نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 3-9-2016
السنة العاشرة
العدد: 3291
الطبنفسى الإيقاعحيوى (92)
Biorhythmic Psychiatry
عن القلق:
أنواع قلق خفوت الدراية
مقدمة
بالعودة إلى الفرض الأساسى (نشرة 1/8/2016) نعيد التذكرة ببعض نص هذا الفرض:
– القلق هو إعلان عن واقع عدم تناسب مستوى نشاط الدراية وفاعليتها مع درجة حركية التشكيل الإيقاعحيوى.
إلى أن قلنا:
– وقد يكون عدم التناسب نتيجة لخفوت درجة الدراية أقل من المطلوب لدعم اضطراد المسيرة النابضة النمائية حتى تصبح عاجزة عن مواكبة نشاط حركية الإيقاعحيوى لإعادة التشكيل، ومن ثَمَّ تظهر علامات سلوكية مزعجة أو معيقة (فهو المرض)
وعلى ذلك قسَّمنا هذا القلق الناتج عن خفوت درجة الدراية اللازمة لاستيعاب حركية النمو والإيقاعحيوى إلى خمسة أنواع، وقد قمت بتغيير اسم واحد منهم فقط، وهو القلق الفوضوى، غيـَّرتـُه إلى “القلق الارتباكى“، وذلك لأننى حين تناولت القلق الذهانى فى المجموعة الأولى (قلق فرط الدراية) خشيت أن تختلط كلمة الفوضوى هنا مع القلق الذهانى الذى وصفنا فيه درجة هائلة من التمزق والتناثر.
وللتذكرة أيضا فقد جاء فى وصف القلق الذهانى أنه:
“ينطبق عليه كل ما ذكر فيما يتميز به الذهان عامة بعيدا عن ما يسمى الأعراض الذهانية، مثل التغيير الجذرى السلبى فى الشخصية، وإفساد وإفشال العلاقات الشخصية، والإعاقة الجسمية عن الأداء اليومى وأحيانا الاعتمادية المفرطة أو النزوية الخطرة“.
وحين عدت إلى ما أريد طرحه عن ما يسمى القلق الارتباكى”، انتبهت إلى أنه لا يتصف بهذه الصفات إلى هذه الدرجة، أى أنه لا يتصف بالصفات العامة للذهان من حيث استعمال آليات (ميكانزمات العصاب، وبالتالى غيرت الاسم إلى “القلق الارتباكى” لأسباب سوف أذكرها حالا، هذا علما بأن كل أنواع هذه المجموعة: هى أنواع سلبية وإذا زادت تعتبر “مرضية”،
وفيما يلى بعض مواصفات كل نوع على حدة :
أولا: القلق الارتباكى Perplexity Anxiety
هو قلق عصابى يتصف بأغلب أعراض ومميزات العصاب، فتزيد فيه استعمال الميكانزمات لتساعد فى طمس الرؤية (الدراية)، وبالتالى فإن الربكة التى يعانى منها المريض أو تبدو عليه ليست نتيجة لعدم تحمله ما غمره من كشف الداخل كما هو الحال فى المجموعة الأولى كلها، لكنها بالعكس: هى نتيجة غياب هذا الاحتمال أكثر فأكثر مما يعيق التناسب بين الرؤية والاحتواء أى بين الدراية وإعادة التشكيل، وحتى الصراع الداخلى الذى استدعى المزيد من الدفاعات التى جعلت الدراية تخفّ أكثر فأكثر، فإن المريض عادة لا يدركه ولا يشكو منه بشكل مباشر.
