لغة أجنبية، أوربما التفت إلى البنت التى تركب وراءه وهى تحيط جسمه كله بكل ذراعيها مع أنها لا تخشى الوقوع، يلتفت إليها ويهمس لها أننى رجل “بيئة”، أتكلم كلاما “خارجا”، ولا مؤاخذة. قس على ذلك موقف أبناء وبنات كل من: سكان المنتجعات الجديدة، مقارنة بالتجمعات العشوائية، وأولاد التجمع الخامس مقارنة بأبناء المسطحين فوق أسطح القطارات، وبنات ركاب ميكروباصات الموت. أتصوّر أن هذا الجيل الصاعد على اختلاف مواقعه لا ينتمى حتى إلى الحى الذى يسكنه. قد ينتمى بعض الوقت إلى المدرسة التى يتردد عليها إذا كانت من مدارس اللغات والتى عادة لا يعرف كيف يكتب اسمها باللغة العربية. حتى إذا كتبه فهو يكتبه لا تينيا بحروف عربية ، سكول (يعنى مدرسة) ، وهاوس (يعنى بيت) . حتى المدارس الإسلامية التى تـُحجـِّب طالباتها من سن ثمان سنوات يبدأ فيها تحفيظ القرآن فى مرحلة كى جى تو (وليس ثانية روضة). أين يقع الشعب المصرى عند كل هؤلاء؟
كل هذه المظاهر التى لا تـَخـْفَى تشير إلى أنه قد تم تفريغ الوعى المصرى من حق المشاركة فى الهم العام، والمسئولية العامة، والقرار العام الذى يعود حتما على كل فرد بآثاره بطريق مباشر أو غير مباشر. بل إننى لا أبالغ إذا قلت إن رجال الحزب الوطنى أنفسهم لا يمكن أن يكون للمفهوم الذى تحتويه كلمة “الشعب”معنى غير عدد الأصوات الانتخابية الصحيحة والمزورة، التى تظهر على السطح أثناء الانتخابات ثم تختفى.
الفراغ يولـّد الفراغ
من حق سائل أن يسأل بعد كل هذا سؤالا يقو ل: إذا كان الحزب الوطنى هو مشروع وهمى (على الأقل من وجه النظر السياسية !!!!!) ، فلماذا لا تقوم الأحزاب الحقيقية الأخري بدورها بغض النظر عن سلبيات أو غياب الحزب الوطنى؟ أقررُت قبل ذلك أننى لا أشرف بأننى مستقل، لكننى لا أستطيع غير ذلك، ومع كل احترامى لكل الأحزاب التى تحاول طول الوقت ، إلا أننى أعرف يقينا أن الفراغ يولد الفراغ، وأن أى إنسان له طاقة وحدود، مهما كانت مبادئه قوية وصحيحة. إننى حين أتأمل الوضع القائم، وكيف تستعمل حكومة الحزب الوطنى أحزاب المعارضة كواجهة تتصور أنها تخدع بها ناس الخارج، أشفق على هذه الأحزاب تماما . جرجر الحزب الوطنى رجال الأحزاب الأخرى إلى التنافس لخدمة مصالح الأفراد، دون أولويات الاهتمام بالبرنامج السياسى البديل، وهى معركة غير متكافئة، تصور معى نفسك وأنت تذهب لقضاء مصلحة ما فى مكان حكومى ، حتى لو كانت مصلحة علاجية، وسوف تجد نواب الحزب الوطنى وخلفهم جماهير دائرتهم من أصحاب المصالح يقفون فى طوابير متميزة، وقد تجد نائبا وفديا طيبا وقد اصطحب عجوزا من دائرته لقضاء حاجته أيضا، وسوف تكتشف دون أى عناء كيف تسخر مصالح الدولة لرجال حزب الحكومة دون غيرهم. لقد اضطروا المعارضة اضطرارا أن تتكلم نفس اللغة غير السياسية، وأن تركز على خدمة الأفراد أكثر مما تدافع عن صلابة البرنامج، وأن ترشو الغرائز الدينية (وليس الدين) للحصول على التأييد بغض النظر عن البرامج الواقعية القابلة للتطبيق .
إن ما يسمّى الحزب الوطنى، قد سنّ سنة من أخطر ما يمكن على البلد والناس والمستقبل، وعليه وزرها ووزر من عمل بها (أحزاب المعارضة) إلى يوم الدين. باختصار شديد ، منذ منظمة التحرير والاتحاد الاشتراكى، ثم المنابر، فحزب مصر ، فالحزب الوطنى شطبت كلمة السياسة من الشارع المصرى، ولم يتبق على الرغم من جهود المخلصين فى كل موقع، إلا صحف ناقدة (مدحا وقدحا) وشعارات مسكّنة تغلب على ما يسمى الصحف القومية.
