نشرت فى الدستور
21-8-2008
تعتعة
العودة من المنفى: درويش، ذلك الشعر الآخر
الكلام لا يكون كائنا حيا إلا إذا كان شعرا،
والشعر لا يكون شعرا إلا إذا كان فعلا بعثا،
والفعل البعث لا يكون كذلك إلا إذا كان إيقاعا حيويا يترجح بين الثورة والأنغام، إيقاعا لا يتوقف حتى بعد أن تنتصر الحياة للحياة، تنتصر حتى بالموت،
الموت هو الختام البدء الرائع لمن حمل الأمانة شاعرا يتخلق منه وبه كون آخر، كون هو الواقع الأوقع من الواقع، وليس كما كان يناور الشاعر وهو يوهمنا أنه الحلم.
حين رثى أدونيس صلاح عبد الصبور (فصول أكتوبر 1981) قال: “… لا نعود نقوّم الشاعر بتشكيلاته الفنية أو تجزّءاته المرحلية، وإنما نقوّمه بمشروعه كاملا، بالطموح الذى يحركه، بالرؤيا التى يصدر عنها، والأفق الذى يفتتحه، والمعنى الذى يؤسسه”.
ثم عاد أدونيس يبكى رحيل درويش فى (جريدة الحياة: 11 الجارى) قال: “…كتب شعره كمثل كيمياء تحوّل الموت إلى حركة حية، وتخترع الشطآن حتى للقوارب المحطّمة. وحيثما اغترب، أقام عاصمة للأمل، جاعلاً من الشعر أرضا أخرى، وسماء أخرى”.
أما محمود درويش نفسه، فكان مِن آخر ما كتب “: (ابريل 2008«المجلة الثقافية»، تصدر عن الجامعة الأردنية)، ما قاله مصنـِّفا تشكيلات “النفى”:
أما المنفى الخارجيّ فهو انفصال المرء عن فضاء مرجعى، عن مكانه …”
…. أما المنفى الداخلي فهو غُرْبَة المرء عن مجتمعه وثقافته،
إلى أن قال: ” … باعتبار الوجود الإنساني كلّه شكلاً من أشكال المنفى، منذ أن عوقبنا نحن أحفاد حواء وآدم بالتاريخ!”
إذا كان الأمر كذلك، وهو عندى كذلك، فقد تدعم لدىّ مفهوم ملأنى حديثا يقول: إن الموت: هو الرجوع من هذا المنفى الذى اضطرتنا إليه ولادتنا، أو خروج جدنا وجدتنا من الجنة، هو الرجوع إلى الحياة فينا وبنا حين يختفى جسد أحدنا فيتلبس وعيه من تبقى منا ممن يحب الحياة كما أحبها أى واحد يعيش شاعرا حتى يكتب آخر أبيات قصيدته على هذه الأرض، بقرار هذا الموت الآخر، ليبدأ قصيدته الجديدة الممتدة التى لا تنتهى.
الإنسان، أى إنسان، لا يموت إن عاش شاعرا، كتب أو لم يكتب بيتا واحدا، إن كان قد واصل تجدده بالناس وفى الناس، لا ينفصل عنهم، خصوصا وهم فى بؤرة أحزانهم الخلاقة، يمارسون فرحة الولادة المتجددة، ليس بعيدا عن آلامهم الرائعة، ولا عن غنائهم الصداح، ربما هذا هو ما التقطه جارى الشاعر إبراهيم دواد (الدستور :الأسبوع الماضى) حين وصف درويش وكيف كان، “…سليل الحزن السماوى الذى جعل كلامه شعرا وصمته شعرا وتراجعه شعرا”.
استشهدت كثيرا بقول أدونيس فى رثائه لعبد الصبور “… ففى لحظة الشعر، خصوصا لحظة الموت – ذلك الشعر الآخر…إلخ “، ولم أكن قد عايشت بعدُ بقدر كاف ما أعايشه الآن – بفضل مرضاى وغير ذلك، وأنا بين الموت والشعر والأسطورة والجنس والجنون، أتعلم مع مرضاى وخبراتى الجديدة القديمة: كيف نحترم الكلمات، بتجاوزها، فتتخلق الحياة بلا وصاية، فهو الشعر.
من هذه الخبرات ومثلها، جعلت اللحظة الراهنة تتعمق فى وجدانى وأنا أتعلم سر الوجود والجنون والشعر والبعث، وصلنى كيف أن الموت هو انتقال الوعى الذاتى إلى الوعى الكونى تناغما واتصالا، ليكشف لى صديق، أن ذلك لم يكن جديدا أبدا، وأنه قول موجود فى متون هرمس مثلا، فعرفت أنه موجود فى متون كثيرة، حتى لو لم تكتب أبدا.
يا إلهى! المعرفة تتجدد، وقد تتحق واقعا، وقد تسبقنا لتصاغ فى ألفاظ – فى الشعر خاصة- قبل أن نعيشها.
حين كتبت سابقا كلمات تقول: “(2)… تدقُّ بابى الكلمة، أصدّها.، تُغافل الوعى القديم، أنتفضْ، أحاولُ الهربْ، تلحقنُى. أكونُها، فأنسلخْْ.(3) أمضى أغافلُُ المعاجِمَ الجحافلْ ْ، بين المَخاضِ والنحيبْ.، أطرحُنى: بين الضياع وَالرُّؤى، بين النبىَّ والعدَمْ، أخلّق الحياة أبتعث، أقولُنى جديدا، فتولًدُ القصيدةْ”. حين كتبت هذه الكلمات منذ ربع قرن (14/9/1983)، لم أكن متبينا حقيقة ما يمكن أن يكون وراء هذه الصورة: “بين النبى والعدم”، ولكن حين عاد محمود درويش من منفاه إلى رحابة المطلق، عرفت أنه لم يعد إلى رام الله، لكنه عاد إلى وعى الكون فينا، وأدركت ما وراء الصورة التى قفزت منى قبل أن تصل إلىّ.
إذا كان علينا أن نعترف بفضله، فلا بديل عن أن يواصل كل منا معركتنا ضد كل قوى الانقراض التى تحيط بنا، حتى كادت تتغلغل فينا.
لا ..، لا “أحب أن أبكى” كما عنون كلمته أدونيس،
أحب أن أفرح حزينا مسئولا، بين النبى والعدم.
ومع ذلك، فالفراق صعب
خاصة هذه الأيام.