نشرة “الإنسان والتطور”
24-5-2011
السنة الرابعة
العدد: 1362
العلاج الجمعى والفلسفة (1 من 3)
(مدخل محدود من كتاب مقدمة فى العلاج الجمعى 1978)
مقدمة:
هذا المقتطف الذى أبدأ به تقديم بعض لمحات من الكتاب المقدمة 1978 تعمدت أن يكون بعنوان “علاقة هذا العلاج بالمدارس النفسية المعاصرة” لأتجنب مسئولية أكبر لو كان العنوان “علاقة العلاج الجمعى بالفلسفة”، مثل عنوان اليوم لأسباب سترد فى النشرة.
سوف أكتفى اليوم بعرض النص كما نشر فى حينه على أعود لمناقشته وتحديثه لاحقا، مكتفيا الآن بإشارات محدودة لعناوين الإشارات التى وصلتنى خلال هذه المدة (ثلث قرن)
أولاً: ساعدنى المستوى التعليمى والثقافى لكل هذه المجموعات أن أتأكد من أن الفلسفة ليست كما يتصور المثقفون والأكاديميون، بل هى معايشة كل إنسان من حيث هو إنسان.
ثانياً: ساعدتنى الألعاب النفسية بوجه خاص على كشف حركية ديالكتيك النمو من خلال التوليف الحيوى الماثل.
ثالثاً: اتضح لى أكثر فأكثر أن مفهوم “فعل الفلسفة” يتجلى من خلال التركيز على قاعدة “هنا والآن”
رابعاً: عايشت بشكل محدود أثناء بعض التفاعلات فى الجلسات وبعد الجلسة فى المناقشات بين المتدربين والمشاهدين، اضافات دالة عن “ثقافة السؤال” وطزاجة الدهشة وقنوات المعرفة.
اكتفى بهذا القدر وقد لا أعود له مستقبلا إلا حين تعرض عينات من التفاعلات والمناقشات.
علاقة العلاج الجمعى بالفلسفة (1 من 2)
المقتطف: (ص129):
…. فضلت أن أستبدل بكلمة الفلسفة تعبير “بعض المدارس الفلسفية” ليصبح العنوان (علاقة هذا العلاج ببعض المدارس الفلسفية) كمدخل متواضع لأؤجل فتح النار علىّ بعض الوقت، فأنا أنتظر أن يأتينى الهجوم من أكثر من مصدر، بل من المصدر ونقيضه أى من الفلسفة، ومن رافضيها معا (أو بالأصح الخائفين منها)، أما محبوها فقد يثارون حين يتصورون أن شخصاً مثلى – بقصوره وتقصيره – قد دخل محرابهم بلا استئذان وبلا استعداد كاف، والحقيقة أنى ما دخلت محرابهم دعيَّا أو متخطياً ولكنهم أول من يعلمون ثمن الرؤية .. وضريبتها .. وعبئها ومصير حابسها، وقد أكون فى هذا السبيل مجرد خادم طفل يحمل الماء المقجدس بمحرابهم إن رضوا ..، أما الفريق الرافض (أى الخائف) فأغلبه من الزملاء الأطباء وكثير من علماء النفس الذين ستثور حساسيتهم (بالمعنى الطبى العادى Allergy) عند ذكر كلمة فلسفة … ولسان حالهم يقول “ما لهذا الدعى يريد أن يرجع بنا إلى الغموض والتعميم . . ونحن ما صدقنا أن وجدنا المعمل والتحديد”؟ وأحاول أن أذكر زملائى الأطباء بقول أبينا أبى قراط “أن كل ما يصلح للطب يصلح للفلسفة وما يصلح للفلسفة يصلح للطب … الخ” ولكنى أكاد أسمعهم يرددون أن هذا كلام قد مضى عهده واسْألْ أجهزة الأشعة والتشخيص الصوتى … الخ فألتفت إٍلى علماء النفسى الرافضين لاذَكَّرهم أن هذا البتر التعسفى بين علمهم وبين الفلسفة قد جنى على الاثنين فيأتينى الرد تخيلا “. . بل هو ارتقى بعلم النفس إٍلى العلوم المحددة Science Exacte” وأكاد أسمعهم يكملون “وترك الفلاسفة فى غيابات التأمل”،
ولا أطيل بعد هذه العجالة الضرورية ولكنى أقول أنه بالرغم من هذا وذاك فلابد من قول كلمة أعتقد أنها الحق الشخصى فى هذه الآونة.
