يحيى الرخاوى طبيب نفسى
نبذة: نقد لالحاح الكتابة (والنشر) على كثير من الأفلام، بدرجة متواضعة من المسئولية أو بلا مسئولية، مع تذكرت بقصيدة صلاح جاهين أن عدم الكتابة مهما ألم هاتف الكتابة هو نوع من الحرية “حاكتبها وإن ما كتبهاش أنا حر: الطير ما هو سن ملزوم بالزقزة” (يشير إلى حواره مع قصيدة واعدة لم تولد بعد).
الأهرام: 3-6-2002
الطير ليس ملزما بالزقزقة !!
إن ضرورة التغير (وليس فقط التغيير) أصبحت الآن’فرض عين’- إذا قام به البعض لم يسقط عن الباقين. ليس فقط بمناسبة ما يجرى حولنا من تدفق دماء وتناثر أشلاء أبنائنا وبناتنا، وإنما أيضا هو الإحياء الإيجابى لذكرى خمسة يونيو (بعد غد) بطريقة أخرى غير جلد الذات. إن فرض العين يذكرنا بأن كلا منا طائره فى عنقه، وأننا نقابل ربنا ويحاسبنا الآن، وفيما بعد، فردا فردا، وأنه سبحانه يطالبنا بهذا التغير كشرط مسبق ليتفضل علينا بتغيير ما بنا.
وهكذا رحت أراجع نفسى استجابة لتساؤلات بعض القراء و قليل من الأصدقاء عما جاء فى المقال السابق عن جدوى الكتابة للناس، وأنواعها وإلحاحها.
إن الحاجة إلى الكتابة غير الحاجة إلى الكلام، إن الشخص الأمى لا يشعر بهذا الإلحاح كى يسجل بعض ما يعـن له مرموزا بعيدا عنه، لكنه لا يستطيع أن يكتم الكلام. ثمة مناطق مشتركة تربط بين الحاجة إلى الكتابة والحاجة إلى الكلام مثل منطقة التنفيث أو التفريغ أو الفضفضة، تلك الحاجة التى عبر عنها صلاح جاهين فى بيته المشهور’يا عندليب ما تخافشى من غنوتك’، كتم الغنا هوه اللى حايموتك’، لكن عامة الناس قد بالغوا فى قيمة الفضفضة، مع أنها ليست سوى بداية لا معنى لها إلا إذا اكتملت بإعادة التشكيل باتخاذ موقف ‘آخر’.
صلاح جاهين – أيضا – فى قصيدته المسماة ‘قصيدة’ (ديوان قصاقيص ورق) رسم صورة شعرية جميلة توضح كيف أن الكتابة يمكن أن تكون قهرا، لكن ثمة كتابة هى الأقرب إلى الطبيعة الغناء يكون صاحبها مختارا أن يفعل أو لا يفعل. يعلن صلاح أنه ‘فى يوم من الأيام راح اكتب قصيدة ‘ ثم يروح يعدد ما ينوى أن يكتبه فيها : ‘عن السما، عن ورده على رأس نهد، عن قطتي، عن الكمنجه الشديدة. عن نخلتين فوق فى العلالى السعيدة. عن عيش بيتفتفت فى أوده بعيده، عن مروحه م الورق، عن بنت فايره من بنات الزنج، عن السفنج، عن العنب، عن الهدوم الجديدة، عن حدايات شبرا، عن الشطرنج، عن كوبرى للمشنقه، عن برطمان أقراص منومه، عن مهر واثب من على سور حديد، وف بطنه داخله الحديده. عن طفل بقميص نوم، عن قوس قزح بعد الصلا فى العيد. عن طرطشات البحر’ وبعد كل ذلك انتهى صلاح إلى أنه غير ملزم بكتابة أى من ذلك: ‘حاكتبها، وان ماكتبتهاش أنا حر،الطير ماهوش ملزوم بالزقزقه’.
