نشرت فى الاهرام
17-10-2005
الطريق طويل… والفرصة هرّابة !
“الحياة قصيرة، والمعرفة ممتدة، والفرصة هرّابة، والتجربة تحتمل الصواب والخطأ، والحكم على الأمور من أصعب الأشياء”. هل تصدق أن هذا الكلام قيل منذ خمس وعشرين قرنا؟ وهو كلام فى الطب أساسا، قاله أبوقراط، أبو الأطباء. كان المرحوم الأستاذ الدكتور بول غليونجى قد صدّر به كتابه الصغير عن الغدد الصماء. ما علاقة هذا الكلام بالطب؟ هى أقوال تبدو أقرب إلى الفلسفة، لكن أبوقراط نفسه هو القائل “إن ما يصلح للفلسفة، يصلح للطب، وبالعكس”. فهل ما يصلح لكليهما يصلح للسياسة؟
المتابع لما يجرى عندنا استعدادا للانتخابات البرلمانية، مقارنا إياه بما يجرى حولنا فى العالم المتقدم، لابد أن يدرك كم هو طويل طريقنا إلى الديمقراطية. فى أهرام الخميس الماضى تناول المستشار “أيمن القفاص” مستشارنا الإعلامى فى لندن، ما يجرى فى مؤتمرى حزبى العمال والمحافظين فى بريطانيا، فى مقال بعنوان “تجديد شباب حزب بريطانى عريق…إلخ”، مع إشارة خفيفة إلى مؤتمر الحزب الوطنى الديمقراطى فى مصر. عدّد المقال الأسلوب الحضارى الذى تتم فيه المناقشات فى مؤتمرى الحزبين، وكيف يتدارسون الأخطاء، ثم كيفية التعلم منها، كما شرح المقال النقلة اليمينية لحزب العمال، وكيف أنه أصبح يخاطب جيوب البريطانيين أكثر من مخاطبته قلوبهم (عواطفهم الاشتراكية)، ثم شرح الثورة الشبابية فى حزب المحافظين التى وصلت إلى “..الإجماع على ضرورة تسليم راية زعامة الحزب إلى جيل الشباب..وأصغرهم الليبرالى الاتجاهات دافيد كاميرون الذىلم يبلغ التاسعة والثلاثين”، وكان رفض الجيل الأكبر واضحا من صحافة المحافظين نفسها، حتى أنها اعتبرت كينيث كلارك ديناصورا فات عهده. أظهر المقال أيضا كيف أن بلير لعبها هاتريك يمينية فى الزاوية العليا لمرمى حزب المحافظين، كما أشار أن بلير بنى سياسيته اليمينية تلك على إنجازات المحافظين التى استلمها عام 1997، حتى أصبح الخلاف الآن (فالتفضيل من الناخبين) بين يمين ويمين، أكثر منه بين عمال وأصحاب أعمال، أو بين يمين ويسار. المسألة تحسب عبر العالم بحسبة مدى إفادة أصحاب المصلحة فى توفير مطالب الحياة من أول لقمة العيش، والعمل والمواصلات، والعلاج، حتى فرص الإبداع تلقيا وإنتاجا (الحرية). باستثناء تدخل ألعاب قوى المال الخبيثة الظاهرة والخفية، والدغدغة المعلنة والسرية للأصولية الدينية (افى أمريكا وليس فى أوربا كما يبدو) تدور المعارك الانتخابية حول مصلحة أكبر عدد من الناس.
تصادف ظهور مقال المستشار القصاص مع خبر اتفاق شرودر وميركل فى ألمانيا على الائتلاف بعد أن اتفق مسؤولوا الحزبين على الوزارات التى تحقق برنامج كل، وبعد خلاف شخصى عابر على الرئاسة.
مقارنه أى من ذلك بما عندنا مزعجة، مازلنا فى سنة أولى ديمقراطية، أو قبل ذلك. القواعد الجارية عندنا ترجح كل ما ليس له علاقة بديمقراطية ألمانيا أو إنجلترا. خذ مثلا : اسم المرشح وشعبيته الذاتية ، وليس كفاءته السياسية أو استيعابه برنامج حزبه هى التى تحدد أهليته للترشيح. شعارات الدعاية الهتافية الغرائزية العاطفية أهم من تحديد معالم البرامج العملية، العلاقات الأسرية والعشائرية أهم من الوعى السياسى والمسئولية المستقبليـة، المصالح الشخصية والاستعداد للخدمات الفردية والاستثنائية، أهم من التخطيط العام وتصحيح الاقتصاد القومى…. إلخ إلخ
لا نستطيع أن نقول إنها بداية، لأننا بدأنا كثيرا قبل ذلك وما زلنا نكرر نفس البداية بنفس الأخطاء.
كان يمكن أن نتجن كل هذا، أو أغلبه، لو أن الانتخابات كانت بالقائمة النسبية، لكن يبدو أن الوقت فات،لا أعرف هل صحيح أنه فات ؟ كيف فات!؟، فعلا ياسيدنا أبوقراط: الطريق طويل، والفرصة هرّابة، و الخبرة تحتمل الصواب والخطأ، وإن كان الحكم على الجارى ليس من أصعب الأمور.