نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 23-10-2016
السنة العاشرة
العدد: 3341
الطبنفسى الإيقاعحيوى (115)
Biorhythmic Psychiatry
استكمال عناصر المقابلة الإكلينيكية (46)
الشخصية قبل المرض (2)
مقدمة:
خطر لى أن أتوقف عن مواصلة “المقابلة الإكلينيكية”، بعد أن أُكمِل توصيف “الشخصية قبل المرض”، إذْ لم يبق إلا فصل عن الفحوص الخاصة والاستقصاءات Investigation، ثم آخر عن “الصياغة” Formulation بمستوياتها (أ) الوصفية، ثم (ب) النفسمرامضية: “السببية” و”التركيبية” Etiological and Structural Psychopathology، ثم الفصل الأخير عن “تلخيص وإعادة ترتيب النوبة الحالية”، وهذه جميعها متميزة بشكل خاص في فروض الطبنفسى الإيقاعحيوى، وهى تختلف كثيراً عن مجرد تلخيص الحالة ووضع لافتة تشخيصية لها، كما اعتدنا فى الممارسة التقليدية.
فكرت أن أبدأ بعد هذه الجزئية عن “الشخصية قبل المرض” فى عرض الأمراض الواحد بعد الآخر من منطلق الطبنفسى التطورى، ثم أعود من خلال ذلك إلى الاستقصاءات والصياغة، وذلك ربما استجابة للأكثرية من غير الأطباء والمختصين، وهم الذين يشاركون فى مناقشة ما أحاوله أكثر من الأطباء الذين ربما يشغلهم التركيز على التصنيف الوصفى التقليدى للوصول إلى توصيف أنسب، يتناسب مع اهتمامهم أكثر فأكثر برصد الأعراض لإعادة تجميعها فى تشخيص بذاته، وفى المقابل: وصلنى من المهتمين خارج هذه الدائرة حاجتهم إلى التعرف على الأمراض واحدا واحدا من هذا المنظور الإيقاعحيوى التطورى، وقد وجدت فى نفسى ميلا إلى الموافقة على هذا الرأى بعد أن كدنا نبعد عن جوهر المسألة إلى الهوامش الطبية بالأساليب التقليدية.
ما رأيكم؟
دعونا نكمل اليوم وغدًا ما تبقى عن “الشخصية قبل المرض”، ثم ننتقل الأسبوع القادم إلى الأمراض بدءًا بالفصام ، وما أصعبها نقلة ، وما أهمها !!
والآن نواصل ما تبقى عن “الشخصية قبل المرض”: وقد بدا لى أن بهذه النشرة ما يربط بأصل النظرية أكثر.
ونبدأ كالعادة بالأصل:
……….
بقية مقومات الشخصية قبل المرض:
المتن: (1986)
ثانياً (1):
المزاج الغالب:
وهذا أمر مرتبط بسمات الشخصية فى أغلب الأحيان، وبالتالى فمن المفيد السؤال عن المزاج الغالب مستقلا عن سمات الشخصية الأخرى، فيقال كان مزاجه متقلّبا، أو مرحا، أو متذبذبا أوغير ذلك.
التحديث:
مع أن المزاج الغالب هو من أهم السمات التى تساعدنا فى تصنيف الشخصية، إلا أننا كما ذكرنا أمس لا نضع للشخصية تصنيفا محددا بأسم معين فى المقام الأول، وما يهمنا فى وصف المزاج الغالب فى الشخصية قبل المرض هو ما حدث لهذا المزاج من تغير أو تحول مع المرض، فنرصد مثلا مريضاً كان يغلب عليه قبل المرض (أو طول عمره) مزاج المرح، أو التفاؤل وكان جاهزا غالبا للمشاركة، ثم جاء يشكو وقد اختفى كل ذلك ليحل محله غيره أو عكسه، فإن هذه المقارنة إنما تساعد على التعرف على نوع المرض وطبيعته، والعكس صحيح فمن كان المعروف عنه التزمت والجـدِّية والميل إلى التشاؤم، ثم انقلب إلى عكس ذلك أو غيره له دلالته أيضا،
وقد يكون التغير فى زيادة حدة نفس المزاج فى نفس الاتجاه ولكن بدرجة مفرطة فيتضاعف المرح مع زيادة الحركة وربما الأرق فى الشخص المرح، وعلى نفس القياس قد يتفاقم الحزن والتشاؤم والعزوف لدرجة مزعجة وملحوظة فى شخص معروف عنه المزاج الانقباضى (العادى) قبل المرض .
من كل ذلك نقول إن رصد المزاج السائد(2) قبل المرض يعتبر نقطة انطلاق مهمة نتعرف من خلالها على حجم وطبيعة ما طرأ على المريض.
