نشرت فى جريدة الوطن
1-10-2000
العنب الـمر وهذه المنافسات بالفمتوثانية
أعرف مقدما ما يمكن أن يواجَه به رأى يحاول أن يناقش ما أصبح مقررا على الإنسان المعاصر تحت ما شاع باسم “النظام العالمي”، جديدا كان أم قديما.
التنافس الأولمبى قديم قدم محاولة الإنسان اختبار قدراته البدنية متنافسا مع أخيه الإنسان، وأيضا منذ تصور إمكانية أن تقوم الرياضة بوظيفة التسامى بالعدوان إلى صورة متحضرة.
لا يوجد واحد يمكن أن يمنع نفسه من الإعجاب بهذا الإنجاز البشرى المتفوق وهو يشارك أكثر من مليار من البشر يتابعون بنى جنسهم وهم يسبحون راقصين فى الهواء، وهم يطوون الأرض طيا كنفاثات بشرية،وهم يرفعون الأثقال وكأنهم يرفعون هموم الإنسان المعاصر بلا طائل، وهم يصوبون كرة اليد داخل المرمى وكأنهم يرجمون الشر المتربص بالأبرياء، إلى آخر كل هذا الإنجاز والإعجاز. وأنا -طبعا- مثلى مثل كل الناس -أشاهد كل هذا وأعجب أشد الإعجاب به جدا جدا ، “ثم ماذا”؟
آه من “ثم ماذا” هذه. تلاحقنى فتفسد على لحظتى وكأنها تأبى أن أعيش متعتى هنا والآن وأنسى مثلى مثل خلق الله. أتراجع خطوتين لأعيد النظر فى الجارى. يقتحمنى السؤال بصيغة أخرى: “إذن ماذا”؟
المهم، كنت أشاهد أحد أبطال الجرى الذين حققوا إعجازا حتى على أنفسهم، لا أذكر (أو قل لا أريد أن أتذكر) جنسيته (ربما حقدا، وربما خجلا)، كان قد تفوق على الرقم القياسى العالمى السابق، وهو الذى سبق أن حققه أيضا سنة 1994، تفوق عليه بمقدار ثلاثة من مائة من الثانية (00.3).
رحت أطالع فى هذا الفتى العظيم وقد ارتسم على وجهه شعور ليس له اسم، شعور أكبر من الفرحة، وأعمق من الفخر، تذكرت وصف باتريك زوسكيند فى روايته الرائعة “العطر”، وهو يصف شعور جان باتيست غرنوى بعد أن خلق عالم الروائح الخاص به، كان يصف الانفصال عن العالم والبشر بروائحم المغيرة والمثيرة والمقززة، فخلق لنفسه عالما من خيال رائع، فشعر مثل هذا الشعور المريح جدا”..هذا الفعل الماحق للقضاء على الروائح القذرة كلها، فعلا مريحا جدا.. “لأنه يوفر الشعور بالإرهاق الناتج عن الإنـجاز”، لم أفهم كيف يكون الإرهاق الناتج عن الإنجاز مريحا بكل هذا السحر إلا وأنا أشاهد وجه هذا الفتى بعد أن تفوق على نفسه بعد ست سنوات فحطم رقمه القياسى بفارق ثلاثة من المائة من الثانية !!
ليكن، يعلمنا زويل أهمية الفانتوثانية، وأن الزمن لا يقاس بالعقود والقرون، ولكن بجزئيات الثوانى. ما نتعلمه من زويل هو كشف إبداعى قد يوصلنا إلى التحكم فى تفاعل كيميائى قد يساعد فى إنقاذ البشر من كذا وكيت، لكن هذا الإنجاز الأولمبى هو فانتوثانية من نوع آخر.
هل مقرر على أن أشارك فى هذا الفرح السحرى لأنه كذلك؟ حتى لو كان “فرديا جدا”، و”مغتربا جدا” ، ومسعورا جدا ؟
هل علينا أن نغير قيمنا حتى يصبح الإنجاز الكمى العضلى المهاراتى؟ هو غاية المراد من رب العباد؟ هل علينا أن نضاعف من حرصنا على الجرى وراء هؤلاء الذين لا يكفون عن الجري، لمجرد الوصول إلى “خط النهاية”، دون أن يتوقفوا ثانية واحدة ليسألوا أنفسهم، ويخطرونا: نهاية ماذا؟.
قبل أن أستطرد فى شرح وجهة نظرى أرجع إلى عنوان المقال لأنبه القارئ أنى واع تماما بالرد الجاهز على مثل هذا النقد، إن تعرية “ميكانزم “التبرير” قديمة قدم وعى الإنسان بألاعيب تغطية ضعفه. حكاية “العنب المر “صاغها البشر بكل لغة ، وأسلوب. يقولها الشعر العربى القديم”
وثب الثعلب يوما وثبة شغفا منه بعنقـود العنب
لم ينله، قال هذا حصرم حامض ليس لـنا فيه أرب
هل أنا أنبه على خطورة التمادى فى تقديس هذا الإنجاز العضلى المهاراتى على حساب ما هو أعمق وأنفع، أو بديلا عنه، لمجرد أننا لم نحقق منه شيئا؟ لأنه أعلى من قفزتنا مثل هذا الثعلب؟ أو لأنه كان بعيدا عن متناولنا وهو قابع خلف سور لا تطوله قدراتنا، كما صاغ نفس القصة صلاح جاهين؟
العنب دا طعمه مر قال كده التعلب فى مــرة
والدليل على إنه مر إنه جــوه وانـا بــره
ليكن. إن ناسنا البسطاء يعرفون التبرير ويعرون أساليبه وهم يرددون “قصر ديل يازعر” ليكن، لكن كل هذا الحذر من التبرير لا يمنع من إمعان النظر.
