نشرت فى الاهرام
17-5-1996
العمارة والشعر وعلوم المواجهة
الأصل فى حكاية الثقافة العلمية هو العمل على تأصيل منهج التفكير العلمى عند عامة الناس، ثم تشكيل وعى الناس بعطاء ومنظومات العلوم جميعا، وهنا يجدر بنا أن نبحث عن ترتيب هيراركى لتوظيف العلوم لهذه الأغراض، فثمة رأى يتصور أن العلوم الأساسية هى الأصل، وأن العلوم الإنسانية والتكنولوجيا (الأحدث) هى فروع منها ( مثل ما كتبه الزميل -فى لجنة الثقافة العلمية وغيرها-: أ.د. سمير حنا – ملحق أهرام الجمعة 10 مايو 1996) حين يقول: “ونتج عن هذا التقدم فى العلوم (الأساسية) ازدهار فرعين من المعرفة البشرية: فقد تقدمت العلوم الإنسانية (علم النفس، واللغويات، العلوم الاجتماعية، الاقتصاد إلخ ) تقدما كبيرا باستعمال ” المنهج العلمى” فى دراساتها، كذلك حدثت قفزة خطيرة فى استخدام العلم كأساس لصناعة تكنولوجيا متقدمة تساعد الإنسان على إثراء حياته وازدياد عمقها، وهكذا أصبح العلم مثل شجرة باسقة جذورها هى العلوم الأساسية، وجذعها هو المنهج العلمى وفروعها تنتج ثمارا من العلوم الإنسانية والتكنولوجيا” ولما كان من أهم مهامنا هو أن نعلم الناس الحوار من منطلق التفكير العلمى، فلنبدأ بأنفسنا، فكان هذا المقال.
بلغنى من هذا المقتطف، ومن المقال، أن منهج العلوم الأساسية “هو” المنهج العلمى، وبالتالى، فإنه متى طبق على العلوم الإنسانية، فسوف تزدهر هذه العلوم ..إلخ، كما بلغنى أيضا أن المنهج العلمى فرع من شجرة العلم، التى جذورها العلوم الأساسية ثم فروعها كذا وكيت (راجع المقتطف)، وفى ذلك نقول:
إن المنهج العلمى ليس منهجا واحدا، لا هو كان كذلك، ولا هو كذلك، والمنهج العلمى ليس نتاج العلم، لكن العكس هو الصحيح، والتفكير العلمى هو الأصل فى صياغة المنهج ( المناهج) من ناحية، وفى صياغة الثقافة العلمية عامة، وإذا كان لنا أن نرتب العلوم بما يعنينا فى الثقافة العلمية فليكن ترتيبها بقدر ما تثرى التفكير العلمى من خلال تنوع مناهجه، وفى ذلك يمكن أن أرتب العلوم إلى علوم الكافة وعلوم الخاصة، دون استبعاد للتداخل طبعا، وأعنى بعلوم الكافة العلوم التى تصل إلى، وتؤثر فى، كافة الناس أى التى لا تقتصر على المختصين، ثم إن من هذه العلوم (علوم الكافة) ما هو فى متناول ومواجهة كل الناس معظم الوقت مثل علوم التربية والعمارة والإعلام، ومنها ما يمر بوعى الناس انتقائيا أو أحيانا، ولنسم المجموعة الأولى “علوم المواجهة “، فهى تأتى أيضا متقدمة لأنها الأكثر تأثيرا والأهم بالعناية ونحن نتكلم عن الثقافة العلمية .
و من بين هذه العلوم التى أسميتها علوم المواجهة أنتقى بالذات ”علم العمارة” وقد تعمدت ذلك لأقدم للناس(والزملاء) علما ليس من العلوم الأساسية فقط، ولا من من العلوم الإنسانية فحسب، وإنما هو كل ذلك، وفى نفس الوقت هو من علوم المواجهة كما أسميتها.
ذلك أنه من أهم ما يشكل وعى الناس هو ما يصل إلى حواسهم، وعبر حواسهم من مؤثرات: سواء من الطبيعة مباشرة، أو من الطبيعة المشكلة بفعل فاعل، ومن أهم إسهامات علم العمارة هو حذق طرائق إعادة تشكيل البيئة المكانية (والفراغ) فيما يسمى بالتخطيط العمرانى أو تشكيل الفراغ (الخارجى والداخلي).
وإذا كان علم الجمال هو من العلوم الإنسانية، وعلم الهندسة المدنية (الهيكل التأسيسى وتنظيم الأحمال ..إلخ) هو علم من العلوم التقنية البحتة، فأين يقع علم العمارة بين هذاوذاك؟ ثم ماهى وظيفة هذاالعلم فى تشكيل وعى الناس؟
أتيحت لى مؤخرا فرصة الحديث فى ندوة عن الصحة النفسية والبيئة المكانية بين جمع من ثقات المهندسين (ندوة أثر العوامل النفسية والجتماعية على التصميم العمرانى 28 / 4 / 1996) وإذا بى أكتشف وجه شبه شديد الدلالة بين الذات البشرية والعمارة، وبين مستويات تشكيل الوعى ومستويات تشكيل الفراغ فى العمارة وخرجت بخلاصة تـقابـل بين ما هو نفس وما هو بيت، وكذلك بين ما هو كون خارجى، وما هو فراغ خارجى فى العمارة، فاقتربت من علم العمارة باعتباره علما إنسانيا أساسا، لكنه يستعمل عددامن العلوم المساعدة، ثم إن العمارة والشعر والقانون (الصحيح) والمعالجة النفسية السليمة ينتمون إلى الصادق والعادل والجميل، ربما أكثر من انتمائهم للكم والطاقة والحساب والاقتصاد.