وتظهر الربكة فى صورة صعوبة عامة، فى ترتيب وحدات التفكير وكذا صعوبة تحمل التناقض حتى إلغائه لحساب مزيد من الاستقطاب الذى لا يـُعْـَلـنُ مباشرة، بل قد يتحول إلى قبول دفاع “الحـَلـْـوسَط”(1) المائع، إذن فالحيل النفسية – كما ذكرنا فى مجال التفرقة بين العصاب والذهان فى (نشرة 1/8/2016) تظل تعمل بإفراط حتى تترتب على ذلك درجة أكبر مما تحدث في الشخص العادى، وبالتالى مزيد من العجز عن أى احتمال لشحذ الدراية، بل العكس هو الذى يحدث إذ تَـَحُولُ هذه الحيل – كما ذكرنا أيضا – دون كشف الداخل المهدِّد، وبالتلى تقل الفرص لأى محاولة تفكيك مرحلى، وهو الذى قد يكون ضروريا لجدل محتمل، أو سلسلة هادفة.
وباختصار فإن عدم الاتساق هنا يكون نتيجة تداخل وحدات المعارف والوجدان وغيرها بشكل دفاعى أكثر، مما قد يخفف من ألم الرؤية المحتملة والضرورى لمواصلة استيعاب جدل الإيقاعحيوى.
كل هذه العملية تجرى طول الوقت عند الشخص العادى، وهو لا يشكو من شىء عادة، لا قلق، ولا غيره، لكن إذا زادت الجرعة إلى درجة أكبر فأكبر من التعمية (من العمى) فإن المريض قد يعانى من أعراض قلق غائر غامض، يترتب عليه شكاوى من الربكة وتداخل الأفكار والمعارف وغيرها والعجز عن لحلحتها، مع ما يصاحب ذلك من أعراض جسدية عادة.
ولا يكون الحل فى مثل هذه الأحوال ، إذا سمحت قراءة النفسمراضية بتبنى هذا الفرض هكذا، لا يكون الحل (العلاج) بمجرد العمل عى زيادة جرعة الدراية كما ذكرنا من قبل، ولكن باستيعاب هذه الاحتمال والعمل على تناسق القوى المشاركة فى إحداثه بالخطة العلاجية المتكاملة.
ثانياً: القلق الصراعى Anxiety Conflict
تـُستعمل كلمة “صراع” فى الحياة العادية، وفى بعض الأعمال الأدبية المتوسطة والمتواضعة، ناهيك عن فرط استعمالها فى التحليل النفسى (والتفسير النفسى والتبرير النفسى، الأصلى أو السطحى)، ويرتبط هذا الاستعمال بوعى جزئى لا يكون عادة مرتبطا بأصل فروض النفسمراضية السالفة الذكر، ولعل سوء تطبيق مفاهيم التحليل النفسى، والتركيز على التفسير العِلىِّ للمرض يسهمان فى ترويج هذا الاتجاه بهذا التواتر، حيث كثيرا ما يجرى التركيز فى مثل هذه الأحوال على البحث عن صراع ما بين نوازع مُسْتَقْطَبة (مثل الذات وó الغرائز، أو اللذة óوالواقع ..إلخ) علما بأنه فى كثير من الأحيان يكون وراء مثل هذا الصراع التفسيرى الظاهر صراع أعمق وأخطر، لكن أغلب المعالجين يواصلون التفسير والتأويل على أساس المتاح مما وصل لهم من خبرات الطفولة أو الأسباب الخطـِّية العــِّـلية الشائعة، وقد يحصل المريض بذلك على نتائج جزئية مناسبة ولو مرحليا، مع أنه فى كثير من الأحيان يكون قد تحول إلى استعمال ميكانزمات أخفى وأصعب من تلك التى ظهرت على السطح، ويظل الصراع الحقيقى الغائر كامنا فاعلا بما يترتب عليه ظهور درجة ربما تكون أخف من القلق، ويمكن للمحلل والمريض أن يتوقفا عند هذه المرحلة إن كانت قد حققت أغراضها، ولو باعتبارها “أهداف متوسطة ” مع ترقب جولة أخرى عادة ربما تتيح فرصا أخرى، وعلى المعالج أن ينتبه إلى وسطية هذه المرحلة دون أن يتحمس إلى تخطيها تعسفا.
