نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 20-8-2016
السنة التاسعة
العدد: 3277
الطبنفسى الإيقاعحيوى (86)
Biorhythmic Psychiatry
عن القلق:
قلق فرط الدراية (5)
Hyperawareness Anxiety
القلق المُـواجهى، والقلق المفترقى (4)
Confrontational and Cross Roads Anxiety(3)
مقدمة:
ذكرنا فى نشرة الأثنين الماضى كيف أن القلق المفترقى متداخل مع القلق المواجهى، وآن الأوان أن نتعرف على الأخير ونحن نربط بينهما.
يستعمل الطبنفسى الإيقاعحيوى لفظ المواجهة فى مواقع كثيرة باستعمالات مختلفة، فالعلاج الذى ينبع من هذا الطب اسمه علاج ” المواجهة – المواكبة- المسئولية”، وقد سبق أن أشرنا إليه فى أكثر من نشرة، وهو الجانب الإيجابى فى استعمال مصطلح المواجهة، فكيف تكون المواجهة مصدرا للقلق؟
فى نقدنا لمواقف مدرسة العلاقة بالموضوع حين تحفظت على مصطلح “الموقع” position واستبدلت به مصطلح “الطور” stage تأكيدا لاستدامة حركية النمو مع كل نبضة إيقاع حيوى، أطلقنا على المستوى الثالث لمراحل النمو (المقابل للموقع الاكتئابى عند ميلانى كلاين) اسم المستوى البصيرى، حيث يجرى نشاطه باستعمال آليات آخرى ليست برامج عامية تماما، فهو يحقق التوازن بالمواجهة وقبول الداخل (والخارج) بدرجةِ تَحَمُّلٍ وقدرة تجاوز، بما يمكن معه الاستغناء عن الإفراط فى استعمال ميكانزمات الدفاع دون التخلى عنها تماماً”، ثم أضفنا : إن “هذه الرؤية (البصيرية) تبدو صحيحة ومفيدة بقدر ما هى مؤلمة وحافزة، ويتحقق بها التوازن دون التخلى عن قدر من الميكانزمات كما أشرنا) [1])إلى أن هذه الرؤية (البصيرة) هى التى تساهم فى دفع يقظة الوعى وحفز الألم” لذلك وصفنا هذا المستوى بأنه المستوى الأوسط “البصيرى” للصحة النفسية، فإذا راجعنا هذا التوصيف، وأن ما أسميناه البصيرة آنذاك هو أقرب إلى ما نطلق عليه “الدراية ” الآن، لانها إنارة واستنارة إدراكية عميقة لا تصل عادة إلى ظاهر الفكر المعقلن، وفيها درجة من المواجهة من حيث إنها تساهم (كما جاء حالا فى نص المقتطف): فى “دفع يقظة الوعى وحفز الألم”…، وأن هذه الرؤية (التى أصبحنا الآن نطلق عليها الدراية) تبدو صحيحة ومفيدة، بقدر ما هى مؤلمة وحافزة، وكان ذلك تعبيرا عن إيجابية المواجهة بقدر من الدراية الداخلية الموظفة تلقائيا لحفز النمو، وبالتالى نلاحظ كيف غلب الجانب الإيجابى على استعمال مصطلح “المواجهة”.
ثم إنه قد آن الأوان أن ننبه إلى أن ما نسميه الآن “القلق المَوَاجَهَى” يبدأ من هذه المرحلة، إلا أن جرعة الألم تزيد، والوعى الغائر بها قد لا يعمل بالقدر الكافي على أن تصبح يقظة الوعى كافية، أو أن تضمن أن يظل الألم حافزا، وهكذا نقترب من منطقة القلق، وهو الذى أسميناه قلق المواجهة
ثم نعود فنذكّر باستعمال تعبير “المواجهة” فى العلاج (ضمن علاج م.م.م: المواجهة. المواكبة . المسئولية) وهذا وجه آخر لما هو مواجهة، فهنا المواجهة لها دلالاتها، فى أنها مواجهة المرض باعتباره سلوكا هادفا وإن كان قد اختار التعبير السلبى والتحطيمى، فهو دفاع مشروع من حيث المبدأ، لكنه لا يعود مشروعا بهذه الصورة ما دام قد أصبح سببا فى ظهور المرض، “، فالمواجهة فى العلاج لا تعنى القبول وإنما تحفز إلى العمل على استعادة التناسق الطبيعى من خلال مواكبة الإيقاعحيوى المستمر، هذه المواجهة لا يصلح لها تعبير “فحص المريض ورصد أعراضه”، فهى تحتم أن نبحث عن “غائية المرض أساسا”، وعن وظيفته الدفاعية وكيف أنه حوّلها إلى وظيفة إفشالية، كل ذلك بما يسمح لنا بالإسهام فى إعادة تشكيل البديل الجديد لدعم المسيرة بلا توقف”ـ فإذا ما فشلت هذه المواجهة فى تحقيق قدر مناسب من كل ذلك، اصبحت مواجهة متراجعة مهزومة، ومن ثم تستمر حركية المرض بلا جدل، ولا تشكيل، فيصل قدر من هذا وذاك إلى “دراية” المريض وقد يعبر عنه بالقلق بالإضافة إلى لغة المرض الأولى .
