يحيى الرخاوى طبيب نفسى
نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 8-8-2016
السنة التاسعة
العدد: 3265
الطبنفسى الإيقاعحيوى (82)
Biorhythmic Psychiatry
عن القلق:
قلق فرط الدراية
Hyperawareness Anxiety
(1) القلق الوجودى
مقدمة:
نعرض ابتداء من اليوم نبذات محدودة عن الأنواع التى رجّحنا أن تندرج تحت ما يسمى “قلق فرط الدراية”، ونبدأ بأن نعيد تقديم الجزء الأول من الفرض المرتبط بذلك ، على الوجه التالى :
“القلق هو إعلان عن واقع عدم تناسب مستوى نشاط الدراية وفاعليتها مع درجة حركية التشكيل الإيقاعحيوى وعن مدى نجاحه فى مواصله التطور الإبداعى، فكلما تناسقت وتناسبت “جرعة الدراية” مع “حركية التشكيل” كان الوعى بهذا التناسق والتناسب هو الإعلان الممكن عن ما سوف نسميه “القلق الإيجابى”، وفى مقابل ذلك فإن عدم التناسب إذا وصل إلى درجة معطِّلة أو مزعجة أو مؤلمة فإن الوعى به يندرج تحت القلق فى حضوره السلبى (المرَضِى غالبا).
و فى حالة زيادة جرعة الدراية، وهى ما نسميها بقلقلة “فرط الدراية” وهو ما يحدث عادة فى أطوار “التفكيك” و”إعادة التشكيل” إذا تواكب ذلك مع العجز النسبى المؤقت (أو الدائم أحيانا) عن استيعاب هذه الحركية فى التشكيلات المتجددة، فإن النتيجة تتجلى فى عدة مظاهر إكلينيكية قد تصل إلى درجة المرض.
وبعد
من حيث المبدأ، فإن هذه المجموعة تشير إلى ظاهرة القلق، وليس إلى مرض القلق، أو عصاب القلق، كما هو مبين فى الشكل البادئ، وهو يمكن أن يكون قلقا إيجابيا (+) أو سلبيا (-) بمعنى أنه يحتمل الاثنين كما هو مبين بالشكل (+)، وسوف نبدا اليوم بتناول “القلق الوجودى”
القلق الوجودى: هو قلق مُـعـَقـْلـَنٌ غالبا ، وهو يركز على حكاية “البحث عن الذات”، والتركيز على “إثبات الذات”، و”تقديس الحرية الفردية”، مع بقية الأوصاف التى تعلى من شأن الفرد أوّلا، مع وجود تشكيلات إيجابية لبعض تفريعاته، فثـَـمَّ قلق وجودى إيمانى، وثـَـمَّ قلق وجودى إبداعى إلخ .. (أنظر بعد) ونحن غالبا نستورد من الغرب الشكل الظاهرى لهذا النوع من القلق، دون بقية أعماقه وأبعاد مسئوليته، وأغلب المقولات المقدسة لما يسمى “حقوق الإنسان” ومثل هذا الكلام الجميل الخطير، هى مقولات مستوردة جاهزة التشكيل، وهذه المقولات فى ذاتها لا تمثل مصدرا للقلق، لكن التوقف عندها، والدوران حول مجرد تحقيق مظاهرها، قد تصاحبه درجة من التحفز وعدم الاستقرار السلبى غالبا ، مع زيادة “الحديث عن الوجود” أكثر من ممارسته !! وتعبير “منشغل بالحرية كنحلة في قبعته” Bee in the hat هو تعبير يمكن أن ندرك منه موقفا نقديا عندهم لوصف بعض هذا النوع من القلق !! وحين حاولتُ أن أستعير له تعبير قطة على سطح من الصفيح الساخن، لم أسترح ووجدتـُنى أكاد أصف من يعايش شكله فى ثقافتنا من المثقفين (أو ممن يسمون كذلك) بتعبير : “قطة على سطح من الصفيح البارد” ومن ثَمَّ تكاد تنتفى منه صفة “القلق”.
