نشرة “الإنسان والتطور”
نشرة الاثنين : 20-3-2017
السنة العاشرة
العدد: 3488
الطبنفسى الإيقاعيوى التطورى (175)
الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع
تعدد مفاهيم الفصام (2)
مقدمة : قدمنا أمس أربعة مفاهيم مختلفة عن ما هية الفصام، ونواصل اليوم:
المتن (من كتاب : دراسة فى علم السيكوباثولوجى 1979) :
خامساً: المفهوم البيولوجى (1) The Biological Concept
الفصام هو إعلان للانفصال ما بين هارمونية دوائر الوعى المتصاعدة داخل المخ من ناحية ومع الهارمونى الكونى الخارجى من جهة أخرى, ففى الفصام تتفصد العلاقة بين مستويات المخ المختلفة، ولا يعود عمل الواحد منها يغذى عمل الاخر، لا فى تبادل متناسب، ولا فى تلاقٍ ولافى ملائم.
تعقيب وتحديث (2017):
الذى يتبادر إلى الذهن لأول وهلة حين يقرأ كلمه بيولوجى فى هذا العنوان أن هذا المفهوم سوف يشير إلى اضطراب نسب موصِّلات بعينها neurotransmitters فى المشتبكات النيورونية فى المخ البشرى، لكن يبدو أننى – وأنا أتذكر الآن – قد أغفلت ذلك بشكل متعمد برغم العنوان، وقد تبينت السبب من واقع الممارسة، فالتنظير اللاحق (والسابق!)، ذلك أننى رحت أتبين تدريجيا الطبيعة الكلية لدور الموصلات Transmitters من خلال علاقتها بطريقة ومستوى عمل العقاقير المختلفة ، مما سمح لى أن أتعامل معها بالعقاقير تعاملا نوعيا انتقائيا، وليس كميا مَوْضِعِيا، بمعنى أن التغيـّر الذى يحدث فى هذه الموصلات زيادة أو نقصا ليس هو سبب الفصام (أو أى مرض آخر) وإنما ما يترتب على هذا التغير، سواء كان نتيجة أم سببا، من إعادة تنظيم مستويات الدماغ (الأمخاخ) بحيث يتغير التركيب الكلى للمخ، وبالتالى يكون عمل العقاقير انتقائيا من خلال قراءة هذا التركيب المرضى هو: إعادة التوازن بين هذه الموصلات حتى تستعيد هذه المستويات تناغمها مع بعضها البعض ومن ثم تآلفها وتكاملها (وهذا ما سوف نرجع إليه تفصيلا فى فروض عمل العقاقير لاستعادة الهارمونى).
كذلك لاحظت أن التركيز على غياب العلاقة بين مستويات المخ دون الإشارة إلى علاقة ذلك بدوائر الوعى فى الهارمونى الخارجى هو نقص ينبغى تلافيه، لأن النشاز يشمل كل الدوائر عادة.
المتن:
الفصام (أو مكافـئاته فيما بعد) إنما يحدث إذا عجزت المعلومات المُدخلة عن المشاركة فى تنظيم حركية المادة البيولوجية المعلوماتية الجاهزة للتعامل مع هذه المعلومات لتدعيم الهارمونى الضرورى للتناسب والتناغم، أى إذا فقدت المعلومات دلالتها وأصبحت بلا معنى (2)، وهو الأمر اللازم لاكتمال وتناسق معالجتها وفعلنتها.
تعقيب وتحديث (2017):
لا أعتقد أن مجرد هذا الخلل يمكن أن يكون تفسيرا كافيا للاترابط الذى يحدث فى الفصام، وأرى أنه لا بد من إضافة أن عدم التناسب هنا لابد أن يبلغ درجة جسيمة، لا تتوقف عند صعوبة تمثيل المعلومات المدخلة واستيعابها فى عملية فعلنة المعلومات، وإنما لابد أن تمتد هذه الصعوبة إلى درجة تُعَجِّز بشكل كبير تكوين الوحدات الدالة على المعنى، اللازمة للتربيط، ومن ثم تصبح المعلومات “جسما غريبا” لا تستطيع حتى الذاكرة أن تختزنه إلا عشوائيا مفككا، كما لا تستطيع إعادة اجتراره لاحتمال هضمه فى النوم أو فى اليقظة.