ومن ناحية المنهج فيبدو أن للعمارة علاقة راسخة بالمنهج العلمى الحكائى، بقدر ما هى مبنية على العلم الكمى والحسابات الدقيقة،، فالعمارة – فى ذاتها- حكاية مرئية وثابتة، وهى لا تؤرخ فقط لجماليات عصر بذاته، ولكنها تؤرخ لعادات وتقاليد وحضارة مرحلة من الزمان.
ثم إن العمارة حوار بين الإنسان والبيئة، وهى حوار بالحواس وعبر الحواس، وهو حوار متصل ومتبادل:
يقول أ.د. مهندس سيد التونى “الطابع العمرانى هو انعكاس للحوار بين الإنسان والجماعة، وبيئتهم، وهو التسجيل المرئى للحوار”، كما يقول بيكون “إن الخبرة العمرانية: تجذب إلى عمقها الأفراد فى خبرة يشارك فيها جميع من يتحركون بداخلها”.
وإذا كان البيت كما يقول بشلار هو الوعى بالمكان، فإن الذات هى الوعى بالوجود، والنفس الإنسانية ليست إلا بيتا بل مدينة بأسرها، ولنتذكر أن جمهورية أفلاطون ليست سوى نفسا إنسانية قام بتكبيرها لتسهيل الوصف والشرح حسب زعمه، نعم: النفس مدينة لها أسوارها وحجراتها، ومستوياتها الهيراركية والمتداخلة، ونوافذها، وفراغاتها وتشكيلاتها ومنظوماتها، والعمارة هى نفس ممتدة لها وعيها وإيقاعاتها النابضة، وحيويتها ومستويات شعورها، وعلى ذلك يصبح تأثير كل منهماعلى الآخر تأثيرا متبادلا ومحاورا بما يمثل نموذجا رائعا لربط العلم بالتطبيق حالة كوننا ننظر من زاوية تشكيل الوعى بما يحقق مفهوم الثقافة العلمية
وثمة ربط آخر شديد الدلالة تقدمه العمارة فى توضيح مفهوم الثقافة العلمية وهو التأكيد على الوصلة بين العلم والأدب: الشعر خاصة، فما العمارة إلا قصيدة شعر قبيحة أو جميلة، وقد تعجبت من وفرة الشعر الوارد فى وصف العمارة من مهندسين وفلاسفة، ناهيك عن ما هو نقد للشعر، فكم تتكرر كلمة ” معمار القصيدة”، وبناء القصيدة، فى سياق النقد،، وقد شدنى تعبير د. ناصر الدين الأسد: وهو يصف قصيدة النثر بأنها جدران سوداء، لا تكشف عن شيء مما وراء ها (أخبار الأدب: 21 إبريل 1996) .
ثم ننصت إلى لغة الشعر فى مجال العمارة: يقول كارير واصفا الشارع: (تلك) …السجادة الأسفلتية، قناة لخدمة حركة السيارات” ويقول ماكس بيكر ( كما اقتطفه بشلار): البيوت مربوطة بالأسمنت حتى لا تغوص فى الأرض أو: البيوت تشبه الأنابيب التى تشفط البشر فى داخلها بتفريغ الهواء.
ثم ننتقل إلى استعمالات الشعر، وعلم السيكوباثولوجيا فى وصفهما للنفس باعتبارها بيتا له أسوار وجدران ونوافذ وطوابق وستائر، فى حالة حوار مع المحيط من حوله، يصد العواصف أو يستسلم للاقتحام، (وأعتذر لاقتطافى من شعرى الخاص،، فقد كان الأقرب والأجهز)
ذات مرة صورت خبرة مريض فصامى جاء يعانى مما نسميه “فقد حدود الذات” إذ تصبح نفسه كيانا مفتوحا لانتهاكات الغير وتأثيراتهم، قلت فى ذلك: حين يشف جدار النفس يصير النظر إلى المرآة جريمة، فلماذا نظروا هم من ثقب الباب؟
(ثم) أبنى حول الـمـلك الشائع أسوار الستر، أضع بأعلى السور شظايا الصد
(إلى أن قـلت) ماذا يتبقى إن كشف تبصصهم أن الباب المقفول، ليس وراءه، إلا عجز الفعل، إلا حسن القصد، أو سوؤه، فالأمر سواء.
