نشرت فى الدستور
21-11-2006
العروسة والبورصة
(1)
قالت البنت وقد وضعت عروستها الضخمة بجوارها: “لكننى أحب ربنا أكثر”، قال أبوها: وأنا أحبه كثيرا جداً، فمن أدراك أنك تحبينه أكثر، قالت، لأنه يحبنى أكثر، قال: ومن أدراك أنه يحبك أكثر، قالت: لأنه لا يخيفنى أبدا، صمت أبوها، شعر أنه تعّرى فجأة فغمره خوف محيط، خوف من كل شئ وخاصة من الموت جوعا هو وأطفاله. لملم نفسه بسرعة، وقال لها فى غيظ: “لكن لابد أن نخافه حتى لا نعصاه، قالت البنت: أنا أخاف أن أعصاه، لكننى لا أخافه هكذا، قال لنفسه: هكذا ماذا؟ “كيف عرفتْ؟”.
(2)
حين قالوا له إن الفائدة تتناقص باستمرار، وأن التضخم يزيد باستمرار، لم يفهم الجملة الثانية، وسأل الناصح، فما رأيك؟ قال له: عليك بالبورصة. قال: يعنى ماذا؟ قال يعنى تشترى أسهماً فى شركة، فتصبح شريكا لواحد ناصح يفهم فى هذه الأشياء، هو ومن معه، تصعدون تصعد معهم، يهبطون تهبط، قال فى انزعاج: يهـْ .. ماذا، قال: “يهبطون”، قال ومالى أنا؟ لماذا أهبط معهم؟ قال الناصح: أنت شريك، هذا هو الحلال بعينه، قال للناصح: إنه شقى فى الغربة ثلاثا وعشرين عاماً بما يوازى ثلاثة قرون ونصف مما تعدون، كلها صبر ومذلة، وأنه ما كاد يفيق من الحلال الريّانى. قال الناصح:” آن الأوان أن تجعل رأسك برأس أجعص جعيص. قال: أهكذا؟ قال الناصح: أنت حر. قال الرجل “حرّ” يعنى ماذا؟ قال الناصح: يعنى تتعامل فى سوق حرة، عرض وطلب، وأنت وشطارتك، سأل: يعنى ماذا؟
(3)
سألتها أمها عن عروستها التى كانت لا تنام إلا وهى فى حضنها، فتصنعت أنها لم تسمع، فأعادت الأم السؤال، فقالت البنت: ضاعت، سألت الأم وهى تغمز بعينها: هل استعارتها صاحبتك ولو مؤقتا؟، ردت البنت مرتبكة: قلت لك أنها ضاعت، قالت الأم: كيف ضاعت يا حبيبتى وحجمها يفوق حجمك؟ قالت البنت وهى تنظر إلى تحت السرير:”لا أعرف”. التقطتْ أمها اتجاه النظر، وحاولت ألا تلاحظ البنت أنها رصدت نظرتها.
(4)
كان قد قرر ألا يعيش نفس الحسرة مهما فرضها قدر البورصة الذى لم يفهمه أبدا، الأولاد لهم ربهم، لم يعد يستطيع، نظر إلى النيل أمام سميراميس وقال: أنا قادم”، لكنه بدلا من أن يسير إليه تذكر- فجأة- علاقته المحدودة بها، فانتفض وكأنه صحا من نوم عميق، واستدار رأيه فمساره 180 درجة، وكر عائدا متوجها إلى ميدان التحرير وهو يلوح بيده للنيل ساخرا: “آسف، انتظرنى بعد الفاصل”.
مع أنه لم يشربها فى حياته إلا مرتين مختلفتين: الأولى حين ضغطوا عليه للمشاركة فى تذوق سائل خمّروه فى المنزل تحت قطر الندى، ارتشف منه رشفة نزلت فى زوره كالنار الحارقة، ولم يكمل، والثانية حين ضغطوا عليه مرة أخرى بنوع آخر أطيب نكهة، فاستطعمه، لكن المصيبة يومها لم تكن فى زوره، بل فى “كُلِّه”: ليلتها: ضحكَ، ولعبَ، وبكىَ، وغنّى، ونَسَىِ، وفّكر، ورقص، ونامْ، لكنه فى الصباح لم يستطع أن يرفع رأسه من الصداع، تاب وأناب، وأقسم ألا يقربها حتى يموت. قال لنفسه وهو متجه نحو ميدان التحرير: هذا أوانها وليكن ما يكون، استراح وكأنه أتم المهمة قبل أن يبدأها، راح يدندن بيقين: “الشىء هو الحل”: شارع سليمان باشا فميدان التوفيقية.
ولم يعرف كيف وجد نفسه فى سريره صبحا.
(5)
انزعجت البنت حين وجدت لعبتها فوق السرير لا تحته، فرحت وخافت وترددت فلحقتها أمها تطبّها قائلة: أنا أحبها مثلما تحبينها يا حبيبتى، فلماذا أخفيتِها. قالت لها: خفت أن أعبدها من دون “الله” فزعت أمها حتى كادت تقفز؟ من قال لك هذا الكلام يا بنت؟ قالت: عمى بيومى، أخافنى حتى حفظت ما قاله، قالت الأم: متى؟ قالت حين زارنا، ولم يجد أبى، وضبطنى ألعب بها وأكّلمها، صمتت الأم ذاهلة ثم عادت تقول: فرُحتِ أنت ترددين ما حفظت كالببغاء، قالت: عمى أخافنى، فخفت خوفا من الذى يخافه أبى، أنا ما زلت أحب ربنا أكثر يا أمى، فلماذا أخاف خوفهما؟ .
صمتتا وطال الصمت فاندفعت البنت ودفنت رأسها فى حجر أمها التى احتوتها وهى تنشج بانتفاضات متقطعة، رفعت البنت رأسها وقالت: لماذا سيسافر أبى ويتركنا لعمى بيومى يخيفنا هكذا، قالت أمها: أبوك يسافر لأنه يخاف أن نجوع يا حبيبتى.
(6)
راحت الأم تحكى لزوجها ما كان وهى تعد له حقيبة السفر.
قال لها: لا تنزعجى، عام واحد فقط، قالت: نفس الكلمات أسمعها للمرة الرابعة والعشرين،. قال لها: أنا شبعت ذلا، قالت: وهذا أيضا سمعته كل مرة.