المتن:
سادساً: المفهوم الغائى التطورى للفصام The Teleological Concept
قد يتعجب البعض كيف يكون للفصام هدف؟! ولتسهيل المهمة نقول أنه إذا كان للموت هدف فلا عجب أن يكون للفصام غاية .. وهدف الفصام هو النكوص – باللغة الشائعة – وقد أكد عليه ”سيلفانو أريتى” (3)تحت عنوان النكوص الغائى المتزايد Progressive Teleological Regression, – كما ذكرنا – كما أفاض شولمان Shulman فى تفسير أهداف أعراض الفصامى : ما بين تسهيل الانسحاب إلى تشويه المجتمع إلى تدعيم المنطق الخاص والموقف الخاص وغير ذلك، ولكن هذا وذاك هو غاية متوسطة لا تفسِّر بدرجة كافية مرمى الفصام، وعندى أن هدف الفصام هو “الموت” بالمعنى التدهورى إلى العدم، فإذا كان التطور (الحياة) هو “تقدم الكائن الحى (الانسان) باستمرار لتسهيل عمل أعضائه مجتمعة فى ذاته ككل، بأكبر قدر من التوافق والفاعلية لدرجة توليد تركيبات جديدة لاحتياجات أرقى وأعمق“, فإن التدهور هو عكس ذلك تماما، أى أنه “تدهور الكائن الحى باستمرار لإعاقة عمل أعضائه “معا”, متفسخا حتى العجز، ثم استمراره بأدنى قدر من التناسق والفاعلية لدرجة ضمور الأعضاء والكيانات غير المستعملة نتيجة للتوقف عند مستوى بدائي” وعلى ذلك فإذا كانت الحياة هى المرادفة لكلمة التطور، فإن الموت هو المرادف لكلمة التدهور، وكأن غريزة الموت التى قال بها فرويد – مع تحفظاتنا عليها - هى الغريزة الأعمق التى تستعيد نشاطها فى الفصام وتحقق أغراضها المرحلية فى شكل الفصام، قبل الموت العضوى الكامل، فغاية الفصام بهذه الصورة وطبقا لهذا المفهوم هو الموت الإنسانى وظيفيا، أى التدهور بالتوقف عن التقدم، والنكوص والتفسخ والتناثر، وهذا التدهور يبدو غير مقبول كظاهرة طبيعية فى الوجود الانسانى بنفس القدر الذى رفضنا فيه افتراض غريزة الموت كجزء من التركيب الحيوى، إلا أن الموت يمكن أن يخدم الحياة تطوريا بمعنى أنه يتيح الفرصة ويخلى المكان لكيانات أحدث (بالولادة) تحقق فى تقدم البشر ما لم تستطع أن تحققه الكيانات الكهلة التى تقلصت فانسحبت عند مستوى محدد للوجود، وبالمقارنة يمكن البحث والتوصل إلى عمق أى فرصة يتيحها الفصامى للتطور، إذ هو يرجح انتصار الموت المرحلى، وإنى أرى من وجهة نظر خاصة – كما سبق أن ذكرت – أن الفصامى بنكوصه وتوقفه وتفسخه يحقق هدفين معا، الأول: هدف خاص، وهو أن يحافظ على حياة المريض الجسمية على أى مستوى، بالتراجع إلى مستوى بدائى هربا من جرعة غير مناسبة من التعامل البشرى القائم، أو عجزا عن قفزة غير محسوبة تناسبا مع الكفاءة التطورية القائمة، إذا فانه بالرغم من النتيجة السلبية التى ينتهى إليها، فإنه يحمل ضمنا احتمال الانطلاق من جديد ليعاود المحاولة … ما دامت الحياة العضوية باقية، أما الهدف الثانى: فهو هدف عام، إذ أن الفصامى يعلن بتفسخه وتوقفه حقيقة قوة التدهور وتهديداتها، فيثير القوى التطورية المضادة فى بقية أعضاء المسيرة البشرية، وهو فى هذا يكاد يقوم بنفس دور الفنان الذى يعرى الحقيقة الموقظة المفزعة أحيانا حفزًا للتقدم.
فالفصام تراجُعٌ وتوقـّفٌ فاشل، ولكنه يحمل معنى الأمل بشكل غير مباشر …. طالما الحياة مستمرة، وهو فى نفس الوقت صرخة نذير لمن يحاول الاستمرار حتى لا يغفل حجم القوى المضادة.
وهناك أهداف جزئية تعمل فى ذاتها لخدمة التدهور لتحقيق هذا الموت والتجمد، هى جماع أعراض الفصامى وغاية وجودها وأهمها: (أ) توقف التعلم: بحيث تصبح الحياة مكررة فيتحقق الجمود المطلوب. (ب) توقف الزمن: بحيث تغلق دائرة الأحداث المتتابعة. (جـ) إلغاء الآخر: بحيث يزول التهديد بالسحق، وفى نفس الوقت يزول التهديد بالاستثارة فالنمو.