فيحضرنى كل من جروتروود شين (عمارة) وهو يعيب تجاهل جماليات تشكيل الفراغ: إنك حين تذهب إلى هناك لا تجد هذا الـ”هناك” ثم أرجع إلى القصيدة.(أن الباب المقفول ليس وراءه إلا عجز الفعل) فيقفز بلويلر (أول من استعمل لفظ الفصام سنة 1911) وهو يصف الفصامى أنه “كالباب المقفول الذى ليس وراءه شىء. يا للتوازى العجيب وكأنهم يقولون نفس القول كل من زاويته الخاصة.
ومرة أخرى اشتكى لى مريض باضطراب وجدانى جسيم (مختلط: يغلب عليه الاكتئاب):اشتكى من أن كل ما تقع عليه عيناه يدخل ذاته عيانا بيانا فى عاصفة مقتحمة دون ترتيب،،وأضاف أنه: فـــتح على مصراعيه، فصورت ذلك شعرا يقول: تقتحم الريح الأسوار، تـنـتهك الأسرار، ويطير الزنبور يطارد جمعا من نحلات شغالة، والقبرة، وأنثى الهدهد، وفراشة، يعلو الهم فيخترق السقف العارى، فيعيد وليد أحمق رص اللبنات.
( إلى أن قلت) وعيون بوابة، سقط المزلاج، والآذان نوافذها مفتوحة
لاحظ من فضلك: جدار النفس، الأسوار، السقف العارى، رص الـلبنات، الآذان النوافذ، والعيون البوابة،
فإذا كان أفلاطون قد قال ” كما تكون الدولة يكون الإنسان”، فإنه يمكن قياسا أن نقول: “كما تكون العمارة تكون الأنفس الصانعة لها والمحيطة بها”.
ولو صح القياس أكثر، مع الحذر من التسطيح، لوصفت أشكالا من العمارة مقابل كل من أمراضنا النفسية:أنظر حولك ترى “فصامية ” العمارة: وأعنى بذلك هذا التناثر المضطرب بلا تمحور جمالى يجمعه ولا فى الخيال
لذلك أسميت هذ الخلط المشتت: عمارة الـ”كيفما اتفق”: والعمارة التناثر، والعمارة النشاز، والعمارة القذى (متجنبا كلمة العشوائيات لكثرة استعمالها واحتمال الخلط مع الفطرة أو التلقائية )، ذلك أن مثل هذه العمارة التى تلفظها الغيطان إذ تأتيها التماسيح المسلحة تنقصها من أطرافها قد وصفها الأخطل من قديم حين يقول:
ولكن قذاهــــا زائر لا نحبه ترامت به الغيطان من حيث لا ندري
ويمكن – بالقياس أيضا- أن نصف ذاتوية العمارة، فى مقابل الزملة الذاتوية فى المرض النفسى والعقلى، حيث تستقل كل عمارة زجاجية قبيحة بمن فيها وما فيها دون أدنى أمل فى تواصل ولو بـ ” صباح الخير” فى بئرالسلم، مثلما ينغلق المريض الذاتوى على نفسه ولا يعيش إلا فى خيالاته وأوهامه. (وصفت مركز بومبيدو الزجاجى فى باريس، بعد أن جرحنـى قبحه، فى قصيدة بعنوان” البيت الزجاجى والثعبان”، قلت فيها: يسعى ثعبان البشر على جدران البللور العارى، يفضحنا، فنعود إلينا، نتعرى أكثر، نتكاثف، نتوارى فنرانا أقبح ).
ثم عندك العمارة العدوانية وهو ما أصف به عمارة ما، أو حتى مدينة ما، وهى تغيرعلى كل من السماء والطارق، وعلى القمر إذا تلاها، بنفس قدر عدوانها على تشكيلات وعى ساكنها ليصير قطعا من الليل مظلما.
وأخلص من هذه المقدمة إلى القول:
إذا كان أفلاطون قد كتب على أكاديميته “لا يدخلها إلا مهندس”، فإن الأجدر بنا اليوم أن نكتب على أقسام العمارة فى كليات الهندسة ومعاهدها” لا يدخلها إلا شاعر”
إن هم لجنة الثقافة العلمية لا يقتصر على مسئولية عرض العلم مبسطا، ولا على الترويج لمعرفة علمية حديثة، ولا على الدعاية للعلوم البحتة دون العلوم الإنسانية (ومنها علم الجمال،وبعض علوم العمارة كما أسلفنا)، بل إن همها الأول هو توظيف علوم المواجهة خاصة فى خدمة تشكيل الوعى بما يسمح لنا أن نأمل فى دخول أولمبياد التنافس الحضارى الشريف حالا ومستقبلا .
والمطلوب من علوم العمارة – كمثال – من وجهة نظر الثقافة العلمية هو أن تساهم فى تشكيل الوعى بقدر ما تساهم فى إيواء الناس، ثم إن العمارة والفن التشكيلى وعتاد الحاسوب والرقص والموسيقى هى تقسيمات على اللحن العالمى، إذ يمثلون اللغة العالمية التى هى البديل الإيجابى للنظام العالمى الجديد المزعوم.
ولكن هذا حديث آخر.