المتن:
ثالثاً: العادات الخاصة: وتشمل أى عادات فى المجال السلوكى العادى (مثل طريقة الأكل، طقوس النوم، وقته.. إلخ ) كما تشمل أى عادة خاصة مميزة فى أى مجال من مجالات الاهتمامات الخاصة، مثل المشى المنتظم أو الترحال أو أى عادة مميزة للشخص قبل المرض.
التحديث:
يعتبر رصد العادات الخاصة مكملا لكثير مما جاء فى بند المزاج السائد، وأيضا لبعض ما جاء أمس مع العلاقات الاجتماعية، وترصد هنا بوجه خاص العادات الخاصة جدا بالمريض، ومدى ثباتها وإلحاحها لأن ذلك ربما يكون مرتبطا بسمات وسواسية “عادية”، قد تتضاعف فى حالة المرض لتصل إلى درجة الوسواس القهرى، وربما يفاجأ المريض وأهله أن هذه العادات قد توقفت فجأة مع بدء الحالة أو قبيل بداية المرض، وذلك دون محاولة من صاحبها، ولا ينبغي اعتبار ذلك علامة إيجابية دون تحفظ، فعادة ما يكون هذا الوسواس العادى نوعا من الدفاعات الناجحة التى تحول دون ما هو أخطر مثل الهوس أو التفكيك.
طبعا لا توجد قاعدة لذلك، لكن من منطلق الطبننفسى الإيقاعحيوى الذى يَعْتَبِرْ أغلب الأعراض آليات دفاعية من حيث المبدأ بلغة التطور، يُنظر إلى هذا التغير فى العادات من نفس المنظور التطورى الذى يبحث عن الأصل والمعنى والدلالة، وبالتالى فإنه يُرصد أى تغيُّر فيها ويوضع فى إطاره الصحيح جنبا إلى جنب مع ما يصاحبه من ظهور أى سلوك آخر مواكِب أو أعراض بادئة حتى لو كانت تحت إكلينيكية sub-clinical.
المتن:
رابعاً: القيم الشخصية والمواقف الذاتية: وهذه الناحية يصعب استنتاجها من السؤال المباشر عنها، لكن يمكن الوصول إلى خطوطها العريضة من معلومات المقابلة عموما، وهى تشير إلى الموقف الأخلاقى، والدينى، والسياسى، والأيديولوجى بصفة عامة، مع تذكر احتمالات التغيير على مسار النمو.
التحديث:
مناقشة هذا المتن (وتحديثه) سوف تجرنا إلى استطراد لازم لأنه من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى – وعموما – يكاد يستحيل تقييم قيم الآخر دون النظر فى منظومة قيم الذى يقيِّم (هنا: الطبيب) وبصراحة ثمة إشكالة فى هذه المنطقة أعتبرها منْ أشكل المناطق التى عايشتُها وأعايشها سواء فى الممارسة أو فى التدريس، وهى إشكالة استحالة فصل موقف الطبيب (والفاحص) الشخصى عن التدخل فى تقييم قيم مريضه سواء حالة كونه مريضا أو قيمه الشخصية قبل المرض، والموقف الحيادى هو ما يُوصَى به عادة، وهو هو ما يُعلن ظاهرا، لكن واقع الحال وخاصة ونحن ننطلق فى الطبنفسى الإيقاعحيوى من منطلق التأكيد على محورية التواصل عبر الوعى البينشخصى والجمعى، فإنه يصعب الاكتفاء بهذا الاعلان الحيادى، وعلينا أن نفحص الأمر بكل أبعاده الأعمق(3)
من الواجب بداهة أنه على الطبيب (الفاحص) أن يفصل طول الوقت بين موقفه الشخصى ومعتقداته وبين موقفه المهنى ما أمكن ذلك، ولكن برغم تكرار التذكرة بضرورة ذلك فإن علينا أن نعترف أن هذه المسألة تحتاج إلى نضج كافٍ ومسئولية بالغة، وبصيرة نافذة، وليس مجرد إعلان الحياد أو تصوره كما ذكرنا .
