نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 26-12-2020
السنة الرابعة عشر
العدد: 4864
العقل المصرى.. والاجتهاد
مقومات الاجتهاد (1)
مرة أخرى نلقى بالكرة مشتعلة ربما ترتطم بمدارات عقولنا الثابتة، إذ تفتح باب الحديث عن “الاجتهاد” رمز حرية العقل ودليل شجاعة التفكير، وقبل أن أدلى بدلوى فى هذه القضية، أود أن أحذر من خدعة تصور أن الحديث عن ظاهرة ما هو فى ذاته فعل مُغْنٍ، إذ ينبغى – مثلا – ألا يلهينا الحديث عن أزمة التفكير عن ممارسة فعل التفكير نفسه، كما لا ينبغى أن يرضينا الحديث عن ظاهرة الاجتهاد بدلا من محاولة الاجتهاد ذاتها وهكذا.
الاجتهاد يعنى الحرية الفكرية الشجاعة التى تسمح بالإقدام على مراجعة المسلمات، بدءًا بتعريف المسلمات وإعادة تفسير ما سبق تفسيره ولو اجمعت الاغلبية على قبوله.
لا شك أن قدر الاجتهاد الممكن يرتبط ارتباطا مباشرا بمساحة السماح المتاحة، وهذه المساحة ترتبط ارتباطا مباشرا بكل أنواع السلطة ومدى طغيان الأفكار الجاهزة والعقل المصرى إذ يستعد ليأخذ دوره فى الدورة الحضارية الجديدة عليه ان يبحث عن المقومات التى تؤهله لذلك، وأولها تحصيل كل المعطى من المعلومات المتاحة باعتبارها مجرد أبجدية يصنع من حروفها كلماته الحضارية الجديدة المضيئة، ذلك انه يستحيل أن يكون للاجتهاد معنى أو قيمة أو جدوى اذا نبع من فراغ، فإن كثيرا من الأكفار التى تبدو أصيلة لا تدل ألا على جهل صاحبها، وضبط الجرعة بين الخضوع للموسوعية التحصيلية، وبين الإقدام على الاجتهاد الابداعي، هو الفعل اللازم لاتاحة الفرصة لنمو ثمار العقل بما يفيد ويبقي.
وأحسب أن تاريخ العقل المصرى لا يعلن تميزه بوجه خاص بفكر نظرى متكامل ، يشير إلى قدرته على الاجتهاد الشامل المغامر، فحتى ثورة اخناتون العقلية التوحيدية لم تأخذ شكل النظرية المتكاملة بقدر ما اتصفت بالحدس الصوفى والفعل الثورى الاجتماعى معا، وقد يرجع ذلك إلى طبيعة العقل المصرى الإيمانى العملى معا، مما قد يعزى بدوره إلى طبيعة الارض المصرية واتصافها بالبسط الجغرافى مع ارتباطها بدورات النيل وخيرها المنتظم كل عام، ألا أن التاريخ يقول أيضا أن تفاعل الحضارة الاسلامية مع يقين استقرار العقل المصرى على فكرة الخلود قد سمح بنمو الافكار الاجتهادية المضيئة، ومازالت مشاعل الشافعى أو ذى النون المصرى ترسل ضياءها حتى الآن.
على أن هذا الافتقار الى التنظير المتكامل لاينبغى أن ينقص من قدرتنا على الابداع والاجتهاد الفكرى المغامر اذ يظهر فى المجالات العملية والتطبيقية اساسا ذلك أن مجرد الاجتهاد الفكرى اذا لم يلحقه تحقيق ثورى فانه يظل صورة فنية لا فاعلية لها، وهى أن دلت على شرف العقل وطموح الوعى فهى لا تعدو أن تكون زينة المكاتب – مثل جمهورية أفلاطون – لا جدوى ملموس يمكن أن يقاس مع امتداد الزمن غير المحدود للوعى البشرى، كذلك فأن العكس صحيح، إذا لابد أن نعترف أن التغيير الثورى إذا لم يرتبط باجتهاد فكرى مسبق فى العادة فأنه يخاطر بلا ضمان.
