نشرة “الإنسان والتطور”
نشرة الاثنين: 13-3-2017
السنة العاشرة
العدد: 3481
الطبنفسى الإيقاعيوى التطورى (172)
الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع
الفصام: الباب المقفول الذى وراءه “كل شىء” (2)
برغم كل ما قدمنا أمس، وما سوف نقدم بعد، علينا أن نتذكر باستمرار أن المنطلقات الأساسية التى لابد من تسجيلها، يمكن ايجازها فيما يلى:
* أن ما يسمى الفصام هو ظاهرة سلبية مرضية بلا أدنى شك، لكن هذه ليست هى كل حكايته.
* أن الفصام هو أخطر الظواهر المرضية النفسية، بعد استبعاد الأمراض التشريحية التلفية.
* إن من أهم ما يعينيا على الإلمام بأبعاد الفصام وآلياته ومساره ومآله، وتنويعات علاجه هو أن ندرك معنى وغاية أعراضه، وفى نفس الوقت مدى وخطورة مآله التدهورى.
* إن علينا أن نعرف أن الطبيعة البشرية كما أبدعها خالقها قد زودتنا بكل آليات الدفاع ضد هذا المآل الذى تمثله النهاية البائسة لتدهور مثل هذا المريض كما أوضحنا سابقا وسنوضح لاحقا.
ثم نعود إلى القول:
إن كل الأمراض النفسية الأخرى (1) واضطرابات الشخصية والإنحرافات السلوكية تعتبر دفاعا ضد الفصام، تحديدا ضد تمادى الفصام أو مشروع الفصام نحو التفسخ، بل لعل كثيرا من المسارات العادية فى الحياة العادية هى أيضا دفاعات جيدة فى نفس الطريق، أما تحويل مسار التفكك إلى ما هو أرقى وأثرى فإنه أيضا يمكن أن يعتبر بمثابة البديل الإبداعى ضد هذا المآل التفسخى أو الضمور، وأعنى إعادة تشكيل التفكك إلى تخليق جديد أى إلى إبداع أصيل.
وأخيرا فإن إبداع الذات فى رحاب خالقها امتدادا فى طبقات الوعى المضطردة الاتساع، هو أعلى مراتب الإيمان الذى هو العكس المطلق لما هو فصام.
فإذا كان الأمر كذلك – وهو ما سنبينه أولا بأول – فللفصام بكل سلبياته وخطورته فضل فى أنه يحفز كل هذه الدفاعات ضده، تلك الدفاعات التى أغلبها أمراض نفسية أخف منه وأسهل تناولا، كما أن الأرقى منها هى توجهات من أكرم وأبدع ما يمكن أن نأمله لمسيرتنا الحياتية على مدى رؤيتنا البشرية نحو وجه خالق كل حى، وكل برنامج بقائى، كل شىء.
الفصام: “عملية” و”سلوك”، و”مآل”
إن البداية الضرورية للإحاطة بهذه المعلومات الإجمالية التى تبدو متناقضة هو أن نميز وبشكل حاسم بين “حركية العملية الفصامية” وبين “تجليات مظاهر مرض الفصام” فى السلوك والأداء والعلاقات كأعراض وإعاقات دون أن نفصل هذه عن تلك، لأن الإحاطة بالعملية الجارية يسمح للعلاج باستيعابها وتعديل آلياتها، وهذا يختلف تماما عن الاكتفاء بالتعامل مع السلوك المرضى والأعراض لوقف التدهور وتجنب المضاعفات، وإن كانت مظاهر السلوك المرضى بما فيها الأعراض هى من أهم ما يهدينا إلى مرحلة وحركية “العملية الفصامية”.
ثم إن ما نسميه حركية العملية الفصامية هى ليست فصامية منذ البداية، فما هى إلا مضاعفات التمادى فى التفكيك انطلاقا من حركية “المرحلة المفترقية” فى دورات الإيقاعحيوى المستمرة، (نشرة 13-8-2016) إلى (نشرة 21-8-2016)، ويمكن صياغة نفس هذه التفرقة بأن نقول إن مرضى الفصام بمواصفاته المعروفة ينتمى إلى منظومة “التشخيص المنهجى” أما العملية الفصامية فهى تمثل حركية النفسمراضية التركيبية أساسا.