* * *
…. عرفت الفلسفة من ممارسة مهنتى – وأعتذر لأهلها ثانية – ووصلت إٍلى بعض مسائلها مواجهةً، ومحاولة حلٍّ من خلال تحدِّى مرضاى وهم يقذفون فى وجهى بمشاكل الوجود والصيرورة وأنا لا أجرؤ أن أسمى هذا أو ذاك بالعرض الشائع “أفكار شبه فلسفية”، بل إنى توصلت من خلال حوار حى معهم وتفاعل وتجارب بشرية إلى بعض مفاهيم كان لا يمكن أن أصل إليها من خلال القراءة مهما بلغت، (ومنها مفهوم الديلكتيك كما سيأتى بعد). إِذاً فأنا قد فرض علىّ أن أقترب من هذا المحظور فرضاً.
هذه واحدة، أما الثانية فترجع إٍلى تعريف الفلسفة ذاته، حيث يتصور كثير من الناس كل تصور عن ماهية الفلسفة إلا حقيقتها، وقضية تعريف الفلسفة قضية طويلة، هل هى الحكمة أم حب الحكمة، وهل هى دراسة المعارف أم أصل المعارف، وهل هى علم الوجود أم علم الموجودات أم ليست علمياً أصلا، وهل هى دراسة القيم الجزئية أم دراسة النسق الفكرى المتكامل أم هى النشاط العقلى ذاته، وهل هى معرفة الواقع أم ما هو ليس واقع لكنه واقع . . . إلى آخر هذه الحيرة المخفية، ولكنى خرجت من هذه الدوامة بإيمانى بثلاث حقائق أو آراء.
أولاً: أن حب الحكمة غير ادعاء الحكمة، وأن الفلسفة غير التفلسف، وأن كل ما يمكن أن نتعلمه ونعلمة هو التفلسف وليست الفلسفة، وبالتالى فالذى يصعب علينا هو التفلسف والذى تخيفنا معايشته هو الفلسفة.
ثانيا: أن قول أحد الوضعين المنطقيين مؤخراً “.. إن الجمع بين العلم والفلسفة أصبح ضرورة لا غنى عنها، وأن الفصل الذى تم بينهما فى غضون القرن التاسع عشر كان له أسوأ النتائج على العلم والفلسفة على السواء” هو قول أصدق ما يكون على علمنا هذا.
ثالثاً: أن معرفة الفلسفة هى ممارسة أساساً ثم تنظير لاحق، وأنه بغير احتمال شجاعة هذه الممارسة فإننا سنمارس عملية عكسية هى وأد كل محاولة فلسفية متواضعة لحساب الشعور بالنقص والخوف (ولا أنسى أستاذنا محمد كامل حسين وقد وقع فى قبضة عملاقنا العقاد ينعته بالمجبراتى لأنه تجرأ وكتب رؤيته المتواضعة فى “وحدة المعرفة”).
وأخيراً:
– ومن واقع مهنتى لابد أن أوضح رؤيتى كمقدمة تبرر ما أنا مقبل عليه من ربط الفلسفة (لا التفلسف) بهذا العلاج، فأقدم مفهوماً خطر ببالى كطفل حامل للماء المقدس لأهله.. ليس إلا:
“الفلسفة هى المحاولة المستمرة المتجددة للحياة المغامرة فى اتجاه معين، فى لحظة ما . . مع قبول تغير هذا الاتجاه دائما مع استمرار المحاولة . .، ويصحب ذلك عادة درجة من التنظير المعرفى مع احتمال مخاطر الخداع اللغوى عند التعبير لنقل هذه المحاولة إلى الآخرين . .، كما يصحبه دائماً تأليف مستمر بين متناقضات الوجود وتجميع مبسط لجزئيات المعلومات (أو العلوم) فى مبادئ أولية بسيطة، تتفق مع الاتجاه الآنى، وقد تتغير بتغيره”.
