الاهرام: 18-11-2002
العودة إلى الحق
”.. إن مستقبل الإنسان لا بد وأن يخضع لحكم العقل، والعقل وحده”! “… يستتبع ذلك أن يخضع الإنسان لحكم العلم، والعلم وحده”!
هذه هى المقولة التى سادت العالم فى الغرب والشمال وغيرهما ردحا طويلا، وهى مقولة براقة المظهر رصينة المنطق، إلا أنها تراجع الآن بجدية من كل من يهمه الأمر، أمر الإنسان والحقيقة .
المصائب كلها نتجت من هذا اللفظ: “وحده” (العقل وحده، والعلم وحده) لأنه أدى، ربما بغير قصد، إلى أن تصبح هذه الدعوة دينا جديدا يستبعد كل ما عداه، بما فى ذلك الإيمان الفطرة، والأديان القائمة، والأساطير القديمة والجديدة، وبعض التاريخ. (وليس الفن والحمد لله).
دخلت هذه المقولة امتحان التاريخ منذ القرن الثامن عشر، وطال انتظار ظهور النتيجة، التى أعلن بعضها بدءا من الربع الأخير فى القرن العشرين، وكانت بكل أسف (وبكل أمل): “لم ينجح أحد”. لم يكن الرسوب بسبب أن العقل والعلم عجزا عن هداية البشر، لكن كان بسبب أن التعريف الذى وضع لكل منهما كان قاصرا وخانقا ومختزلا. تماما مثل مذكرات “القص واللصق” التى يلقنها المدرسون الخصوصيون للطلبة السذج دون المراجع والأصول. هذه المذكرات المبتسرة هى التى كانت سببا فى إزاحة الإيمان جانبا وهم يتصورون أنهم يتخلصون من السلطة التى أساءت استعماله، لكن النتيجة أنهم تخلصوا من فطرة الإنسان الإيمانية من حيث المبدأ، فكانوا كمن يلقى السلة بالطفل الذى فيها (مصداقا لتعبير الكاتب الروائي”سول بيلو” تنظيف البيت من آثار الإيمان) . وهكذا أصبح حضور الإيمان هامشيا على أحسن الفروض، مثل أن يستعمل من الظاهر باعتباره مجرد دعوة أخلاقية، أو أن تمارس طقوسه كنشاط اجتماعى فى نهاية الأسبوع، أو أن يستعمل للتسكين أو يستغل كوسيلة سياسية ..إلخ. أعلنت نتيجة هذا الفشل عبر العالم (فى الاتحاد السوفيتى وفى أمريكا وغيرهما، ولم تسلم الصين ورقة الإجابة بعد).
جاء رد الفعل أعنف وأفشل فظهرت السلبيات ألعن وأخطر فى صورة فرط التعصب ونفى الآخر حتى الإرهاب، وكذلك الردة إلى الماضى بحذافيره، والأصولية الحديثة، والأديان البدعـة.
علينا نحن البشر أن نستفيد من الفشل الأول ومن الفشل الثانى معا. هذا فعلا هو ما يجرى فى العالم كله، ونحن فى العالم العربى والإسلامى مدعوون للمشاركة .
مظاهر هذه الإفاقة تتجلى فيما يسمى “إحياء الإيمان”. لا بد أن نميز هنا بين “الإحياء” و”التحديث” و”التفسير العصري” . النصوص المقدسة غير قابلة للتحديث أصلا، ولا هى محتاجة إلى تفسير من خارجها تبريرا لنزولها . لعل الفكرة المحورية للإحياء بدأت من إمامنا الغزالى فى “إحياء علوم الدين”، لكن الإحياء الذى أعنيه هنا إنما يتوجه إلى إطلاق سراح فطرة الله فى البشر دون التخلى عن تفاصيل كل دين.” يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم” (الأنفال 24). الإحياء هو لتصحيح المسار فى كل المجالات: فى السياسة والتربية والمناهج وغيرها. فعلى سبيل المثال : يعاد الآن تعريف كل من “العقل” و”العلم” (من خلال العلم المعرفى، وغيره) تعريفا يتجاوز ماحبسنا المدرسون الخصوصيون فيه. كذلك تجرى إعادة ترتيب وضع الإيمان كأصل فى الوجود، لا يكون الإنسان إنسانا إلا به من خلال إطلاق تناغمه الداخلى والخارجى فى امتداد غير محدود (الإيمان بالغيب)، وذلك دون تجاوز ممارسة العبادات السلوكية اليومية تفصيلا. كل من خلال تعاليم دينه. إن البشر وقد عادوا يستلهمون فطرتهم ونصوصهم المقدسة، وهى يقرؤون نوايا خلاياهم مثلمايقرؤون نبض عباداتهم، إنما يحاولون تحمل مسئولية أمانة الوعى والحرية التى حملوها دون السماوات والأرض والجبال. إنهم يفعلون ذلك بمحاولة تصحيح أخطائهم فى كل مجال، من أول مناهج المعرفة، والتعرف على مستويات التفكير الأخرى، حتى مجال السياسة التى راحت تستلهم أصول الإيمان بديلا عن، ومع، التركيز على ظاهر السلوك. (لعل فى تجربة انتخابات تركيا الأخيرة بعض ملامح ذلك).
حتى فى مجال تخصصى المحدود، تبدو بعض البرامج التأهيلية للإدمان أشبه بنوع معدل من إحياء الفطرة السليمة بشكل أو بآخر.
أما حدس المبدعين فى التشكيل والحكى والشعر والموسيقي..إلخ، فهو لم يبتعد كثيرا عن أصل الفطرة الإيمانية رغم الشطح والغموض أحيانا.
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر.
رمضان كريم.