نشرت فى جريدة الأحرار
بتاريخ: 10/5/1982
العقل العربى والمحظورات السبعة!
قضية الحرية أعمق من كل تناول وأعقد من كل تصور، ولا سبيل اليها ألا بها. وقد لفت نظرى على صفحات “الاحرار” (عدد1-3- 1982) مقال أمين عن كاتبة أدبية مرهفة الحس (صافيناز كاظم) ترد فيه على قلم عربى ناقد صحفى شاعر (عبد الله الجفرى) وبدأ لى مقف الكاتبة شديد الاخلاص بالغ الشرف، فقد استطاعت أن تقول كلمة حق مواضعه، وأن ترى أبعد من قضبان اللحظة، وأعدل من خوف السلطة !!!
والظاهر أن الفرصة سائحة – أكثر من أزمان أخرى : سابقة، وربما لاحقة – لنحاول من جديد تحديد مساحة الحركة المتاحة إلى ذلك هو أن ننظر فيما حولنا لنرى أصناف المعروضات الفكرية حدودها وطبيعتها، فتستطيع بجهد صعب أن نميز ثلاث مناطق (ليست جغرافية بالضرورة رغم الأسماء)
الأولى: ونسميها المنطقة البيروتيه(وتشمل باريس ولندن العريقتين) حيث يسمح فيهما بنشر أى شيء وكل شيء بما يشمل الفخر والمديح والهجاء والالحاد والثورة وزخارف الكتب المقدسة. . الخ، وهذه المنطقة “أروج” أسواق الفكر وكأنها تمثل “سوبر مارك الفكر العربى المعاصر”
(ملحوظة: لا يعوق هذا النشاط، بل ربما تغذيه حمامات الدم والتصفيات الجسدية وتعدد الفرق.. مما يحتاج للتأمل .. تأمل!)
أما المنطقة الثانية: فيمكن أن تمثلها المنطقة الخليجية التقليدية، وهى التى تسمح بتصدير واستيراد الفكر، فتتحدث عن “الحرية للتصدير” دون المساس بالنظم المحلية وتستجلب التراجم والافطار العلمية للديكور والافادة الجادة أحيانا، هى تستغرق فى الاتقان اللفظى وتتصف بالحذق والصقل فى أغلب الأحيان، لكنها لا تمس القضايا التنويرية الاساسية اللهم الا فى اطار تاريخى أو تجديد سلفي.
أما المنطقة الثالثة : ويمكن سميتها بالمنطقة الأيديولوجيه (البعثية أو اليسارية) – وهى تشمل دعاة يتحدثون بلهجات مختلفة، ولكن بنفس درجة الصياح والحماس، وتمثلها سوريا وربما العراق، وليبيا وربما الجزائر وهى تسمح بالحرية فى اتجاه واحد.
والعقل العربى – رغم كل ذلك أو بسببه – يرزح تحت قيود داخلية تمنعه من الحركة الحقيقية لمحاولة الابداع .. فالتنوير.
وحتى النشر المتلاحق فى المنطقة الاولى لا ينبع غالبا منردفع حضارى مغامر متجدد، وانما من فرص تجارية تغذى احتياجات اغترابات ثقافية منسلحة، لا يمكن أن حرك الوعى وتغير نوع الوجود العام ما لم تصبح معايشة كيان لا بريق فكر، ومعاناة مخاض لا ديكورات عقل، وانتشار موجات الوعى للافاقة لا مبارزات هجاء وفخر.
والحديث عن القيود الخارجية من قهر وسلطة ومال وسياسة حديث صادق ومفيد، الا أن هناك قيودا داخلية (هى تراكمات من الخارج لا محالة ولكن من تاريخ قديم) لابد وأن نلتفت اليها حتى لا نستبدل بسلطة المال سلطة الدولة أو العكس دون أى سعى حقيقى نحو الحرية.
وقد تصورت قانونا داخليا يحكم العقل العربي، ولنسمه “قانون الطوارىء الفكرى المزمن” وهو يحدد المحظورات التى ينبغى تجنبها والا. . واليكم نص مواده:
تمهيد: رغم الاطلاع على الظروف الخطيرة التى تتحدى البشرية المعاصرة فى كل مكان، وفى العالم العربى بشكل أخطر وأخفى معا وأطمئنانا إلى أبيات عمودية من الشعر العربى المقفى وإلى نسبة حضور “المتحدثين” فى كل مكان وصحيفة، ورضا عن عدد المؤتمرات والندوات والتوصيات المتواصلة، قررنا الالزام والالتزام بكل ما هو “ساكن” مهما تغيرت الاسماء، ولتحقيق ذلك :
مادة (1) عن الدين:
يحظر التفكير فى الدين أصلا الا فى حدود التفسير المعلن والثابت والمجمع عليه، ولتأكيد هذا الحظر ينبغى أن يعلن كل مناور – يمينا أو يسارا – أدعاء تطبيق الشريعة الاسلامية، وهذا لا يعنى حظر خرق القيم الدينية “سلوكا سريا” مادام ذلك لا يخل بنظام الدولة.
