نشرة “الإنسان والتطور”
18-8-2010
السنة الثالثة
العدد: 1083
الغنيوة الثانية (الفصل الثالث)
الخلاص
مقدمة:
هذه هى القصيدة الأخيرة قبل قصيدة الخاتمة، يا رب سهل !
سبق أن كتبت فصلا بأكمله بعنوان “أمى” فى الترحال الثالث من ترحالاتى (سيرة ذاتية فى أدب رحلات)، ولا أجد عندى رغبة أن أضيف كثيرا أو قليلا فى هذه المنطقة. لكن هذه القصيدة ليست هى أمى بقدر ما هى رحلتى شخصيا وأمى فى خلفيتها. أفضل لو بدأ القارئ بقراءة ذلك الفصل وهو يحتوى هذه القصيدة ضمنا، كما يحتوى نقدى لنهايتها مما سوف أورده غالبا فيما يلى من حلقات.
لكن هذا الشرح على المتن يهتم أكثر بربط هذه القصائد بما هو علاج نفسى، وأنا أتساءل الآن وأنا على وشك الانتهاء من العمل،
هل هو حتم علىّ أن أفتعل هذا الربط حتى لو لم يرد تلقائيا؟
ربما كان الأمر كذلك، وإلا لماذا هذا الكتاب كله أصلا ؟
تبدأ القصيدة بحوار مع أمى هكذا:
-1-
- ليه يامَّه؟ كان ليه ؟
لما انتى ما “نتيش” كان ليه ؟
أنا ذنبى إيه ؟
أنا مين ؟ أنا فين ؟ أنا كام يامَّه؟
أنا إيه ؟
= جرى إيه يا ابنى يا حبة عيني،
طب ما انت أَهُهْ !
بقى دا اسمه كلامْ
ما هو كله تمامْ
جرى إيه ؟!
تبدأ رحلة الوجود باعتراف الأم بأن وليدها قد أصبح خارجها، كيانا منفصلا عنها، بمجرد انتهاء وجوده لحما ودما داخلها، ينتقل الوليد من الرحم الجسدى، إلى الرحم النفسى، فى الرحم الجسدى تكون الحماية محيطة، وفى نفس الوقت الحركة طليقة، لكن ليس لها هدف إلا الحركة، كما يكون الأمان كاملا، أما وقد صارا جسدين بينهما مسافة، فإن الحركة تصبح محكومة “بحضور معا” على مسافة متغيرة، غير مضمونة، تحكمهما قوانين جديدة، مهددة أحيانا.
منذ حفل “السبوع” تلجأ الأسرة إلى التأكيد على الأم أن تشحذ انتباهها أن الكيان الذى كان بداخلها تماما، اصبح خارجها، أصبح كيانا مستقلا جسديا على الأقل، كبداية للحمل فالولادة النفسية، ذكرنا من قبل كيف أن السبوع بكل طقوسه المنظمة فى المكان والحركات والأهازيج تؤكد كلها هذه الرسالة.الكآبة التى تصيب الأم فى الايام الأولى للنفاس (حوالى 60 % Maternity Blues ) هى تفاعل طبيعى لهذا الانفصال، واستعداد مناسب لعلاقة بين الأم ووليدها من نوع آخر.
حتى تسمح الأم بهذا الانفصال، وتعترف بوجود هذا الكائن الجديد خارجها، وهو الكائن الذى حملته وهنا على وهن ثم وضعته بكل الألم الخلاّق، لا بد أن تكون هى “كائنة” حاضرة بشكل ما، أن تكون موجودة ساعية تعطى الغذاء العلاقاتى عبر الحبل السرى التواصلى، كما كانت تعطى خلاصة الاحتياجات الغذائية والتنموية عبر الحبل السرى داخل الرحلم، ولكن لكى تفعل ذلك بكفاءة لا بد أن تكون هى نفسها “كائن موجود قادر” يمارس علاقات الأخذ والعطاء. لكى “تعطى” هى فى حاجة أن تأخذ أيضا فى نفس الوقت، أو قبلا، من أى مصدر بشرى آخر: أمها عادة، وزوجها (والد هذا الوليد) أحيانا (يا ليت! فالمفروض أن يشارك الوالد الصحيح فى الحمل والولادة ضمنا بطريق غير مباشر)، حضور أم الوالدة (فعلا أو بديلها) هو حضور أساسى أثناء الولادة وقبيلها، الوالدة “تتقطّف” على صدرأمها أثناء المخاض بما يؤكد حاجة الأم أن “تكون” وهى تستعد لأن تعطى شهادة الكينونة للقادم الجديد، فإن لم “توجد” الوالدة أصلا بهذا المعنى الإنسانى الأساسى، فكيف ننتظر منها أن تعترف لغيرها (وليدها) بما تفتقر هى إليه جدا ،
تبدأ القصيدة هكذا:
ليه يامّه؟ كان ليه؟
لما انتى ما انتيش كان ليه؟
هذا اللوم : هل يعنى أن الأم التى “لم تكن” التى هى ليست “كائنة” فعلا بما هى الآن، لا تستطيع أن تعطى وليدها حقه فى الوجود كما ينبغى؟ الإجابة بالنفى طبعا. لا أحد يكون هكذا بما هو جاهزا للعطاء غير المشروط، وإنما نحن جميعا “نتكوّن” باستمرار، ولهذا لا يجوز أن نلوم أحدا على أنه لم “يكن”، خاصة الأم، (لما انتى مانتيش) لكننا ربما نلومه على أنه توقف عن أن “يتكون”، وهذا أيضا يكون فى حدود الفرص المتاحة، وقليلة هى هذه الفرص عادة ، وفى مجتمعنا خاصة بالنسبة للمرأة بالذات، لكن حاجة الطفل لا تحسبها هكذا، هو يريد الاعتراف بغض النظر عن تبريرا ت من حوله أو ظروفهم الواقعية.
