الأهرام: 13 / 4 / 1980
العقل المصرى.. والاجتهاد
مقومات الاجتهاد
مرة أخرى تلقى هذه الصفحة بالكرة مشتعلة, ترتطم بمدارات عقولنا الثابتة, اذا تفتح باب الحديث عن ‘الاجتهاد’ رمز حرية العقل ودليل شجاعة التفكير, وقبل أن أدلى بدلوى فى هذه القضية, أود ان أحذر من خدعة تصور أن الحديث عن ظاهرة ما هو فى ذاته فعل مغن, اذ ينبغى – مثلا – الا يلهينا الحديث عن أزمة التفكير عن ممارسة فعل التفكير نفسه, كما لا ينبغى أن يرضينا الحديث عن ظاهرة الاجتهاد بدلا من محاولة الاجتهاد ذاتها وهكذا.
والاجتهاد يعنى الحرية الفكرية الشجاعة التى تسمح بالاقدام على مراجعة المسلمات, وإعادة تفسير ما سبق تفسيره ولو اجمعت الاغلبية على قبوله.
ولا شك اذن ان قدر الاجتهاد الممكن يرتبط ارتباطا مباشرا بمساحة السماح المتاحة, وهذه المساحة ترتبط ارتباطا مباشرا بكل انواع السلطة ومدى طغيان الأفكار الجاهزة.
والعقل المصرى إذ يستعد ليأخذ دوره فى الدورة الحضارية الجديدة عليه ان يبحث عن المقومات التى تؤهله لذلك, وأولها تحصيل كل المعطى من المعلومات المتاحة باعتبارها مجرد أبجدية يصنع من حروفها كلماته الحضارية الجديدة المضيئة, ذلك انه يستحيل أن يكون للاجتهاد معنى أو قيمة أو جدوى اذا نبع من فراغ, فإن كثيرا من الأكفار التى تبدو أصيلة لاتدل الا على جهل صاحبها, وضبط الجرعة بين الخضوع للموسوعية التحصيلية, وبين الاقدام على الاجتهاد الابداعي, هو الفعل اللازم لاتاحة الفرصة لنمو ثمار العقل بما يفيد ويبقي.
وأحسب ان تاريخ العقل المصرى لا يعلن تميزه بوجه خاص بفكر نظرى متكامل , يشير الى قدرته على الاجتهاد الشامل المغامر, فحتى ثورة اخناتون العقلية التوحيدية لم تأخذ شكل النظرية المتكاملة بقدر ما اتصفت بالحدس الصوفى والفعل الثورى الاجتماعى معا, وقد يرجع ذلك الى طبيعة العقل المصرى الإيمانى العملى معا, مما قد يعزى بدوره الى طبيعة الارض المصرية واتصافها بالبسط الجغرافى مع ارتباطها بدورات النيل القدرية, الا ان التاريخ يقول أيضا ان تفاعل الحضارة الاسلامية مع يقين استقرار العقل المصرى على فكرة الخلود قد سمح بنمو الافكار الاجتهادية المضيئة, ومازالت مشاعل الشافعى أو ذى النون المصرى ترسل ضياءها حتى الآن.
على أن هذا الافتقار الى التنظير المتكامل لاينبغى أن ينقص من قدرتنا على الابداع والاجتهاد الفكرى المغامر اذ يظهر فى المجالات العملية والتطبيقية اساسا ذلك أن مجرد الاجتهاد الفكرى اذا لم يلحقه تحقيق ثورى فانه يظل صورة فنية لا فاعلية لها, وهى ان دلت على شرف العقل وطموح الوعى فهى لاتعدو أن تكون زينة المكاتب – مثل جمهورية أفلاطون – لا جدوى ملموس يمكن أن يقاس بوحدة الزمن المتاح للوعى البشري, كذلك فان العكس صحيح, اذا لابد أن نعترف أن التغيير الثورى اذا لم يرتبط باجتهاد فكرى مسبق فى العادة فأنه يخاطر بلا ضمان.
