نشرة “الإنسان والتطور”
13-7-2010
السنة الثالثة
العدد: 1047
العلاج الجمعى: شعر آخر
[ظاهرة “التناصّ” بين البشر]
(فروض قبل قراءة اللعبة)
نص اللعبة:
أنا معاكـ(ى) يا فلانـ(ة) حتى لو…………….
أنا خايفـ(ة) أكون معاكـ(ى) يا فلانـ(ة) بحق وحقيقى لحْسَن…………
كنت قد وعدت بقراءة (شرح/تفسير) الاستجابات التى نشرناها للمشاركين فى هذه اللعبة من المرضى والمعالجين، ثم من مجموعة التدريب، ثم من أصدقاء الموقع، إلا أننى وجدت صعوبة بالغة (وتشويها محتملا) ففضلت التأجيل إلى أن أناقش قضية قبلية وردت إلى أثناء كتابة المسودة على الوجه التالى:
الكتابة فى موضوع العلاقات البشرية أمر بالغ التعقيد، مقارنة بالممارسة الفعل.
كلما حضرت جلسة من جلسات العلاج الجمعى صباح الأربعاء، فى قصر العينى، مع ناس بعضهم لا يقرأ ولا يكتب، والبعض الآخر يكاد يقرأ، وربما يكتب مضطرا، أقول كلما حضرت جلسة واحدة (ساعة ونصف إلا خمسة) وصلتنى معلومات وحقائق عن العلاقات البشرية، أكاد أجزم أننى عاجز عن أن أقلبها حروفا وكلمات وجمل مكتوبة.
حاولت أن أسجل ما يجرى فى كلمات، وسجلت بالصوت والصورة، واقتطفت ألعابا وسيكودراما، ولكننى أعترف أننى غير راضٍ عن كل أو أغلب ما قدمت فى هذه النشرات لأبلغ ما وصلنى من خبرتى فى هذا العلاج، نتيجة لصعوبة شرحه بالألفاظ،
دعونى أقتطف من حوار باكر (منذ ثلاثة سنوات) مع الابن د. كريم محمد شوقى عجز الكلمة عن الإحاطة بما يجرى:
نشرة : 9-11-2007: حـوار بريد الجمعة
د. كريم محمد شوقى:
يبدوا أن الواحد لازم يقفل على نفسه ويقعد يقرأ عشر سنين متواصلة عشان يعرف يجاريك أستاذى.
د. يحيى:
ليس هكذا تماما، (مش قوى كده)! أنا لو قرأت مليون صفحة لايمكن أن أصل إلى ماوصلت إليه من خلال قراءة النص البشرى لمريض واحد، متجادلا مع نصِّى البشرى الذاتى، كنت دائما أنصح طلبتى تحت التدريب أقول لهم إن رحلة سنوات مع مريض فصامى واحد سوف تعلمك كل الأمراض، وربما كل البشر وكل الحياة.
هذا وقد تكرر ذكر تعبير“النص البشرى” وخاصة فى حواراتى مع الابن د. جمال التركى حين عبرت مرارا عن أن العلاج هو نقد النص البشرى (أى إعادة تشكيله)، ولكن بمشاركة النص نفسه، (د.جمال التركى نشرة:16/5/2008).
صعوبة الكتابة عن عمق وحقيقة التواصل تجلت أكثر حين حاولت شرح ديوان “أغوار النفس” كى أوصل تقديم بعض “فقه العلاقات البشرية” كل أربعاء منذ حوالى عام، وقد أكدت على ذلك مثلا فى قراءتى لعيون تشكيل “دراكيولا” نشرة 26/8/2009 قائلا: (شرحا لفكرة نقد النص البشرى) ما يلى:
“منذ اكتشفت أن ما أمارسه فى العلاج عامة، وفى العلاج النفسى خاصة هو نوع من النقد، وأنا مطمئن إلى ما وصلنى، ربما لأننى أمارس نقد النص الأدبى من قديم، ولكن لأننى أعرف أن النقد الحقيقى هو إعادة تشكيل النص، فقد ترددت طويلا قبل الفرحة بفرحتى باكتشاف هذا المصطلح الذى يعبر فعلا عن ما أمارسه، لأن المريض ليس مجال تشكيل من ناحيتى أساسا، أو أوّلا.
رويدا رويدا، وأنا أراجع ما أفعله مع مرضاى، خاصة فى العلاج الجمعى، اكتشفت أن نقد النص البشرى (المريض) يختلف عن نقد النص الأدبى فى أن المريض نفسه يشارك فى عملية النقد، وأن الطبيب نفسه هو نص بشرى آخر، وبالتالى فلا بد أن يكون عرضة للنقد من الطرفين طول الوقت.