كما يبدو أحيانا أن هذا النوع من القلق هو بمثابة مطلب فى ذاته، لذاته، وأن من يعيشه هو فى واقع الحال فى حاجة شديدة للاحتفاظ به، وحكاية ”إن الآخرين هم الجحيم“ لا تتنافى مع ذلك، فما دامت هناك حياة، فهناك آخرون، وماداموا هم الجحيم، فثم قلق مستمر متجدد فى إرساء علاقة مع أى آخر، اللهم إلا علاقة التماثل الإسقاطى (إن صح التعبير)
فى هذا النوع يعتز الشخص بعالمه الداخلى المعروف له، أو غير المعروف، دون تقييم كبير لغير المعروف، وهو يقفل حركية داخله فى دائرة ذاته، ليصبح عالمه الداخلى (أو ما يعتقد أنه عالمه الداخلى) هو كل حياته: وهات يا أفكار وكلام عن القلق والوجود !، وهو جاهز لإصدار الأحكام على من يخالفه، والتهوين من شأنه، وكثير من معاركه تجرى بينه وبين نفسه دون إعلان حتى لذاته.
وبرغم تركيزه على ذاته إلا أنه عادة لا يرضى عن الصورة التى يرسمها لنفسه، وهو لا يـُنمِّى نفسه من خلال تلقائية الانتماء إلى برامج إعادة التشكيل الطبيعى بقدر ما يعمل على تجميلها بمعرفته المعقلنة أيضا ، بما يترتب عليه – بالرغم من درجة الدراية المعقلنة غالبها – ألا يتواكب مع تلقائية النمو، وتواصُـل الإبداع الحيوى، ودوام التغير.
وأخيرا: فإنه يواصل معركته التى يكون غالبا قد اصطنعها اصطناعا بموقفه هذا ، وربما يرفض اى حل حتى الحلول التى يصل إليها بنفسه، وهو ينفصل عن – أو يخاصم- كل دوائر الوعى المحيطة، وليس فقط ما يمثـِّله وعى ”الآخر“ الذى اعتبره الجحيم، ولكن أى وعى قد يستدرجه إلى غير اليقين الذاتى وصل إليه بنفسه
ويمتد رفضه للامتداد فى دوائر الوعى الأخرى، وبالذات إلى الوعى المطلق ، ويعتبر كل ذلك إما من قبيل الخرافة ، وإما نوعا من الميتافيزيقا ، فهو من فرط تحوصله يخشى أن يتلاشى وعيه الذاتى (حدود ذاته) فى أى دائرة وعى بعده، وخصوصا الدوائر المفتوحة النهاية، اللهم إلا دائرة الإبداع المُسقط خارجه غالبا، بما يمتلك من مهارات يستعملها عادة “لتأكيد الذات”.
ولا يُعتبر هذا النوع من القلق مرضا أصلا، وينبغى احترامه ووضعه فى مكانه المناسب فى طيف الاختلافات الفردية ، إلا أنه فى بعض الأحيان، تتعاظم الصفات السالفة الذكر حتى يصبح هو نفسه غير متسق مع كل نفسه، ونظرا لأننا رصدنا أنه ينتمى إلى مجموعة فرط الدراية ، فإن ذلك يشير ضمنا إلى أنه على درجة عالية من الاستبطان الذى يشمل، ولو جزئيا درجة مناسبة من الدراية حتى لو غلبت عليها البصيرة المعقلنة
إذا وصل الحال بمثل صاحب هذا القلق إلى اللجوء إلى الاستشارة الطبية فإنه لا يتردد ولو من باب المعاصرة أن يستشير طبيبا نفسيا، أو محللا نفسيا إن تيسر، وهو يطلب عادة العلاج الذى يعتفد أنه أنسب له، وهو غالبا حسب الشائع نوع من “التحليل النفسى” التقليدى (أو الأحدث) الذى قد يساعده فعلا فى تعديل نوع البصيرة المعقلنة، لكنه كثيرا ما يزيد من تركيزه على التفسير والتأويل على حساب الفعل والتشكيل، حسب تقنية العلاج ومسئوليته هو والمعالج (أو المحلل) معا.
إذن فهذا القلق يستحق هذه العلامة المميزة له فى الشكل البادئ (+) ، وله علاقة وثيقة ببعض أنواع القلق الأخرى المدرجة تحت هذه الفئة، وبالذات بـ:”القلق المفترقى“، و“القلق الإبداعي“, وإلى درجة أقل “القلق الكونى” ، كما أن له علاقة بما أسميناه فى فرض “حالات الوجود المتناوبة” بـ:”الحالة المفترقية”، هذا علما بأن المغالاة فى عقلنته، وتجميد أيديولوجيته يمكن أن تسحبه إلى حالة “فرط العادية “، مما سوف نعود إليه لاحقا.