من هذا المنطلق : يمكن أن نتساءل : لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ وهل يستطيع أحدنا أن يتوقف عن الكتابة ليثبت لنفسه (على الأقل) أنه حر؟ وهل أغلب الكتابة هى من باب تجنب ‘كتم الغنا’، أو هى استجابة لـ ‘قهر الزقزقة’التى حاول صلاح أن ينفيه عن الطير الحر؟ أم هى لغير ذلك؟.
لا مفر من الإقرار – ابتداء- أننا نحتاج لأنواع كثيرة من الكتابة، وأن تفضيل بعضها لا ينفى ضرورة الأخري. مثلا لا يمكن استبعاد فائدة الكتابة كأداة لازمة لأعمال راتبة، مثل الكتابة الإدارية، والرسمية، والتوثيقية،(كل ذلك ينجح بقدر وفائه بغرضه)، أما الكتابة’للناس’فقد حاولت النظر فيها اجتهادا فوجدت :
أولا :ثمة كتابة تقريرية معلوماتية (إعلامية أحيانا) تبدأ من كتابة الخبر حتى الاستعراض الموسوعي. وقد اتسعت دائرة هذا النوع بعد الانتقال إلى عصر المعلوماتية وما تتيحه من وسائل الاتصال والاطلاع (الإنترنت) من فيض قد يغرق قارئها فيما لا يريد.
ثانيا : ثمة كتابة مغتربة وهى التى لا تضيف جديدا ولا حتى من باب الإخبار، ويمكن أن تشمل كتابة تزجية الوقت (إن كان ثم وقت)، أو كتابة تحصيل الحاصل..إلخ
ثالثا: ثمة كتابة توظف لدفع معين، مثل الكتابة التحريضية، وهى ليست مفرغة أو مغتربة تماما مثل سابقتها، لكنها قد لا تعدو أن تكون دغدغة لاحتياج الناس، على حساب الموضوعية فى بعض الأحيان.
رابعا : ثمة كتابة استعراضية سواء كان ذلك باستعراض المعلومات للتباهى بالموسوعية، أو كانت لاستعراض حذق التمكن من تزويق الشكل. (أنا لا أكتب، لكننى أتجمل). يدخل فى ذلك ما أسميته فى المقال السابق ‘الكتابة النرجسية’ التى تبدأ بتلميع صورة صاحبها وتنتهى (غالبا) بذلك أيضا.
خامسا:أما الكتابة التى أتصور أننا فى أمس الحاجة إليها فى هذه الأيام خاصة (دون استبعاد غيرها بالضرورة) فهى التى تقوم هى نفسها بوظيفة أن يكتشف الكاتب ما يكتبه من خلالها، هذه كتابة إبداعية يعرفها من يبدأ القصيدة أو الرواية أو حتى المقال فيكتشف من خلال ما يكتبه أنه يتعرف على ما يعرف غير ما كان يظن أنه يعرفه، وهو يعيد – بهذه الكتابة- تشكيل ذاته و’الآخر’ فى ممكن جديد.
هذا النوع يثير فى صاحبه إلحاح حاجتين متداخلتين: الأولي، الحاجة إلى المشاركة ( كأنه يقول: يا حبذا لو نجحت بما أكتب أن يشاركنى آخر يكتشف ما وصلني)، والثانية، الحاجة إلى الشوفان (وكأنه أيضا يقول: يا سعدى لو رآنى آخر كما رأيت نفسي، رآنى غير ما كنت أظن، وغير ما كان يظن).
هذا النوع من الكتابة هو القادر على تحريك الوعي، ويمكن أن يسمي’الكتابة الفعل’، أو’الكتابة الشعر’.
نحن فى حاجة إلى كل أنواع الكتابة، لكن علينا أن نجتهد لنوازن بين الجرعات إذا كنا قد قررنا أن نتغير وفاء بفرض العين الذى فرضته وتفرضه الأحداث الأخيرة علينا. يلزم ذلك فى الكتابة وفى كل مجال دون انتظار. نبدأ حالا بالتغير فردا فردا، آملين بذلك أن يلطف بنا الحق سبحانه وتعالي، فيغير ما بنا كما وعد.