حسن الاستماع
وهكذا: علينا دائما أن نستمع إلى أعراض الفصامى ولا نكتفى بوصفها وتصنيفها، فلكل مرض مهما كان خطيرا، بل وخصوصا إذا كان خطيرا، هدف يهدف إليه، وهدف الفصام بصفة عامة هو النكوص – باللغة الشائعة – وقد أكد عليه سيلفانو أريتى (2) تحت عنوان النكوص الغائى المتزايد Progressive Teleological Regression, وقد أفاض شولمان Shulman فى تفسير أهداف أعراض الفصامى: ما بين تسهيل الانسحاب إلى تشويه المجتمع إلى تدعيم المنطق الخاص والموقف الخاص وغير ذلك.
ولعل الفصامى بنكوصه وتوقفه وتفسخه يحقق هدفين معا:
الأول: هدف خاص، وهو أن يحافظ على حياته الجسمية على أى مستوى، مهما كان أدنى حتى من المستوى البشرى السائد، وذلك بالتراجع إلى مستوى بدائى هربا من جرعة غير مناسبة من التعامل البشرى المغترب القائم الذى هرب منه، أو عجزا عن قفزة غير محسوبة تناسبا مع الكفاءة التطورية المتاحة، إذن: فإنه بالرغم من النتيجة السلبية التى ينتهى إليها الفصامى، فإنه يحمل ضمنا الاحتفاظ بالحياة لمجرد الحياة لعلها تحمل له احتمال الانطلاق من جديد ليعاود المحاولة … ما دامت الحياة العضوية باقية.
الثانى: هو هدف عام (تطورىّ)، إذ أن الفصامى يعلن بتفسخه وتوقفه حقيقة قوة التدهور القابعة داخل التركيب البشرى، فيثير القوى التطورية المضادة لما أعلنه وهدَّدَ به، فى بقية أعضاء المسيرة البشرية، وهو بهذا يكاد يقوم بنفس دور الفنان الذى يعرى الحقيقة الموقظة المفزعة أحيانا، حفزا للتقدم، فالفصام تراجع وتوقف فاشل، ولكنه يحمل معنى التحدى الذى يحفز الأمل بشكل غير مباشر..، وطالما الحياة مستمرة، فهو صرخة لمن يحاول الاستمرار حتى لو لم يكن هو نفسه يعنيها.
وبعد
سوف أحاول بعد ذلك فى تناولى للفصام أن التزم بتحديث ما جاء فى كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى 1979) (3)، ليكون ما اكتبه الآن بمثابة الطبعة الثانية، ذلك لأننى قد شعرت أنه خلال هذا الثلث قرن من الزمان قد أدركت الصعوبات التى تكشف التعرف على أصل وطبيعة هذه الظاهرة المسماة “الفصام”
وأود أن أبداً بأن أثبت رؤوس مواضيع تلك المعلومات الأحدث التى نبهتنى إلى المنهج الذى كان خلف كتابتى هذا العمل الأول، والذى أواصل محاولة التعمق فيه والإفادة منه حالا.
أولاً: علاقة العمليات الذهانية والفصام خاصة بعمق وموضوعية وبيولوجية ونيورونية تعدد الذوات (حالات الذات = حالات العقل = مستويات الوعى = أنواع العقول داخلنا).
ثانياً: أهمية حضور ما هو “الوعى” برغم استمرار غموض أبعاده.
ثالثاً: حقيقة ما يمكن أن يجرى نيوروبيولوجيا فى أجزاء الزمن المتناهية الصغر فى عمليات المخ طول الوقت.
رابعاً: أهمية دورات الإيقاعحيوى المستمرة، المختلفة الطول والعرض الدائمة ليلا ونهارا فى وحدات الزمن على اختلاف أطوالها.
خامساً: أهمية فهم المرض النفسى فى حركيته الدائمة سواء بنبضات إيقاعحيوى مجهضة أو فاشلة أو منحرفة، أو بما يتبقى من آثار إجهاض هذه النوبات وتشويه حالها.
سادساً: أهمية الوعى بحقيقة كيف أن المخ يعيد بناء نفسه باستمرار من خلال الإيقاعحيوى وكيف أن علينا أن نواكبه ونحن ندعمه ونوجهه.
سابعاً: فرصة قراءة حركية المخ فى تشتته النشازى ودأبه على إعادة بناء نفسه ما أتيحت له فرصة علاج حقيقى.
[1] – عدا الاستثناء للتلف العضوى التشريجى السالف الذكر الذى لن تكرره بعد ذلك.
[2] – كتاب تفسير الفصام لسيلفانوا أريتى Silvano Ariti (1974) “Interpretation of schizophrenia”
– كتاب مقالات فى الفصام H. Shulman (1968) Essays in schizophrenia
[3] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” سنة 1979 – دار عطوة – القاهرة.