والمشاهد الأمين لمرحلتنا الراهنة لابد وأن يلاحظ أن العقل المصرى يتمطى فى تكاسل خائف بعد طول سبات, وهو يتحسس طريقه بين شواهد القبور ومعلقات المتاحف, وعلى ذلك فان اجتهاده محدود محدود محدود, وينبغى ألا نعجب ونحن نقلب صفحات التاريخ القريب فلا نجد نظرية مصرية صدرت فى ماهية الانسان وتفسير الحياة, ونمائية الوجود, اللهم إلا رسالة مطولة من فنان رائد الى قاريء ذكى (تعادلية الحكيم) ومقالا مسلسلا هرمى القوانين كتبه جراح عظام من هواة الفلسفة (وحدة المعرفة لا ستاذنا د. محمد كامل حسين), وعلى حد علمى فان موسوعية استاذنا العقاد الحافلة, وحتى اصلاحية عميدنا طه حسين الناقدة لم تقدم أى منهما على اجتهادات شاملة متكاملة, ومشاعل النقل الأمين التى حمل لواءها رواد الجيل السابق من امثال استاذنا زكى نجيب محمود وأحمد أمين وسائر من أثرانا بأبجدية المعرفة من كل صوب وحدب من أساتذة الجامعات ورهبان المكتبات والمعامل, كل هؤلاء الرواد كانوا يمهدون لنا طريق المعرفة حتى نستطيع أن نستعمل أبجديتها فى صياغة كلمتنا الجديدة بما يناسب لغة العصر واحتياجاته.
والآن أين من سيقولها؟؟ وكيف السبيل؟؟
اذا كان لنا أن نأمل فى أن نقوم بدورنا فى دورة الحضارة الجديدة فلابد من مقومات أساسية ليكون الاجتهاد هو شرف العقل ومسئولية الوعى فعلا, فلا يقتصر على تعديل هذه الجزئية أو يكتفى باعادة تفسير تلك الصورة الثابتة, وأرى أن من أهم تلك المقومات على سبيل المثال :
1 – ضرورة زيادة مساحة السماح, لا من جانب السلطة بأنواعها فحسب, وانما من جانب الاحتكارات العملاقة لأسواق الافكار سابقة التجهيز, سواء المصنعة فى المصانع السلفية المسلحة, أو المستوردة من بلاد الياس والغرور, مع التنبيه على أن أخطر أنواع القهر الآتى من هذه المصادر هو ما تغلغل فى النفس حتى ليصبح قهرا داخليا يمنع اعادة التفكير أو حتى مجرد الحلم فيما هو مفروض أو مقرر, وبهذا يصبح الانسان سجين ما وضع فى داخل داخله وليس فقط ما وضع حوله من أسوار خارجية.
2 – ضرورة تناقص الشعور بالنقص تدريجيا (بما يشمل تناقص نقيض النقص ومكافئة وهو الشعور بالغرور أو الاستهانة) وذلك من خلال استمرار فعل المعرفة منذ الولادة وحتى الموت (قبل وبعد ودون المدرسة والجامعة والمعهد والمعمل .. الخ)
3 – الاصرار على استمرار الاستقرار مع اكبر درجة من التفاعل الحى الداخلي, فالاستقرار سوف يتيح الفرصة لاختيار الأفكار اذ يمنع اجهاض أجنة الاجتهاد أولا بأول, والحركة التفاعلية الصحية سوف تضمن أن لا ينقلب الاستقرار الى مجرد موت تسكينى هامد.
4 – تنمية القدرة على الخطأ, وقبول شجاعة التراجع بمسئولية ومرونة.
5 – تشجيع التفكير المخالف والتدريب على حق إعادة النظر فى كل شيء مادام الحوار متصلا والبقاء للأصلح وما ينفع الناس وبعد
فلا شك ان زيادة مساحة السماح دون بذور اجتهادية كافية ونشطة سوف يسمح لكثير من الحشائش الضارة أن تنمو, ولكن علينا الا تخشى ذلك, لأنها سرعان ما ستتضاءل بجوار الثمار النشطة نتاج هذا العقل المصرى الجدير بكل احترام القادر على كل إثمار.
وبهذا وحده نكون قد اكرمنا عقولنا التى وهبها الله تعالى لنا باستخدامها فيما خلقت له, ومن نكون أهلا لحمل أمانة التفكير.