والمشاهد الأمين لمرحلتنا الراهنة لابد وأن يلاحظ أن العقل المصرى يتمطى فى تكاسل خائف بعد طول سبات، وهو يتحسس طريقه بين شواهد القبور ومعلقات المتاحف، وعلى ذلك فأن اجتهاده محدود محدود محدود، وينبغى ألا نعجب ونحن نقلب صفحات التاريخ القريب فلا نجد نظرية مصرية صدرت فى ماهية الانسان وتفسير الحياة، ونمائية الوجود، اللهم إلا رسالة مطولة من فنان رائد الى قارىء ذكى (تعادلية الحكيم) ومقالا مسلسلا هرمى القوانين كتبه جراح عظام من هواة الفلسفة (وحدة المعرفة لأستاذنا د. محمد كامل حسين)، وعلى حد علمى فان موسوعية استاذنا العقاد الحافلة، وحتى أصلاحية عميدنا طه حسين الناقدة لم تقدم أى منهما على اجتهادات شاملة متكاملة، ومشاعل النقل الأمين التى حمل لواءها رواد الجيل السابق من أمثال أستاذنا زكى نجيب محمود وأحمد أمين وسائر من أثرانا بأبجدية المعرفة من كل صوب وحدب من أساتذة الجامعات ورهبان المكتبات والمعامل، كل هؤلاء الرواد كانوا يمهدون لنا طريق المعرفة حتى نستطيع أن نستعمل أبجديتها فى صياغة كلمتنا الجديدة بما يناسب لغة العصر واحتياجاته.
والآن أين من سيقولها؟؟ وكيف السبيل؟؟
إذا كان لنا أن نأمل فى أن نقوم بدورنا فى دورة الحضارة الجديدة فلابد من مقومات أساسية ليكون الاجتهاد هو شرف العقل ومسئولية الوعى فعلا، فلا يقتصر على تعديل هذه الجزئية أو يكتفى باعادة تفسير تلك الصورة الثابتة، وأرى أن من أهم تلك المقومات على سبيل المثال :
1 – ضرورة زيادة مساحة السماح، لا من جانب السلطة بأنواعها فحسب، وأنما من جانب الاحتكارات العملاقة لأسواق الأفكار سابقة التجهيز، سواء المصنعة فى المصانع السلفية المسلحة، أو المستوردة من بلاد اليأس والقهر والغرور، مع التنبيه على أن أخطر أنواع القهر الآتى من هذه المصادر هو ما تغلغل فى النفس حتى ليصبح قهرا داخليا يمنع إعادة التفكير أو حتى مجرد الحلم فيما هو مفروض أو مقرر، وبهذا يصبح الانسان سجين ما وضع فى داخل داخله وليس فقط ما وضع حوله من أسوار خارجية.
2 – ضرورة تناقص الشعور بالنقص تدريجيا (بما يشمل تناقص نقيض النقص ومكافئه وهو الشعور بالغرور أو الاستهانة) وذلك من خلال استمرار فعل المعرفة منذ الولادة وحتى الموت (قبل وبعد ودون المدرسة والجامعة والمعهد والمعمل .. الخ)
3 – الإصرار على استمرار الاستقرار مع أكبر درجة من التفاعل الحى الداخلى، فالاستقرار سوف يتيح الفرصة لاختيار الأفكار إذ يمنع اجهاض أجنة الاجتهاد أولا بأول، والحركة التفاعلية الصحية سوف تضمن ألا ينقلب الاستقرار إلى مجرد موت تسكينى هامد.
4 – تنمية القدرة على الخطأ، وقبول شجاعة التراجع بمسئولية ومرونة.
5 – تشجيع التفكير المخالف والتدريب على حق إعادة النظر فى كل شىء: مادام الحوار متصلا والبقاء للأصلح وما ينفع الناس هو الذى يمكث فى الأرض.
وأخيرا: فلا شك أن زيادة مساحة السماح دون بذور اجتهادية كافية ونشطة قد يسمح لكثير من الحشائش الضارة أن تنمو، ولكن علينا الا نخشى ذلك، لأنها سرعان ما ستتضاءل بجوار الثمار النشطة نتاج هذا العقل المصرى الجدير بكل احترام القادر على كل إثمار.
وبهذا وحده نكون قد اكرمنا عقولنا التى وهبها الله تعالى لنا باستخدامها فيما خلقت له، ومن ثَمّ نكون أهلا لحمل أمانة التفكير.
[1] – نشرت بالأهرام بتاريخ: 13-4-1980