ولكن:
- كيف يعرف المعالج حقيقة وعمق ما ينتمى إليه وما هو منغرس فيه من أيديولوجية غائرة؟ (خاصة إذا ارتبطت بموقف دينى تقليدى جاهز لم يخترْه، وغالبا لم يختبرْه)؟
- وكيف يمكن التوفيق بين موقفه الأيديولوجى المعلن (حتى وهو على يقين أنه على الحياد) وبين الموقف الأيديولوجى الكامن الفعّال (الذى لا يعرفه غالبا) طول الوقت ؟
- وكيف يمكن أن يحدد ما يريده من مريضه، أو ما يرجوه له، دون أن يتعرف على حقيقة موقفه هو من ماهية المرض ومعناه وأحيانا عن ماهية ما هو “إنسان” وجدوى الحياة: وإلى أين؟
- ومن الذى يضمن قدرة الطبيب على مقاومة ما يحاط به أو يحاك له من زرع قيم خفية ومنظومات ملتبسة فى عمق وعيه لخدمة أغراض لا تخلو من شبهات؟
بالرغم من صعوبة بل ربما استحالة الحصول على أجوبة لهذه الأسئلة إلا أن مجرد طرحها قد يخفف من تأثير الأيديولوجيا الغائرة عند الطبيب بدرجة ما، أو على الأقل تجعله ينتبه إلى العمل على الحذر من تلك الأيديولوجيات التى تفرض علينا، حتى من منطلق تقديس مؤسسات شبه علمية تحت عناوين ليست بالضرورة سليمة أو مفيدة مثل “العولمة”، أو ما شاع عن “حقوق الإنسان” (المكتوبة) (وليست حقوقه الحقيقية أو الكاملة..إلخ)
تأثير المدرسة النفسية التى ينتمى إليها الطبيب:
فى أطروحة قديمة سابقة (4)سابق بينت أن كل ممارس للطب النفسى أو العلاج النفسى إنما يمارسه من خلال مدرسة (أو أكثر) ظاهرة أو خفية، وأن هذه المدرسة ليست سوى أيديولوجية توجهه عَرَف أو جَهَل وهى تقدم له مفهوما معلنا نسبيا عن ما “هى الصحة”، وما “هو المرض” ثم بدرجة وخفية غائرة عن “ما هو الإنسان”، وبالتالى عن “كيف العلاج”.
قد تم جدولة أربعة وعشرين مدرسة من المدارس حاولت تقديم إجاباتها جميعا عن هذه الأسئلة للمقارنة.
وفيما يلى مجرد أسماء المدارس ولمن شاء أن يرجع إليها جمعيا فى (نشرة 24-3-2008 “مدارس ومدارس” مدارس ونظريات وافتراضات أساسية).
(1) مدرسة التحليل النفسى التقليدى (الفرويدى) (2) مدرسة العلاقة بالموضوع (الآخر)
(3) مدرسة إريك إيكسون (4) هارى ستاك سوليفان (5) مدرسة إريك بيرن
(6) مدرسة ساندور رادو
(7) هنرى إى
(8) مدرسة سيلفانو أريتى
(9) مدرسة نظرية المنظومات العامة
(10) مدرسة النظرية التطورية الإيقاعية (الرخاوى)
(11) مدرسة ألفرد أدلر (12) مدرسة نظرية التعلم للشخصية
(13) مدرسة كارين هورنى (14) مدرسة أوتو رانك
(15) مدرسة أبراهام ماسلو (16) مدرسة التحليل الوجودى (مثل رولو ماى)
(17) مدرسة جاردن مرفى (البيواجتماعية)
(18) مدرسة نظرية الجشتالت (19) كيرت جولدشتاين (20) مدرسة كارل يونج
(21) مدرسة أنتونى سوتيش (عبر الشخصية) (22) مدرسة بافلوف -واتسون
(23) مدرسة النموذج الكيميائى البيولوجى المختزل (24) مدرسة ضد الطب النفسى
ولكل من هذه المدارس منظوماتها (أيديولوجيتها) التى تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على كل من الطبيب والمريض.
