الأهرام 25 -12- 1999
الطفل “سلطان زمانه”
وكيف نعلمه الرحمة؟
أمر خطير وشاق أن تصدم الناس بمعرفة لا يتوقعونها، أو لا يريدونها، فيهتز بعضهم، ويزداد وعى أقلهم، ويلعنك الباقون، ولكن أخطر منه أن تجاريهم لترفيههم، فتحجب رؤيتك عنهم طلبا للسلامة، ومسايرة للشائع، حتى ولو كان الشائع يندرج تحت ما يسمى “علما” فى مرحلة ما.
ونحن نتحدث كثيرا عن براءة الأطفال (فى عينيه) وعن رقة الأطفال وعن طيبة الأطفال … الخ، وكل هذه التعابير صور شاعرية أكثر منها حقائق علمية، فمازالت دراسة تصور عواطف الأطفال – للأسف – مجرد إسقاطات وتأويلات، فالعواطف أقدم من التعبير عنها، ومعرفتنا بها ووصفنا إياها أمور مشكوك فيها إذا نظرنا فى أنفسنا فما بالك فى طفل آخر !!
ولكنا إذا ما راجعنا تاريخ التطور من ناحية، وتأملنا نكوص عواطف بعض المرضى إلى مرحلة الطفولة من ناحية أخرى، استطعنا أن نجد قبولا للقانون القائل “إن نمو الانسان الفرد، إنما يكرر تاريخ نمو الحياة (أى: الانتوجينيا تعيد الفيلوجينيا) لنقول فى شجاعة نسبية إن التعبير الشائع “الانسان حيوان ناطق” إنما يصدق على الطفل أساسا أو أولا، علما بأن مجرد الكلام لا يعنى التفكير المنطقى ولا الفعل المسئول.
فأين تقع الرحمة فى صفات هذا الحيوان الناطق؟
يبدو أن “الرحمة” صفة ذات جلالة، فهى الصفة التى اختارها الله تعالى ليصف بها ذاته فى كل بداية، وهى الصفة التى كتبها على نفسه واختص بها من يشار من عبادة إذا فلابد أن نميزها ابتداء من الشفقة المتعالية (يا حبة عينى!!) وعن التأثر العاجز (الصعبانية والمصمصة)، والرحمة لا تكون رحمة إلا اذا اقترنت بالعدل والقدرة معا، فليس رحيما من يتعاطف مع القريب دون الغريب، أو يشعر بآلام الانسان دون الحيوان وليس رحيما من يقف عاجزا أمام الظلم، أو من لا يستطيع قولة “لا” ولو من خلال قسوة ظاهرة “ومن يكون حازما فليقس أحيانا على من يرحم” ولنا أن نستنتج أن صفة هذه المواصفات المسئولة الناضجة لا توجد عند الأطفال – مهما كان تصورنا لوجودهم أو انطباع والدى: وراثى أو بيئى (دون الدخول فى تفاصيل علمية)
والتربية السليمة هى اتقان صحبة هذا الحيوان الناطق غير مراحل نموه الطبيعية دون افتراضات شاعرية، حتى يصل إلى الوجود البشرى المتكامل الذى فيه من صفات الله ما فيه – ومن بينها الرحمة موضوع حديثنا هذا.
أمثلة من الريف والحضر:
وأكاد أحس بالتساؤل والرفض لما أحاول أن أصف به الطفل من قسوة، ولكنى أتذكر منظرنا فى بلدنا ونحن نمسك بزنبور مسكين (زنبور) نخرج زبانه (مع بعض أحشائها … يا خيبه الجراحين الصغار) ثم نزق رجليه فى شق غابة مشطورة تدور أفقيا حول محور رأس قائم فى “سلة” من شجرة السنط، وإذ يحاول الزنبور المسكين أن يطير ورجليه فى شق، يدفع الغابة فتلف مثل “الساقية”، ونصيح فى سعادة بهذا الاختراع ونظل نهرج حواليه وهو يزن ويدور حتى يموت.
وأتساءل أين كانت الرحمة فى كل هذا؟
ثم منظر مجموعة من الأطفال وهم يربطون قطة حديثة الولادة من رقبتها يجرونها هنا وهناك دون احساس – حتى تقضى نحبها.
أما فى مجال أولاد الذوات (القدامى والمحدثين) فهواية الصيد العابث خير دليل على قسوة القلوب فنحن ندع أولادنا يقتلون العصافير (دون غرض وقاية لمحصول أو عنقود عنب) وينتزعون الأسماك من مجال حياتهم (دون دافع جوع أو نية شواء!! ولا أستطرد أكثر من ذلك لأدلل على قسوة الأطفال الطبيعية، ولكنى أصرخ فى وجه ذويهم أنه إذا أطلق الطفل قسوته بلا حسبا، فلأنه جاهل بعواقب الأمور، والمثل الصينى يقول “يقذف الأطفال الضفادع بالحجارة وهم يلعبون، ولكن الضفادع تموت جدا لا هزلا”، فالطفل لا يعرف معنى “الموت حقيقة” وفلعا إلا حول العاشرة، ولكن ما عذرنا نحن إذ نصفق لهذه الأفعال وننميها؟
فإذا كان الأمر كذلك – وهو عندى كذلك – فماذا نحن صانعون؟
أقول إن مجرد النصح والارشاد ليس مهمافاعلية ذات بال، ولكن القدوة الحسنة فى الجو المحيط الآمن المحب للحياة فى كل كائن هو الخلاص، وهو الأمل، بل كما أنه النصح الكاذب (غير المحق مع حقيقة مشاعر الناصح) خطيرة ومشوه فليس أبشع ولا أضر من منظر أم تلقن ابنها الرقة فى مراعاة شعور الضيوف القادمين بعد ساعة ليبدو مهذبا “ابن ناس” فى نفس اللحظة التى تنهال فيها على الخادمة (لا تنافقوا فتقولوا الشغالة) بالضرب والتعذيب والإهانة بلا حدود، أو فى القليل (بعد ارتفاع أسعارهن فى سوق الرقيق العصرى) بالاحتقار والرفض!! وأحذركم، فالطفل يعلم جيدا ومباشرة ما تخفى الصدور، مهما رسمنا على وجوهنا من تعبيرات، أو اختبأنا وراء ألفاظ تزعم حسن النية.
خلاصة القول: أن الطفل فى مراحله الأولى عدوانى قاس بطبعه، وهذا ليس عيبا فى دابة فإذا تقبلنا عدوانه وسمحنا له بتطويره وتوجيهه من خلال القدوة والوعى الهادي، كان أملنا فى الوصول إلى صفات الرحمن الرحيم واقعا وفعلا.
على أن أهم ما يمكن أن نضمن به نمو الرحمة بمعناها الحقيقى، هو أن نهرب كيف نضيف إلى براءة الطفل وطيبته صفات القوة والقدرة والعدل، مع تدريبه على التعامل المباشر مع الواقع المر بقسوته وتحديه، وتعليمه تجنب الإيذاء فى كل آن ولكن ما أصعب كل هذا، فى مجتمعنا هذا، فى وقتنا هذا”تلك هى المسألة الصعبة أن نعطى للطفل الحكمة والنضج، أن نشرب من لبن الطيبة: سر القدرة أن نصبح ناسا بسطاء فى قوة لكن فلنحذر دوما من غدر الشر المتحفز بالانسان الطيب”.