كل هذه المقدمة هى محاولة لبيان أن للمواجهة أكثر من وجه، وأنها مسئولية، وأنها ليست بصيرة معقلنة صرف، وأنها إذا أحسن استيعاب نتائجها فهى عون أكيد للنقد العلاجى وإعادة التشكيل، أما إذا زادت عن حدها فهذا هو فرط الدراية الباعث على القلق كما اشرنا.
فروض مساعدة:
ما دامت المواجهة هى بهذا الخفاء والتنوع، وما دام ما يترتب عليها هو مسئولية تحتاج لاستعداد وإعداد، وجب علينا أن ننظر فيما نواجه، وذلك بمحاولة استيعاب طبيعة مستويات الحوار بين العقول المتعددة فينا (مستويات الوعى)، ومن ثـَمَّ علينا ان نحافظ طول الوقت على التعامل مع المخ، والوجود البشرى عامة، بما فى ذلك الجسد كأصل، وكمَسْمَع لحركية مستويات المخ، وذلك حتى يمكن أن نتعامل معه بلغة المستويات المتعددة، وبالتالى تكون المواجهة ليست هى مجرد إدراك وعى ظاهر لما يجرى وراء ستار، وإنما هى محاولة استيعاب حركية المخ وكيف يعيد بناء نفسه طول الوقت، ولتحقيق ذلك، فعلينا أن نمْعِن النظر، ولو فى خطوط عريضة فى الأحدث فالأحدث عن تركيب وحركية المخ، وكيفية احتمالات أن يعيد بناء نفسه باستمرار، وأضيف: من خلال سلامة مسيرة الإيقاع الحيوى،
وهذا كالعادة قد يضطرنا إلى استطرادات لازمة، وأيضا إلى قبول فروض يستحيل إثباتها بالمناهج المغلقة الجاهزة، مهما تجلت حقائقها فى الحياة الطبيعية والتاريخ، ومهما ظهرت إنجازاتها فى الممارسة الإكلينيكية:
أولا : الصراع Conflict
الصراع هو أول واشهر آلية يتردد الحديث بها عن هذه العلاقات الممكنة بين مستويات النفس، ويرجع الفضل فيها، كما يرجع الخطأ من التوقف عندها، إلى التحليل النفسى التقليدى، سواء الذى قال به فرويد أم الذى أساء استعماله بعض تابعيه والمتحدثون باسمه، فمبجرد أن تذكر لفظ الصراع، يتبادر إلى ذهنك الصراع بين “الذات والغرائز”، أو بين”الشعور واللاشعور” أو بين “ما ترغب فيه” وما “يـُفرض عليك” بصفة عامة، ويترتب على ذلك أن يكون الموقف المباشر هو البدء بفهم (أو تحليل!) هذا الصراع، ثم العمل على إنهائه بأسلم الطرق، وأكثرها أمانا ما أمكن ذلك، يتم ذلك تلقائيا على مسيرة النمو، أو بالعلاج المُحَمَّل بفكر التحليل النفسى.
يترتب على ذلك أن يُختزل المخ البشرى إلى هذا الاستقطاب الذى هو أبعد ما يكون عن التركيب البالغ التعقيد، البالغ الروعة، لهذا الكيان المكثف الرائع القادر: المخ وصاحبه، فهل هناك آليات وبرامج أخرى تجرى فى المخ وبالمخ وهو يعيد بناء نفسه؟
الإجابة هى بالإيجاب، وسوف أحاول أن أعرض بعضها فى شكل عناوين دون الإحالة إلى مدارس بذاتها، فقد فعلت ذلك مرارا – فى هذا الكتاب وغيره – من قبل، وسوف أكتفى بذكر عينات مما يمثله هذا التعدد مثل: علم النفس التحليلى، (كارل يونج) والتحليل التفاعلاتى (إريك بيرن)، وأنواع العقول (دانيال دينت)، ناهيك عن عطاء العلم العصبى المعرفى مؤخرا، والعلوم الكوانتية، وهو ما فتح الباب على مصراعية للتعامل مع المخ من خلال احتمالات لا حصر لها من التركيبات المتشابكة والمتكاملة والمتناغمة والمتصادمة فى أجزاء الثوانى، وباستمرار.