وهكذا نجد أن الفصام الصريح يمكن ترجمة كل أعراضه لتخدم هذه الأهداف المتوسطة نحو العدم، وهى التى يمكن أن توصل للهدف المحورى وهو الموت النفسى، ومن واقع هذه الرؤية، فإن هذا المفهوم الغائى التطورى للفصام يفتح بابا واسعا يكاد يدخل منه كثير من صنوف السلوك “العادي” أو المشتمل فى الزملات المرضية الأخرى التى تتفق مع الفصام فى تحقيق هذا الهدف، نرجع مرة ثانية للقول بأن غلاة الثائرين الذين يدمغون المجتمعات المتجمدة والسلفية بالفصامية ربما يتفقون رمزا أو تعميما مع هذا المفهوم الغائى للفصام، أما بالنسبة للأمراض النفسية فإن كثيرا من اضطرابات الشخصية النمطية بوجه خاص، وكذلك بعض العصابات المزمنة مثل الوسواس القهرى والهيبوكوندريا المعّوقة إنما تحقق هذه الغايات، ولكن دون أعراض فصامية فى الصورة الكلينيكية، ولعل تسميتها أحيانا مكافئات الفصام Schizophrenic Equivalents إنما يعنى إتفاقهما فى الهدف.
ولكنا نكرر هنا التحذير السابق من أن الاتفاق فى غاية السلوك، أو غاية ظهور الزملة المرضية لا يبرر إدراجهما معا فى زملة كلينيكية واحدة، إلا أننا لا يمكن أن ننكر أن هذا المفهوم الغائى يؤثر فى الفاحص والمعالج معا فى تقييم الحالة كلينيكيا، ومن المعروف أن التخلص من سلوك عصابى شديد وخطير مثل الوسواس القهرى المزمن المتمادى، دون إعداد كاف للبديل التطورى لهذا السلوك، قد يـُظهر الفصام الصريح بديلا عنه، مما يثبت جزئيا هذا الفرض، لذلك، فإن معرفة المفهوم الغائى للفصام والأوجه المختلفة لظهوره سلوكيا، له أهمية عملية وعلاجية مباشرة. (كما سيرد لاحقا).
تعقيب وتحديث (2017):
تعجبت حين وجدت أن هذا المفهوم الأخير للفصام قد أخذ كل هذه المساحة، وفرحت باكتشافى عمق وامتداد تاريخى فى اقتناعى بجدارة المدخل التطورى لفهم الأمراض النفسية بدءًا بالفصام، بل إننى ربطت بين محورية إمراضية الفصام وبين فرض الواحدية الذى يجمع كل الأمراض النفسية فى منظومة واحدة باعتبار أنها إما فصام، أو دفاع ضد التدهور الفصامى (أنظر: الواحدية فى مقابل التفتيت التصنيفى ppt.)، وهذا ما سوف نعود لتناوله فى حينه لمزيد من شرح وتقديم فرض. “الواحدية والتعدد فى الأمراض النفسية”.
ثم إنى افتقدت أية إشارة إلى المنظور التطورى الذى يتعامل مع غائية الأعراض باعتبارها كانت دفاعات طبيعية لأحياء أقدم، وأيضا لبعض الأحياء الآن، فى فترة من فترات التطور، وأن ظهورها اليوم بعد أن فقدت وظيفتها الدفاعية التى كانت تُـعـْتـَبر غائية فى حينها، هو الذى يجعلنا نعاملها كأعراض مرضية، ولنضرب لذلك مثلا محدودا هو السُّبات الشتوى Hybernation فهو دورة وقائية لأحياء أقدم وأحياء حالية، وله وظيفة تكيفية وفسيولوجية وبقائية، لكنه إذا حدث فى الإنسان فإنه يعتبر عادة من أعراض الكاتاتونيا عموما والفصام الكاتاتونى بوجه خاص.
[1] – تم اختصار وتعديل المتن بدرجة أكبر فى تناولنا الأن لهذا المفهوم
[2] – وضع أرنست بيكر Ernest Becker نظرية كاملة مبنية أساسا على فلسفة جون ديوى تؤكد على علاقة الفصام بالمعنى فى كتابه ‘ثورة فى الطب النفسي’
Becker, E. (1964) The Revolution in Psychiatry: The New Understanding of Man. London: Free Press of Glencoe.
[3] – كتاب تفسير الفصام لسيلفانوا أريتى:
– Arieti,S.(1974) Interpretation of Schizophrenia. New York: Basic Books.
وكتاب مقالات فى الفصام:
– Shulman B. H. (1968) Essays in schizophrenia. Baltimore: the Williams & Wilkins.