إذن، فالفلسفة مرادفة عندى للحياة النابضة للإنسان إذ هو متناه يسعى إلى اللا متناه مستعملا فى ذلك مكاسبه التطورية وخاصة الرمز والتجريد والإبداع فى رحلة وجودية صيرورية معرفية مغامرة.
فإِذا تأملنا هذا الذى انتهيت إليه وراجعنا هذا البحث فى أناة لوجدنا أبطالنا جميعاً فلاسفة (بالممارسة)، ولكن ما بَخَسهم حقهم هو أنهم أجهضوا المحاولة بالفشل والعجز والشكوى حين ظهرت الأعراض وجاءوا يطرقون باب العلاج . .، وإنى إذ ألقى بهذا القول بهذه الدرجة من الوضوح لا أجد تعارضاً بينه وبين ما قلت فى فقرة التزامى وإيمانى بالتفكير العضوى البيوجى، بل على النقسض من ذلك أجده مكملا له تماماً، فإنى أعيش على أمل أن يتفلسف الأطباء وهم يخطون خطواتهم المتواضعة فى الحياة اليومية العملية بمعارفهم العضوية الثرية من كيمياء وطبيعة وفسيولوجى . . . الخ، وأن يخوض الفلاسفة دنيا البيولوجى فى غير تردد، وقد فعلها منهم الكثيرون وأثروا معارفنا الطبيعية والرياضية بلا حدود . . .
وقبل أن أدخل فى موضوعنا مباشرة أشير أخيراً إلى أنى تصورت يقيناً أن أغلب الفلاسفة عبر القرون كانوا يحلمون بمعمل للأفكار: يحققون فيه أفكارهم ويتحققون منها يُوَلِّدود غيرها ما أمكن، كما أن بعضهم قد تمثل أن هذا المعمل هو الحياة العامة – والسياسية بالذات مثل حلم أفلاطون بالملك الفيلسوف (ومحاولاته) وكذلك محاولات الماركسيين مؤخراً . . .، وأعتقد أن كثيراً مما أصاب الفلسفة على أيدى أبنائها كان نتيجة للحماس لهذا الحلم وللتعجيل فى تحقيقه.
وقد كادت الفلسفة كمبحث فى الوجود أو القيم وتعريف بالإنسان أن تنتهى على أيدى الذى خدعوا فى المعملية السطحية من بيكون إلى الوضعين المنطقيين، إلى علماء النفس، ورغم ذلك فإن فى هذا وحده دليل على إلحاح هذا الحلم، ولكنى لا أزال أرى أن حلمهم مازال قابلا للتحقيق ولكن ليس فى معمل بالمواصفات الشائعة الآنن ولا فى تجربة سياسية اقتصادية شاملة لن يستوعبها الأغلب وقد يشوهونها تعجلا أيضا.
وأَكاد أقول أنى أثناء هذا العلاج قد خيل إِلىّ أحيانا أنى فى مثل هذا المعمل، بل تطور تصورى أنه ليس معملاً لاختبار الأفكار فحسب بل إنه مصنع أيضا لممارستى هذه الأفكار . . أو مصنع للفلاسفة (بالمعنى الأعمق ولكنه لا ينبغى أن يكون مغضباً للمتفلسفين بحال) . . . وكنت أرجع دائما ومباشرة إلى مقاييسى المحددة (زوال الأعراض، والإنتاج والتكيف والالتزام . . . الخ)، وقد لاحظ بعض المترددين ذلك وهاجمونى بشجاعة وصراحة بشأنه وأنهم يرفضون أن يكونوا إلا فئران تجارب، ولم أدافع عن نفسى ولم أتخل عن مسئوليتى، ولكن ردى كان “أن الفلسفة قد فرضت علينا لظهور الأعراض ومجيئكم، وبالتالى فليس أمامنا إلا المواجهة حتى وإن شملت التجريب . . وعلى من ينسحب أَن يفعل ذلك على حسابه . . . ولحسابه”.
هذا عن علاقة العلاج بالفلسفة من حيث هى الحياة وهو مايخص العنوان الذى ألغيته (والذى كان فى المسودة) فماذا عن علاقة هذا العلاج ببعض المدارس الفلسفية كما أصبح العنوان بعد التعديل؟.