***
إن صح كل ذلك أو صح بعضه، فما هو موقف الطبيب النفسى وقد وصل إلى أن ما يعانى منه مستشيره هو نوع من القلق، وإذا به يتبين أنه من هذا النوع؟ فماذا يترتب على قبوله هذا التصنيف ولو جزئيا
، وهل يؤثر ذلك فى مسيرة العلاج ؟
فى تصورى – وممارستى- أن هذه الرؤية فى المجال الإكلينيكى تسمح بنوع من العلاقة العلاجية لها معالمها الخاصة التى يمكن رصد بعضها فيما يلى :
أولا: إن مجرد السماح بإضافة هذا البعد إلى توصيف (وليس مجرد تشخيص) مثل هذا النوع من القلق هو أمر مفيد فى العلاج ، حيث أنه – مهما بلغت درجة العقلنة فى هذا النوع فإنه يعلن أن ثـمَّ اهتزازا قد حدث فى ثبات المعتقد مما نتج عنه حاجة إلى المراجعة لاستعادة التوازن بين تنشيط الدراية وإعادة التشكيل ، ومن ثـّمَّ اللجوء إلى طلب المساعدة العلمية المهنية
ثانيا : إن هذا القبول يمكن أن يؤدى إلى مزيد من القبول، والتركيز على ما جاء بهذا المريض هكذا إلى الاستشارة فى هذا الوقت بالذات: هل هى زيادة جرعة البصيرة المعقلنة، أم انتباه مستشيره إلى الفرق بين ما هو “زيادة البصيرة” بمعنى الاستبصار الذاتى، وبين “فرط الدارية” بمعنى إدراك غامض للجارى بما قد يستثير موقفا حافزا، وكأنه إعلان ضمنى أن هذا القلق قد يكون إشارة البداية أن المستشير هو على وشك نقلة نوعية لاتخاذ موقف نقدى يسمح له بتطوير هذا القلق إلى القلق المفترقى بل ربما إلى القلق الإبداعي، ونادرا إلى القلق الكونى.
ثالثا: عادة ما تساعد هذه الرؤية الطبيب على ضبط جرعة تدخله ، حتى إذا كانت رؤيته قد التقطت أن ما وصله هو الجانب السلبى لهذا النوع، فليس من حقه أن يستدرج مريضه إلى مرحلة يراها أكثر تناسبا لضبط جرعة التوازن بين الدراية وإعادة التشكيل من خلال الإقناع والتفسير، ذلك أن الاصلح لكثير من هؤلاء المستشيرين أن تـُفتح لهم – من خلال الوعى البينسشخصى وامتداداته- احتمالات التفرّع والنقلات دون رفض مباشر أو غير مباشر لمعتقداتهم التى تصل فى كثير من الأحيان إلى درجة “ألايديولوجيا الراسخة” ، وفى هذه الحالة يمكن أن نكتشف أن ما يعانى منه المريض هو الخوف من اهتزاز هذه المعتقدات قبل أن تنشط القدرة على استيعاب النقلة إلى غيرها، ربما مثل المتدين المتمسك بالحرفية حين تهتز منظومته فيحل به مثل هذا القلق خوفا على حلحلة معتقداته الثابتة، لكن ذلك يحضر فى مثل هذه الحالات فى صورة وساوس لحوح ، لا تنتمى مباشرة إلى هذا النوع من القلق.
رابعا: ليس الغرض من تمييز هذا النوع من القلق تصنيفه فى مكانه مع أنواع قلق فرط الدراية، بقدر ما هو محاولة الربط بينه وبين أنواع قريبة من نفس المجموعة، كما ذكرنا: مثل علاقته بالقلق المفترقى، والقلق الكونى، والقلق الإبداعى ، ذلك لأن النقلات من خلال حركية الوعى البينشخصى والجمعى قد تعطى له فرصة العبور إلى ما هو اقرب إليه، وهذا غير العلاج بالتفسير والتأويل، بعد رصد الأعراض وتعليق لافتة التشخيصص “عصاب القلق” غـُفلا من المعنى والغاية من مغزى إعلان حاجته للمشورة من جرعة القلق التى ألجأته للاستشارة فى هذا الوقت بالذات.(مما سأتى ذكره لاحقا)
……
ونبدأ فى النظر لسائر الأنواع الأخرى من المجموعة من الأسبوع القادم