ثالثاً: القلق الترددى (التذبذبى) Hesitancy Anxiety
هذا النوع من القلق برغم أنه يتسق مع بقية الأنواع الناتجة عن خفوت الدراية إلا أن الصراع فيه هو شعورى أو أقرب إلى الشعور، وهو له علاقة بما سبق أن أوردناه مع أعراض اضطراب الإرداة والعجز عن إتخاذ القرار، وفيه يتساوى – تقريبا – طرفى القضية المطلوب الاختيار بينهما، وذلك على مستوى الشعور عادة ، وأدق تصوير هو ما صوره البيت العربى الأصل الذى حين خيّر بين ثكل ابنه المخطوف وبين تسليم من استجار به لعدوه، وقال فى ذلك المشهور عن السموأل (2)
فقال ثُكْلٌ وَغَدْرٌ أنتَ بَينَهُما، فاخترْ وما فيهما حظٌّ لمختارِ.
هذا القلق أيضا يعلن عجزا عن تعميق طرفَىْ الاختيار، وهو أقرب إلى القلق الصراعى ولكن على مستوى الشعور.
رابعاً: القلق الطفيلى النعاب Parasitic Anxiety Nagging
برغم غرابة اسم هذا القلق وندرة استعماله (الاسم) فى لغة الأعراض والأمراض الفنسية، إلا أنه يكاد يكون أشهر أنواع القلق العصابى، وفيه يتحدث المريض عن القلق ويشكو منه أكثر مما يعانى آثاره وآلام حيرته، ويظل المريض يردد شكواه طول الوقت، على المحيطين به، ثم على الطبيب أو المعالج، وعادة لا يتوقف عن الشكوى حتى بعد إعطائه مهدئات (يسمونها مذيبات القلق) وعادة ما تكون هذه الشكوى سمة لهذا الشخص أكثر منها حالة طارئة (3)، ولا يستطيع هذا المريض أن يكف عن ترديد كلمة قلق بما فى ذلك وصف أعراض متنوعة من الأعراض الجسدية التى سمع عنها أكثر – عادة – من التى يعانيها.
خامساً: القلق الحركى Anxiety Agitated
ويحضر هذا النوع أساسا فى صورة عدم استقرار حركى، عادة مع شكاوى المريض هو شخصيا من هذه الحركة المستمرة المكررة فى بعض الأحيان، وهذه الحركة برغم كثرتها، لا تشبه فرط الحركة عند المريض الهوسى مثلا، وهى لا تحتاج إلى استثارة ، ولا تبدو هادفة بحال، ولعل أصدق وصف بها جاء في قول المتنبى هاجيا:
كَريشَةٍ بِمَهَبِّ الريحِ ساقِطَةٍ لا تَستَقِرُّ عَلى حالٍ مِنَ القَلَقِ
وهو قلق يزعج المحيطين أحيانا أكثر مما يزعج المريض (الشاكى نفسه)، وأحيانا تمتد الحركة الزائدة حتى قبيل النوم بل حتى أثناء النوم.
وبعد
أعلم أننى صعـّبتُ الأمور، حتى تداخلتْ، لكن ذلك يرجع غالبا إلى تداخل ما هو نفسمراضية (سيكوباثولوجى) مع الأعراض، إلا أن هذا هو من طبيعة هذا المدخل فى الطبنفسى الإيقاعحيوى بالنسبة لكل الأعراض، وليس فقط بالنسبة لهذه المجموعة.
وأرجو أن نبدأ غدًا صفحة جديدة فى موضوع جديد
[1] – استعمل هذا اللفظ المضغم آملا أن يوصل سكون هذه “التسوية” المسكنة التى قد تختلط على أغلب الناس على أنها نوع من قبول أطراف الجدل فى عملية تشكيل محتمل، لكن خبرتى نبهتنى إلى أن معظم ما يسمى حل وسط، هو تسوية ساكنة غير نمائية بشكل أو بآخر.
[2] – السموأل بن غريض بن عادياء بن رفاعة بن الحارث الأزدى. شاعر جاهلى يهودى عربى، ذو بيان وبلاغة،
[3] – “trait” rather than “state”