أحيانا يولد طفل ما وعنده حاجة قصوى جاهزة للتأكيد على حق الاعتراف هذا (وذلك لأسباب وراثية أكثر من غيره)، وبالتالى يكون العيب فى “نهم برنامج احتياجه” أكثر من قلة مصادر رِيـِّه، ويواصل الطفل بوجه عام، وهذا الطفل بوجه خاص: صراخه المعلن عن حيرته الوجودية، وحاجته الأساسية بأى قدر من الاعتراف، بهذا الإلحاح المتسائل، فى كل اتجاه:
أنا مين ؟ أنا فين ؟
أنا كام يامَّه؟
أنا إيه ؟
تعدد الكيانات جاهز فى التركيب البشرى منذ البداية، “أنا كام؟ “، التساؤل هنا لا يقتصر على “أنا مين”؟ أو “أنا إيه”؟ ولكنه يمتد إلى “أنا كام؟. فى التحليل التركيبى structural analysis يولد الطفل زهو يحمل “مشاريع” الذوات كلها تقريبا، مشاريع بمعنى “برامج” تنتظر التشغيل والتشكيل والنمو، والتساؤل هنا لا يكون واعيا طبعا، لكنه وارد كامن. لا يطل هذا التساؤل عادة فى الوعى الظاهرإلا مع (1) بدايات الذهان، أو فى (2) أزمات النمو، أو مصاحبا (3) لإرهاصات الإبداع، تساؤل الطفل البدئى هنا هو نفس التساؤل، لكن دون ألفاظ طبعا، وأيضا بوعد فطرى كلى غير محدد .
ترد الأم بطيبة دافئة، وفى نفس الوقت بدهشة مفهومة :
= جرى إيه يا ابنى يا حبة عيني،
طب ما انت أَهُهْ !
بقى دا اسمه كلامْ !!!؟
ما هو كله تمامْ
جرى إيه !
“كله تمام” بمقايييسها الآملة، وفى حدود قدرات عطائهأ المتواضعة
ثم تنتقل الرسالة فجأة إلى مخاطبتها طفلها “الوالد” أملا داعما منتظرا، الأم تعتبر ابنها والدها أحيانا منذ الولادة.
رحلة البناء السرى (الطفل العملاق الطيب)، والتحمل العطائى (جمل المحامل) ، قد تتم حتى لو لم يأخذ الطفل حقه(1)، ولا يصل إلى الأم بعد نجاح الكائن الجديد أن ينمو، ويتحمل، ثم يستمر، ويحمل، إلا أنها ترى طفلها “الوالد” أصبح قادرا على العطاء، وأن عليه أن يستمد وجوده من التمادى فى هذا الدور الذى أوضحنا ثمنه بشكل شبه كامل فى النشرات السابقة (جمل المحامل) نشرات) : 28/7/2010 ، 4/8/2010 ، 11/8/2010)
الأم هنا تنكر تساؤلات ابنها الوالد، ولا ترى احتياجات ابنها “الوليد”، لكنها لا تتنكر لها، فهى لا تتصور أن هذا الوالد المعطاء إلا أنه قادر بالتالى على “التغيذية الذاتية ” بمواصلة العطاء، وأنه سوف يكتمل بمواصلة ذلك دون حاجة إلى هذه الوقفة وهذه التساؤلات وإعلان هذا الاحتياج هكذا، فهى تمضى تطمئنه وتبرئ نفسها:
= يا جدع يا أمير ياللى بـتــدِّى،
إوعى تهِّدى.
تَنَّكْ إدِّى
بكره تْعَدِّى.
ياسلام يا ولَدْ.
ما فى زيـك حدْ.
ماتفكَّرشى، دا الفكر مرارْ.
ودا بير يابنى وما لوهشى قرار.
- بسّ يامَّه لو قلتى ليه ؟
كان ليه ؟
= جرى إيه ؟ فيه إيه ؟
(كان ليه ؟ كان ليه ؟)
دِهْدِى! هيَّا! “عامْلََهْ”؟
وَّلا انا قصـدى ؟ دِهْدِى!!
تحتد الأم بحق على أنه حتى لو أنها عجزت أن تعطى وليدها اعترافا يستحقه، حتى لو أنها مسئولة ضمنا على هذه الوقفة ومحتوى هذا الاحتجاج، حتى لو أنه يلومها حبا وضعفا طبيعيا، فهى غير مدانة، وهى لم تقصد أيا من ذلك، لكن، لعل هذا هو غاية ما عندها
وإلى الحلقة القادمة
[1] – مجموعة هذه القصائد فى تصورى تتكامل ويمكن أن تجمع مستقلة لتبين نوعا من المسار يضطر كثير من الناجحين أن يسلكوه