بهذا عدت للتصالح مع المصطلح الجديد، وتمنيت أن أضيف كلمة واحدة له هى “معا”،”أى نقد النص البشرى معا“، ومن ثم فإعادة التشكيل هى واردة لكلى النصّين طول الوقت”.
سألت نفسى وأنا أواصل كتابة شرح متن ديوان “أغوار النفس”: لماذا أجد هذه العملية ثقيلة وأحيانا سخيفة ومشوهة للنص الشعرى، فى حين أنها لم تكن كذلك وأنا أكتبها شعراً؟ فإذا بى اكتشف اليوم فجأة، أن العلاج الجمعى ليس إلا “ذلك الشعر الآخر“.
الشعر أرقى أنواع الكتابة، لأنه يخلـّق اللغة وهو يستعملها ولا يحبس الواقع (الحقائق) داخل رموزها، وثمة كتابة ليست شعرا هى الشعر نفسه.
حين عشت الخبرة التى أفرزت ديوان “أغوار النفس” قلت وأنا أعتذر للعربية الفصحى.
“أصل الحدوته المرّادى كان كلها حس، والحس طلع لى بالعامى بالبلدى الحلو، والقلم استعجل مالحقش يترجم لتفوته أيها همسة أو لمسة أو فتفوته حس”.
وهكذا كتبت المتن الشعرى بالعامية فاحتوى التجربة،
ثم حين تجاسرت وكتبت شرحا على هذا المتن منذ حوالى سنة، كل أربعاء، فى محاولة أن أقدم ما وصلنى فى هذه التجربة بطريقة تساعد من يمارس العلاج النفسى على فهم عمق العلاقات بيننا وهى تكشف عن ما أسميته “فقه العلاقات البشرية” لم أنجح (تقريبا) وربما شوهت المتن (لست متأكدا)،
إذن فالشعر هو الأقدر على استيعاب هذه الخبرات المكثفة المتداخلة عبر اللغة وليس فقط باللغة/الكلام،
وهذا الذى يجرى فى العلاج الجمعى هو حوار وعى بشرى، بل مستويات وعى متعددة مع مستويات وعى أخرى، وليس مجرد نقاش بالكلمات، ولا تفريغ بالألفاظ.
هنا نقف لنتساءل: كيف يكون العلاج الجمعى شعراً، وأيضا نقدا شعريا تقريبا؟
دعونى استعمل تعبير “فعل الشعر” بدلا من الشعر، لأننى أرى أن الشعر بالذات يؤكد على وظيفة أخرى للغة هى “التمثيل” Representation وليس فقط “التواصل”،
هذا التمثيل إذا تحرك بطلاقة الإبداع يصبح تشكيلا جديدا يحيى اللغة: فهو الشعر.
لكن ثم تشويه قد يلحق تفسير ما يجرى من حركية وعى المشاركين إذا حاولنا شرحه بكتابة مرسلة.
البداية:
بداية سلسلة الفروض التى حضرتنى هى أن: العلاج الجمعى هو فعل الشعر.
فما هو الشعر الذى أعنيه وما هو فعل الشعر؟
مازلت أذكر مقدمة لصلاح عبد الصبور، تساءل فيها عن الشعر هل هو “حالة أم حلية أم أسلوب”، وأذكر أنه انتهى إلى أنه “حالة”، وقد فهمت الآن ماذا كان يقصد صلاح بكلمة “حالة”
نحن نبدأ جلسة العلاج الجمعى بسؤال “مين اللى عايز يشتغل؟” و فى البداية يفهم أغلب المشاركين إن لم يكونوا كلهم أن السؤال مرادف لـ “مين اللى عايز يتكلم”، وعادة ننبه إلى رفض هذا الترادف، ونحاول أن نحدد الأمور منذ البداية ونحن نؤكد الفرق بين “الشغل” و”الكلام”، والذى يساعدنا تماما فى ذلك هو الالتزام بقاعدة “هنا – الآن &أنا وانت” (أنا وانت & هنا ودلوقتى)، وبالتدريج يصبح الكلام هو مجرد وسيلة لتحريك “الشغل”
وهكذا نعيش فى حالة “معا”: وعى مقابل وعى ووعى وعى “معا” (انظر نص اللعبة)
– إذا كان الشعر حالة كما يقول عبد الصبور
فالعلاج الجمعى حالة .
وإذا كان الشعر تحريكا للوعى بأدوات اللغة المتاحة لتصبح تشكيلا لغويا جديدا قادرا على إبلاغ رسالة التواصل والإنجاز، فإن العلاج، وهو ما اسميته “نقد النص البشرى”، (وأضفت إليه الآن بمناسبة الحديث عن العلاج الجمعى: “معا”) هو “ذلك الشعرى الآخر”: ممارسة حية بأكثر من الألفاظ .