إن نتيجة ذلك هو أن الدراية بحركية المخ فى نبضه الحيوى لا يمكن الإحاطة بها تفصيلا، فما علاقة ذلك بحكاية فرط الدراية التى أحلنا إليها بعض أنواع القلق؟
إن الدراية بالصراع الداخلى دون التحقق من أطرافه، أو تحديد أسبابه، تتبعها تلقائيا وداخليا: عادة محاولة لمواجه أطراف الصراع، ولو فى السر، مما يترتب عليه ظهور أعراض بلا حصر من بينها هذا القلق الذى اسميناه ” قلق فرط الدراية”،
ثم إن “الصراع” ليس هو كل ما يمكن أن تتعامل به هذه الأمخاخ مع بعضها البعض، وإنما ثم احتمالات وبرامج بلا حصر نكتفى أن نعرض منها مايلى:
ثانيا: التناوب
إن أهم أشكال التناوب هو التناوب اليوماوى العادى الذى شرحناه مسبقا بشكل متكرر، وهو التناوب بين اليقظة والنوم، ثم بين النوم الحالم ونوم الريم (نوم حركات العين السريعة) وهكذا، والدراية بطبيعة ومحتوى هذا التناوب، خاصة أطوار النوم والحلم، هى أيضا بعيدة عن التناول مهما حكينا من أحلام، ثم قمنا بتفسيرها، الأمر الذى غالبا ما يخفي دورها لا يظهره، والدراية بهذه الحركية دون إمكان تحديد معالمها هى مصدر طبيعى للقلق الذى يمكن أن يظهر فى شكل ما أسميناه قلق فرط الدراية أو هو إذا أحسن استيعابه قد يدفع إلى حفز نمائى أو إبداع تشكيلى (أنظر بعد)
إن المواجهة الداخلية لهذه الحركية، إذا لم تظهر فى صورة مرضية دورية محددة ([2])، وهذا هو الغالب: يترتب عليها نوع من القلق المواجهى، ومن ثم القلق المفترقى الذى تناولناه الاسبوع الماض
ثالثا: التنافس:
قد لا يظهر التبادل فى صورة أستقطابية بهذا الوضوح الذى يتصف به التبادل والنوابية، وإنما فى صورة تنافس تجرى حلقاته فى الخفاء تحت ستار الوعى الظاهر، ثم ينتصر فيها مستوى من الوعى قد يكون أقل صحة وأعجز قدرة على مواصلة النمو والتكيف، فيغلب وينجح فى أخذ مقود القيادة مستوى عاجز أو نكوصى، أو انهزامى، أو بدائى، محل المستوى الناضج القادر، ليتولى القيادة، فهو المرض: وفى هذه الحال فإن العلاج يبدأ بأن ترصُدُ النفسمراضية التركيبية (structural psychopathology) هذا التنافس واحتمالات نتائجه،، ونتيجة لهذه المواجهة الإكلينيكية: يجرى التخطيط للعلاج الهادف لاستعادة التوازن حتى يتولى الإمساك بعصا المايسترو المخ الأقدر على مواصلة النمو والتشكيل، مع إعطاء الفرصة لسائر المستويات (الأمخاخ) للتناوب مع الإيقاعحيوى وخاصة الإيقاعحيوى اليوماوى أما إذا تمت المواجهة مع مجريات معارك التنافس هذه من جانب الشخص دون حوار أو ائتناس بوعى آخر (معالج أو شريك)، فمن المحتمل قد ينجح ويواصل النمو، فإذا زادت جرعة الدراية عن قدرة التشكيل، ترتب على ذلك ما أسميناه “القلق المواجهى” الذى قد ينتقل إلى قلق مفترقى …إلخ
وبعد
لعل العلاقة الوثيقة بين قلق المواجهة، والقلق المفترقى قد ظهرت بشكل مفيد، ليس فقط على مستوى تخليق الفروض، وإمكانية التنظير، وإنما أساسا على مستوى إمكانية الاستفادة من هذه الفروض فى تعميق الموقف الأساسى للطبنفسى الإيقاعحيوى، وهو التعامل مع “التاريخ” و”المعنى” و”الغاية” فى آن واحد، وأيضا مواكبة المريض والمرض، ومن ثم تنظيم العلاج، على أساس مسارات محتملة، نحن مسئولون عن ترجيح أفضلها بمسايرة حركية الطبيعة التى خلقنا بها، بديلا عن الاختزال، والانتظار، والاستقطاب، والتصنيف اللفظي.
وغدا نكمل
[1]- وأيضا دون الإلتزام بإعادة التشكيل، وهو ما يجرى فى المستوى التالى: الإبداعى، الذى سوف نعود إليه عند الحديث عن “القلق الإبداعى”creative anxiety
[2] – ثم إن هذا التناوب نفسه قد يتخذ شكلا مرضيا أكثر صراحة وأظهر حضورا، مثل الذى يظهر بشكل جسيم فى بعض الأمراض الدورية التى هى خلل فى تضخيم نبضة جسيمة ممتدة من الإيقاعحيوى الإمراضى (السيكوباثوجينى Pschopathogeny) ويجرى التبادل فى صورة نوبات استقطابية عادة : مثلا نوبات الهوس تبادلا مع نوبات الاكتئاب، أو نوبات الشك مع نوبات فرط الثقة ..إلخ، وقد يظهر هذا التناوب فى شكل سمات فى الشخصية المسماة الشخصية الدائرية (التى أسماها صلاح جاهين “الشخصية الفرحانقباضية”(نشرة 5-4-2015)، وقد يظهر فى زمن بالغ الصغر فى شكل أعراض التذبذب (نشرة 16-3-2015)، “والعجز عن اتخاذ القرار”(نشرة 15-2-2015)، أو بعض أعراض العجز عن الكف (نشرة 22-3-2015)، ثم التراجع والندم بلا جدوى.