ذكر الباحث فى نهاية بحثه أن روح هذا العلاج الكامنة يغلب عليها الفلسفة الوجودية من جانبها الايجابى، والحقيقة أن هذا هو الإيحاء الذى يتبادر إلى الذهن إزاء هذا الاتجاه العلاجى بصفة عامة، وأشعر برفض جزئى لهذا التصنيف . . . (الذى امتد إلى مجالات أخرى من نشاطى الفكرى حيث وضعنى استاذى الدكتور عسكر ذات مرة فى هذا الاتجاه . . . وكذلك وصفنى من قرءوا روايتى “المشى على الصراط” . . . الخ)
ولابد أن أناقش هنا مدعاة رأيهم ومصدر اعتراضى، فهذا الباحث (وغيره ممن علق على اتجاهى فى المهنة وغيرها) لهم كل الحق حين ينظرون إلى القضية التى أتناولها من خلال ممارساتى أنها قضية كيانية تتعلق بالوجود وجوهره، وهذا صحيح حتى أنى اتجهت فى مرحلة من تفكيرى (حيرة طبيب نفسى) إلى تصنيف الأمراض النفسية إلى أمراض كيانية (وهى مركز اهتمامى) وأمراض تكيفيه (وهى على هامش انتباهى . . .).
وأول احتجاج منى هو أن الفكر الوجودى يبدأ من مقولة الوجود قبل الماهية تأكيداً للاختيار وأن الانسان صانع نفسه، ولكنى قد أشرت فعلا (وخاصة فى مناقشة مدرسة “العلاقة بالآخر”) أنى أضع الماهية الكامنة أساساً لما يحدث فيما بعد، وكأن الوجود يحور الماهية بشكل محدود بتفاعل المكان والزمان معاً ولكنه لا يصنعها ابتداء، وقد بلغ من إيمانى بهذا الاستعداد القَبْلى أنى أصبحت أقبل فى هذا الشأن فكر ماسلو الذى اتهم بالعودة إلى إحياء نظرية الغرائز فيما أسماه “فريك” فى حواره معه “النظرية شبه الغرائزية Instinctoid Theotry. . .”، أقر هنا أننى أنا أميل إلى إحياء مفهوم الغرائز فعلا على أساس اعتبارين، أولا: إيمانى بالتطور وأن عادات اليوم هى عرائز المستقبل وغرائز اليوم هى عادات الماضى. . . الخ وثانيا: إيمانى بواقع الانسان وقدراته المحدودة فى عمره الفردى رغم قدراته غير المحدودة فى تاريخ نوعه ..، وبالرغم من هذا فقد فضلت أن استعمل تعبير “إمتداد الذات” Self expansion (الذى استعمله أريتى) عن تعبير “تحقيق الذات” Self aetualicn الذى (استعمله ماسلو)، ذلك لأنى بالرغم من يقينى أن الوجود يحدد مسار الماهية ولا يصنعها، فأنى لا أوافق أنه يحقق الماهية وإنما هو يطلقها للامتداد بل للموالفة الأعلى.. وكانت المشكلة التى تعنينى وتحدد نوع ممارستى ليست مشكلة الوجود بمعنى أن تكون أو لا تكون To be or not to be ولكنها مشكلة الصيرورة To be or to become، ولكن الصيرورة لا تحل محل ضرورة تحقيق الوجود أولا ولكنها تنبع منه، لأن القفز إلى الصيرورة دون تحقيق الوجود مهرب من مواجهة المشكلة الأولى للوجود، وكذلك الاكتفاء بتحقيق الوجود أملاً فى الانطلاق التلقائى قد يوقفنا فى خدعة “الهنا والآن” بعيداً عن الإسهام بمسيرة التطور طولا فى التاريخ وعرضا فى الناس.
……….
……….
وهنا أتوقف قليلاً قبل أن أستطرد لأسمع همس الأطباء (العمليين) القائل: أين العلاج النفسى الجارى أو غيره من كل هذا؟ . . .
والتساؤل الثانى: ألا يشوه هذا التنظير الفلسفى مسيرة العلاج النفسى ويخرجه عن هدفه، أو يفرض عليه ماليس له؟
ونقدم الرد على هذين السؤالين غدًا ونحن نكمل المقتطف من واقع هذا البحث.