مادة (2) عن الصفوة:
يمنع منعا باتا أن يعلن أى فرد أنه أحسن من أى فرد من مجموع العامة، بمعنى أنه يحظر الانتماء للصفوة حتى لو كانت هذه الصفوة صفوة فكرية أو حضارية , ولكن يسمح لكل “من يقدر ‘ , وذلك فى أى مجال من العاب الوى السلطوبة : الحزبية والدينية والاقتصادية.
مادة (3) عن الاشراكية:
يعتبر مخلا بالعرف والخلق والاصول والسياسة ومفشيا للسر كل من تطاول على ما يسمى الاشراكية، وذلك تأكيدا للتسوية السرية بين صراع النظم الاقتصادية وحتى يتم النمو الاقتصادى بالشطارة التلقائية فى الواقع العملى سواء عن طريق أوهام كراسى السلطة أو الاعيب سماسرة البورصة.
مادة (4) عن الديمقراطية:
على نفس القياس، بمنع تماما وكليه المساس بكلمة الديمقراطية ويلتزم أى نظام ملكى أو عائلى أو شمولى بوليسى أو فردى دكتاتورى أو انتخابى قبلى أن يسمى نفسه ديمقراطيا، ولا يختلف فى ذلك من لايعنى ما يدعيه عن من ينوى صراحة ضرب الديمقراطية فى صميم قلبها بعد توليه السلطة التنفيذية.
مادة (5) حول ذات أى رئيس:
غير مسموح أصلا، وتحت أى عنوان، أن يوجه النقد المحلى لأى رئيس محلي، مادام هذا الرئيس فى كرسى السلطة، ونحن يمكن أن ننقد بأذن الله بأثر رجعى بعد وفاته.
أو فى القليل بعد انتهاء مدته وهذا احتمال نظرى فى عالمنا العربى فاذا كان ذا شعبية ممتدة بعد الموت، يكتفى بنقد أى بطانة أو مراكزقوى دون شخصه.
ولكن يسمح بنقد رؤساء الدول الاخرى حسب حجم الديون واتجاه الرياح السياسية.
مادة (6) حول الثورية:
محظور على كل مفكر كائنا من كان أن يجرؤ فيتصور أى حل حضارى سوى الحل الثوري، وياحبذا العنيف، وكل من يجرؤ على التطاول على هذا الحل (مهما برر تطاوله بمحاولة استيعاب تلاحق خطى العصر التكنولوجى التى تتحدى – أصلا – ايقاع الثورات التقليدية، يعتبر ضعيف العقل أوصاحب غرض دونى أو على أحسن الفروض جبانا رعديدا.
مادة (7) عن الأرقام العلمية وقداسة التخصص:
لا يجوز استعمال المنطق السليم أو المنطق العام أو الحدس الشعبى أو حكم التاريخ فى مواجهة أرقام تخرج من مراكز علمية متخصصة، حتى لو أدت مثل هذه الارقام إلى الانحلال أو الانقراض، وذلك حرصا على قداسة الجالسين فى محراب الكهانة العلمية والتكنولوجية المعاصرة.
خاتمة:
يعمل بهذا القانون بأثر رجعى من أول منحدر التخلف ويستمر العمل به لحن نفاد البترول الخام وتمام الاستسلام لاستعمار العقلى القادم ولا ينسخ هذا القانون الا فصل حضارى شامل أقوى من كل بنوده.
وبعد..
فأن مصر بوضعها الفكرى غير البيرونى أو الخليجى أو البعثى لتستطيع أن تنتهز الفرصة الحاليةلتتخطى كل هذه المحظورات فى مسئولية مناسبة فتترى من واقع تاريخها وقدرات أبنائها لترى من حولها إلى نهاية العالم فهى قد غامرت بمخاطر السلام، ويمكن أن تتمتع بالاستقرار، وأن تنمى الحوار، وأن تدفع بالاقتصاد الحقيقى (الزراعة والصناعة والسياحة) لتتحرك العقول فاتحة أبوابها لكل كلمة وخلاف وإيمان والحاد مادام الدافع وراءها هو الاخلاص والمثابرة، والفرص أمامها ممكنة ومستمرة، وبهذا وحده نستطيع أن نجنى ثمرة ثورة يوليو – مايو – , وأن نتحمل مسئولية قدر سبتمبر – أكتوبر – والا، فكل تقدم ظاهر هو مضروب مضروب، وانى لاتصور أن هذا الجهاد الشامل والاكبر إلى الحرية المسئولة المعطاء لهو أخطر وأصعب ألف مرة من صراع القوى الحكومية فى التنافس لشراء أطنان من الاسلحة لا نملك منهاالا حق الرقبة دون المنفعة.