وفيما يلى ثلاث عينات:
(23) النموذج الكيميائى البيولوجى المختزل
ماهية الأنسان | مفهوم الصحة | مفهوم المرض | العلاج |
الإنسان تركيب كيميائى معقد, يسمح بأداء وظائف تميزه وتضعه فى حدود المعايير الدالة على السواء | هو كفاءة هذا التركيب البيوكيميائى باحتوائه النسب المعروفة من الموصلات والتراكيب العادية للشخص العادي | هو اضطراب تزيد فيه, أو ينقص بعض مكونات التركيب البيوكيميائى المعقد, أو تختل فيه التراكيب التشريحية | هو إصلاح هذا النقص,أو إنقاص تلك الزيادة, أو إزالة الخلل التشريحى الإمراضى إن أمكن |
(1) التحليل النفسى التقليدى (الفرويدى)
ماهية الأنسان | مفهوم الصحة | مفهوم المرض | العلاج |
الإنسان نتاج تاريخهمحكوم بـ’لاشعوره’
قد يعاق بتثبيتات طفولته مدفوع بغرائزه لا سيما الجنس (بالمعنى الأشمل) |
أن يتجاوز (أى يفك وقفته) تثبيتاته, إذ يتمكن أن يضبط غرائزه ليحقق: “أن يعمل وأن يحب “
(ويتكيف) |
أن تحتد تثبيتاته, فتغلب عليه حتى ينكص أو يعاق بميكانزماته ويختل التوازن بين تركيباته، فتكبله أعراضه | أن يعيد معايشة تثبيتاته من خلال التداعى والطرح فيتمكن من إزالة الإعاقة
فإطلاق الطاقة لإعادة التوازن ”فيعمل، ويحب” |
(10) النظرية التطورية الإيقاعية (الرخاوى 1980)
ماهية الأنسان |
مفهوم الصحة |
مفهوم المرض | العلاج |
الإنسان كيان بيولوجى دائم النبض الحيوى بتركيباته الهيراركية بما يسمح بفعلنة المعلومات الداخلية والمُدخلة باستمرار النبض, ومن ثم النمو بلا نهاية | كفاءة النبض الحيويمع نجاح فعلنة المعلومات باضطراد
لتحقيق التوازن المرحلي واستمرار النمو الولافي |
هو مضاعفات النبض الحيوى إما بالنبض الجسيم أو بناتجه النشاز الذى إذا تمادى واستقر تليفت الشخصية بما يمنع كفاءة النبض واستمرار النمو |
تصحيح مسار النبض الحيوى بإطلاق النبض المنتظم فى النمو والأحلام والإبداع مع تدريب المستويات التى ضعفت والتحكم فى المستوى البدائى الجامح لاستيعابه تدريحيا |
تعقيب
بصراحة لم أكن أعرف (أو أتذكر) أن المسألة كانت عندى بهذا الوضوح منذ ذلك التاريخ، ولم أكن قد كتبت إلا الخطوط العريضة للنظرية التطورية الإيقاعحيوية فى نفس الكتاب بالانجليزية Selected Lecture ، فهل ثمة ملاحظات الآن؟ وهل جدّ جديد خلال هذا الثلث قرن من الزمان:
وفيما يلى بعض ذلك:
(1) اطمأننت إلى رسوخ وقِدَمِ مُنْطَلقى النيوروبيولوجى الذى يتفق مع أغلب ما بلغنى من المعطيات الأحدث فى النيوروبيولوجى بعد ذلك، وأيضا تدعم أكثر بمواصلة ممارستى خصوصا فى العلاج الجمعى.
(2) افتقدت الإشارة إلى البعد التطورى بدرجة كافية مقارنة بحضور البعد الإيقاعحيوى المتكرر
(3) لاحظت التركيز على استعادة الهارمونى أكثر من الإشارة إلى تواصل الإبداع (جدل النمو)
(4) افتقدت إشارات كافية إلى التغيرات متناهية الصغر فى أزمنة متناهية القصر، وهو الأمر الذى سهل لى تمسكى بفكرة الميكروجينى ودورها فى التوازن والإبداع.
(5) انتبهت إلى الجديد الذى وصلتُ إليه مؤخرا عن أهمية جدل وامتدادات وحركية مستويات الوعى على كل المحاور، وكذا عن حركية الطاقة الحيوية ملتحمة بالمعلومات نابضة الحضور.
(6) وصلنى اهتمام بالتوازن ذى الانتظام أكثر من توضيح حركية التفكيك للإبداع.
(7) برغم تسجيل استمرار النبض بلا نهاية: إلا أننى افتقدت حضور “الغيب” وعياً واعدًا فاعلا مفتوحا طول الوقت.
(8) شعرت بضرورة الاستمرار فى حمل الأمانة إلى أصحابها.
(9) اطمأننت إلى مصادر تنظيرى الممتدة من واقع الممارسة المدعومة بمتابعة الأحدث فالأحدث.
(10) غمرنى الأمل فى تواصل تدعيم هذه الفروض مع استمرار الممارسة والنقد.
[1]- أولاً : كان بند “العلاقات الاجتماعية (البينشخصية)” النشرة السابقة (أمس) 22-10-2016
[2] – كلمة “السائد: تعنى الغالب وليس بالضرورة الدائم.
[3] – لم أُسْتدرج إلى ما آلت إليه منظومة القيم فى مصر فى العشرين سنة الأخيرة مثلما فعلت وأنا أقدم العلاقات الاجتماعية أمس لأنها سوف يكون استطردات مزعجة قاتمة فى كثير من جوانبها، ولمن يريد معرفة تفاصيل ذلك أن يرجع إلى نشرة “من ملف القيم والأخلاق” نشرة 15/10/2007 – نشرة 16/10/ 2007 – نشرة 17/10/2007 وقيم جديدة وفضائل ماتت ورذائل أصبحت فضائل …الخ الخ .
[4] – ظهرت أولا بالانجليزية فى كتاب تدريسى غير منشور عنوانه Selected Lecture”” تم تحديثها فى النشرة اليومية هنا.