وبعد
اضطررت أن أرجع لمفاهيم نقدية أساسيا لعلها تساعدنى على فهم العلاج الجمعى شعرا، من منطلق كيف أنه قصيدة جماعية تتشكل معنا معا،
رجعت إلى قضية فى النقد الأدبى اضطررت لاعادة قراءتها بمناسبة رواية جيدة للصديق د. زكى سالم (حكيم) نشرتُ لمحات عنها فى بريد الجمعة الماضى ، هذه القضية النقدية هى آلية التناصّ، وفوجئت بهذه التسلسلات تسرى فروضاً لتفسير ما يجرى فى العلاج الجمعى هكذا:
الفروض:
أولاً: الكيان الإنسانى نص بشرى سواء كان مريضا أو معالجا .
ثانياً: العلاج عامة والعلاج النفسى خاصة يبدأ بقراءة هذا النص قراءة إبداعية للتعرف على ماهيته أولاً.
ثالثاً: العلاج هو إعادة تشكيل هذا النص بمشاركة النص نفسه، هذا بالنسبة للمعالج ناقدا نصا، وللمريض نصا فناقدا (فى العلاج الفردى).
رابعاً: العلاج الجمعى هو قراءة فإعادة تشكيل عدد من النصوص معاً.
خامساً: يبدأ إعادة التشكيل بتعتعة النصوص المجتمعة معا ليتكون منها “الوعى الجمعى الضام”.
سادساً: حركية النصوص معاً، تتفاعل فى حيوية المواجهة ، وهذا هو ما يقابل الظاهرة النقدية التى تسمى “التناص“.
سابعاً: وعلى ذلك: العلاج كعملية قراءة فنقد (إعادة تشكيل النص البشرى) تقابل عملية التناص فى النقد الأدبى.
وبعد
أعلم أن هذا الفرض لن يلقى قبولا لا من الأطباء النفسيين ولا من النقاد، لكن دعونى أعترف أننى لم أجد مدخلا لتقديم ما يجرى فى تلاقى هذه النصوص البشرية هكذا أقرب إلى تقديم ما أريد إلا هذه الظاهرة المسماة “التناص”
تمهيدا لما يأتى بعد:
دعونى أكتفى الآن بتقديم بعض ملامح هذه الظاهرة “التناص”، وهى التى سوف أتناولها فى حلقة قادمة وبالذات من خلال قراءة “جدارية محمود درويش” ربما يساعدنا ذلك فى توضيح أهمية هذا القياس مقارنة بما يجرى فى العلاج الجمعى:
1- أوضح الدكتور محمد بنيس أن الشعرية العربية القديمة قد فطنت لعلاقة النص بغيره من النصوص منذ الجاهلية وضرب مثلاً للمقدمة الطللية ، والتي تعكس “قراءة أولية لعلاقة النصوص ببعضها وللتداخل النصي بينها”
– أليس هذا هو ما يجرى بين “النصوص البشرية” فى العلاج الجمعى؟
2- التناص هو: “اعتماد نص من النصوص على غيره من النصوص النثرية أو الشعرية القديمة أو المعاصرة الشفاهية أو الكتابية العربية أو الأجنبية ووجود صيغة من الصيغ العلاقاتية والبنيوية والتركيبية والتشكيلية والأسلوبية بين النصين”.
– أليس هذا هو ما يقابل أيضا تفاعلات وحوارات مستويات الوعى بين المشاركين فى العلاج الجمعى؟
3- “اللحظة” تتصل على الرغم من تفردها بتيار من اللحظات الفردية المتراكمة الأخرى”، وهذا ما يسمّى بتناص النصوص فالنص ابن النص، فكل نص هو إناء يحوي بشكل أو بآخر أصداء نصوص أخرى.
– أليس هذا هو ما يحدث فى العلاج الجمعى بعد التعتعة، فالشغل، فالمواجهة، أملا فى ولاف متجدد؟
4- (التناص) يتيح وقفة تأملية بين دلالاتين مختلفتين تتحدان معاً في نص واحد جديد مثيرة دلالات أخرى جديدة تحمل أكثر من بصمة وأكثر من بعد . ويستقي الشاعر التناص من مصادر متباينة.
– أليس هذا هو ما يقابل إعادة تشكيل الفرد (النص البشرى) فى العلاج الجمعى من خلال تجمع بصمات وعى الأفراد، (نصوص وحدات المجموعة معاً!!)
………
………
وإلى الحلقة القادمة مع العلاج الجمعى و”جدارية محمود درويش” أرجو أن تقبلوا اعتذارى .