إذن ماذا ؟
لا أستطع أن أهرب من مواجهة ما أتوقعه من القارئ لو صدّق ما قدمت من رؤية ، لأن نفس التساؤل يقفز إلى ذهنى شخصيا وأنا أكتب. تساؤل يقول إذا كان الوعى الشعبى قد تم تفريغه إلى هذا الحد، وكان الشارع السياسى الحقيقى كاد يختفى تماما، فما العمل ؟ الإجابة الجاهزة طول الوقت، حتى من حاملى شعار “الإسلام هو الحل”، الاجابة تقول إنه ليس أمامنا إلا الديمقراطية حلاّ. لا أجد فى نفسى ميلا أن أسـُتدرج بهذه السهولة إلى ترديد ذلك مع أننى شخصيا ليس أمامى حل آخر فى الوقت الحالى، لكننى أنبه طول الوقت أن من يزعم ذلك إن كان صادقا، عليه أن يتحمّل دولة من المحجبات والمعتمرين ، وليس من الأحرار المسلمين الموحدين المبدعين، إن ما فعلته خمسين عاما بنا قد اختزل السياسة إلى الحزب الوطنى الذى ليس له وجود أصلا، كما اختزل – دون قصد – الإسلام إلى حجاب وعمرة، مع أن الإسلام هو حرية التوحيد و”لا كهانة”المؤسسات .
إذا كان معنى ذلك أنه لا يوجد حل، فالنتيجة أن علينا أن نتحمّل هذا الشىء المسمى الحزب الوطنى، مهما كان فارغا ومفرغا، فلماذا كل هذا المقال ؟
إصرار
أعترف بأزمتى التى لا ترحمنى وأنا أصر على تفاؤل لا تدعمه إلا ثقتى بالإبداع وبالإنسان وبالزمن وبالله وبالخير الحزب الوطنى هذا، حتى لو كان هو السوء نفسه، لن يرحل بخاطره، ولن تأتيه مصيبة تأخذه، ولكنها قد تأتينا بسببه. وحتى إذا رحل أو زعم الرحيل، تاركا لنا كل هذا الفراغ، فقد يفعل ذلك خداعا وهو يكرر سيناريو تغيير الأسماء مثلما حدث من حزب مصر إلى الحزب الوطنى. فقد ينشأ هو هو تحت اسم جديد ربما يكون “الحزب الأهلى الزينبى”، ظانا بذلك أنه إنما يستقطب كل أهلاوية مصر وهم الأغلبية، ومحاسيب السيدة زينب رضى الله عنها وهم أغلبية أيضا، كما أنه بذلك يفسر ترحيب الحزب الوطنى بتكريم النادى الأهلى فى مجلس الشعب، كما يسكت الأغلبية الحقيقية التى تزعم أن الإسلام هو الحل، لأن السيدة زينب ترمز إلى ما يريدون، وخذ عندك خمسين سنة أخرى.
إن أزمة الديقراطية التى لا أريد أن نكتفى بترديد أنها الحل دون الوعى بحقيقة ما آلت إليه ليست خاصة بمصر، إنها أزمة عالمية تطورية حقيقية. ليس معنى أن الديمقراطية تمرّ بأزمة خطيرة أن نتخلّى عنها، ما دامت هى الممكن الحالى، لكن ينبغى أن نتكاتف حتى مع من بدأوا يتخلون عن تقديسها ، لعلنا نجد ما يطورها ليجعلنا مشاركين بحق، وبالتالى مسئولين بحق.
أحلام واقتراحات
إننى أحلم بإمكانية استغلال الإنجازات الأحدث فى ثورة التوصيل والمواصلات ، لتحقيق هرم ديمقراطى متواصل التصعيد يوصلنا إلى ما يشبه الديمقراطية المباشرة . أحلم بديمقراطية لا مركزية، تجعل كل فئة صغيرة قادرة على إشراك أفرادها فى اتخاذ قراراتها الصغيرة ، وتحمل مسئولية اتخاذ القرار، ثم يتوالي تصعيد قرارات هذه الديمقراطيات اللامركزية الصغيرة ليتجمّع فى قرارات أكبر وأكبر. أحلم بأسلوب لممارسة الحرية يوازن بين مساحة الوعى ومستوى القرار، أحلم بأسلوب يقلل من تشويه وعى العامة بوسائل الإعلام الخاضعة للمال والمغتربين بالسلطة. أقرص قلمى حتى أكاد أقصفه منبها إياه أن الحلم ليس هو الحل، وأن الناس لن تنتظر تحقيق حلمى اللامركزى الاتصالاتى، وأن الحزب الوطنى جاثم على أنفاسنا طول الوقت رغم أنه “ليس بشىء”. فأنتقل إلى اقتراحات أظرف تقول:
الاقتراحات
(1) تجرى الانتخابات بالقائمة، فتقل المصالح الشخصية وترجح كافة المبادئ والبرامج، (2) يلغى الحد الأدنى لتمثيل الأحزاب (3) يوضع حد أقصى لأى حزب، وليكن 65% (أى لا يزيد عدد مقاعد أى حزب منفرداً عن 65 %) .
يبدو هذا الاقتراح غريبا، لكنى أتصور أنه يلوح بالحيلولة دون الدكتاتورية البرلمانية، كما يلوح أيضا باحتمال تداول السلطة. فكّروا قبل أن ترفضوا، ولنتذكر كيف خاف الإنجليز على ديمقراطيتهم حين فازت مسز تاتشر بأكثرمن 60%.
الأمر صعب، ومن حقنا أن نشطح ونحلم، حتى نبدع ونتطور، وسيحدث.