الاهرام: 26-6-2004
الطفل داخلنا، والعدل والمستقبل
حين يتحدث أحدنا عن إمكانية تحقيق الخير والحق والجمال ثم يضيف إلي ذلك قيمتي العدل والحرية، نتعجب أنه مازال بيننا من يذكر هذه الكلمات، ومن فرط شوقنا إليها نصدقه رغما عنا، لكن ما أن ننظر حولنا حتي نرعب من الجاري علي أرض الواقع، فنتيقن من شطح المتحدث، فنلتفت إليه غاضبين منكرين، ونحن نتساءل عن ذلك الطفل الذي ما زال يردد تلك الشعارات الجوفاء، لكننا نكتشف بعد قليل أن هذا الطفل هو بداخلنا: وأنه ما زال قابعا مصمما أنه هو الذي علي حق، وأن كل ما عدا ذلك باطل وقبض الريح (لا ياشيخ؟!).
يتحول شطح هذا الطفل إلي حقيقة محتملة حين نقرأ حكم محكمة العدل الدولية الصادر عصر الجمعة الموافق 9 الجارى. ثم قرار الأمم المتحدة فجر الأربعاء 21 الجاري (150 دولة ضد 6 دول وامتناع عشرة عن التصويت) وذلك بشأن جدار الكراهية الجاري إقامته في أرض فلسطين.
ما الحكاية بالضبط؟
كيف نقرأ حكم محكمة العدل الدولية، ثم قرار الأمم المتحدة، جنبا إلي جنب مع الجاري علي أرض الواقع؟ هل قضاة محكمة العدل الدولية أطفال مثل طفلنا الحالم؟ هل يمكن أن نعتبر مندوبي مائة وخمسين دولة مجموعة من الصبية يلعبون ويتغنون لتزجية الوقت. ثم ينفضون هاربين كل إلي ناحية بمجرد ظهور السيد القاهر وهو يلوح بيده بحق النقض الأمريكى.
***
نعود إلي الطفل فينا نردعه ليكف عن ترديد هذا العبث وهو يتغني بشعارات الحرية والعدل والخير والجمال، لكنه لا يرتدع، بل يخرج لنا لسانه وهو يذكرنا بأقوال خائبة نرددها أحيانا مثل أنه ‘لا يصح إلا الصحيح’، نتغافل عن شطحه، ونحن نستدعي اليأس الواجب نتيجة هول التمادي في الطغيان والقتل والتطهير العرقى. يتحدانا وهو يلوح من جديد بحيثيات حكم محكمة العدل والرقم الساحق لأغلبية الأمم المتحدة، فنرد بأنه لو كان للقاضي الأمريكي الوحيد في المحكمة حق الفيتو لما صدر حكم المحكمة ولا رأته الأمم المتحدة أصلا.
يرفض صاحبنا التسليم للواقع وهو يذكرنا بأن ما نسميه شطحا أو حلما ليس إلا ما يشهد به التاريخ علي مدي الدهور، وإلا فأين جدار برلين، وأين الإسكندر الأكبر؟ وأين نابليون؟ وأين هولاكو؟ وأين هتلر؟
نحتج بأن الماضي لا يقاس عليه بهذه السهولة، وأن الظلم ساد الحاضر بلا منازع، يرد بشماته ساخرة: فأين صدام حسين الآن؟ وأين ميلوسوفتشي حالا؟
*[**
يبدو أن من أعظم ما يميز النوع البشري هو قدرته علي الحفاظ علي الاتجاه السليم في نهاية النهاية، مهما انحرف المسار، قدرته علي الحفاظ علي نقاء الفطرة، مع اكتساب مقاليد القوة، في نفس الوقت، وأن هذا هو ما يؤهله للفوز في معارك التطور الممتدة، الجولة تلو الجولة.
النجاح الحقيقي ليس تسليما للبراءة، ولا خداعا بكلمات الشعر الملتبسة المسألة هي محاولة اختراق الصعب وأن نعيش الشعر واقعا مبدعا وأن نحافظ علي الأمل وسط برك الدم وتناثر الأشلاء، ونحن نواصل أكثر فأكثر اكتساب مقاليد القوة الأبقي، والأنفع، والأكثر إنسانية.
’تلك هي المسألة الصعبة:
أن نعطي للطفل الحكمة والنضج، دون مساس، بطهارته، بأمانته، بحلاوة صدقه أن نصبح ناسا بسطاء، لكن في قوة، أن نشرب من لبن الفطرة سر القدرة، لكن فلنحذز دوما: من غدر الشر المتحفز، بالإنسان الطيب”.
هذا ما سجلته يوما منذ ثلاثين عاما، استلهاما من رحلة العلاج لاستعادة خطي النمو، بدلا من التخميد الدائم بالمهدئات والتصلب.
يبدو أن التحدي الملقي علي كافة البشر الآن في كل المجالات هو أيضا حل مثل هذه المسألة الصعبة، ليس فقط في مجال العلاج النمائي التوجه، وإنما في كل مجال بلا استثناء.