نحن نعيش ، أو يفرض علينا أن نعيش، حضارة “كمية” مغتربة، يتحقق هذا فى كل المجالات دون استثناء الرياضة. لا اعتراض على المبدأ، وهل يقاس شيء إلا بالكم؟، لكن التزايد فى الكم لمجرد التزايد فى الكم وليس لما بعده هو الخطر الخفى. لعل هذا بعض ما يعنيه معنى الحديث الشريف”.. يتطاولون فى البنيان”. إن ما ينهى عنه هو الاكتفاء بالتطاول فى البنيان باعتباره انجازا يتباهى به صاحبه دون النظر إلى ما يحويه البنيان من خير وإبداع وتواصل وجمال,، أو من قبح واغتراب وظلم وقتل.
لست ضد أى مكسب، والذين فازوا بالمراكز الأولى (أمريكا فالصين) فى سيدنى يستحقون كل تقدير واحترام، إنهم قد حققوا يثبت موقفهم من الجدية والمثابرة فى كل مجال بغض النظر عن أيديولوجيية أو محتوى فكر أى من الفريقين. إن كلاهما يحقق فى الإنتاج والتصنيع والدخل القومى ما يتوازى مع ما حققوه فى الرياضة فى سيدنى.، الحقد وارد، ولكن النظر واجب، لأن الاختلاف قائم حتى لو خالطته شبهة التبرير.
علينا أن ننجح مثلهم وأكثر فى كل مجال، بما فى ذلك الرياضة، الفرق الحقيقى الذى يمكن أن نسترد به مقود الريادة، دون سيطرة أو وصاية يتحقق إذا استطعنا أن ننجح مثلهم، وأكثر، ثم نواصل لنضع هذا النجاح فى مكانه المفيد لصالح البشر لا لمجرد التطاول فى البنيان.
نحن نختلف حين ندخل جنة نجاحنا-إذا نجحنا- بفضل الله والجد والمثابرة، لنقول “ما شاء الله، لا قوة إلا بالله”، بمعنى أن نتعهد عائد نجاحنا هذا لتعمير الأرض لا للسيطرةعلى الخلق فيها و إذلالهم تحت ضلال الغرور التفوقى المنفصل عنهم على حسابهم.
لا بديل عن النجاح فى كل مجال، لكن أن يكون النجاح غاية فى ذاته وأنه هو هو لا عائده ولا استثماره هو غاية المراد فهذا هو الخطر على النشء خاصة. نعم خطر كل الخطر أن نعلـم أولادنا أن يقيسوا الحياة بمثل هذه الأرقام دون غيرها من الإنجازات والإبداع والقيم.
أنـا لا أعرف السبيل إلى حل هذه المسألة الصعبة. أوجزها مرة أخرى فى عبارة تقول “لا بد من مثل هذا النجاح، ولا بديل عن الإنجاز الكمى، علامة على جدية المسيرة وعلى تفوق المقدرة، لكن لا بد من أن نحاول أن يتواكب مع نجاحات أخرى كثيرة، وأن نحسن استثمار عائده للبشر كافة.
إن الذى سيقود العالم فى الحقبة القادمة ليس هو الذى سوف يحطم رقما قياسيا آخر فى أداء أدوات الاستهلاك لتحقيق الرفاهية، ولا فى آلات الحرب عن بعد، ولا فى التطاول فى البنيان، ولا فى القفز أعلى أو الجرى أسرع، ولكنه هو من يمتلك كل هذه القدرات فينجح أن يساهم بها فى إنقاذ الإنسان المعاصر مما تورط فيه من مباريات ومبارزات لم يقصد إليها عمدا، لكنها شغلته عن حقيقة تعمير الأرض وإبداع الأرقى.
أعرف خطورة الاستسلام لهذا الكلام الإنشائى دون فعل على أرض الواقع، بنفس القدر الذى أعرف أنه حق وحقيقى. أعرف كذلك الهوة التى تفصلنا عن الإسهام فى التنافس على تحقيق مثل هذه الإنجازات وما ترمز إليه، بنفس القدر الذى أثق فى إمكانية أن يتفجر فينا ومنا ما يسمح لنا بالاختلاف النوعى الذى يمكن أن يرحمنا من الدخول فى سباق لاهث وراء ناجحين جدا تتسع الهوة بيننا وبينهم باستمرار وهم يقتربون من “خط النهاية”. نهاية ماذا ؟ ثم ماذا؟
أحسن. فلتتسع الهوة شرط أن نبحث عن خط بداية: بعد، أو بديلا عن. “خط النهاية” هذا. إنهم فى أشد الحاجة إلى مثل جهدنا هذا، مثلنا وزيادة.
هل نستطيع ؟