نشرة “الإنسان والتطور”
الاثنين: 22-2-2016
السنة التاسعة
العدد: 3097
الطبنفسى الإيقاعحيوى (8)
Biorhythmic Psychiatry
النظرية التطورية الإيقاعية (3)
مقدمة باكرة فى النظرية
الافتراضات الأساسية
(وجذور ثقافية)
تمهيد وإيضاح بدْئىّ:
أثناء مراجعتى للجزء التالى من المقال (موجز النظرية: المفروض أن يكون نشرة اليوم( الذى كتب منذ ثلث قرن، وكنت قد وعدت بإضافة بعض التعقيبات الضروية التى استجدت حتى نواكب بعض المستحدثات ولو من حيث المبدأ فى هذه المقدمة، أثناء ذلك: فوجئت بمفجأتين هامّـتين فضلت أن أثبتهما ابتداءً:
الأولى: أننى دخلت على عمّنا جوجل – جزاه الله عنا خيرا- واستشرته فيما استُحْدث فيما هو الإيقاعحيوى، فإذا بى أمام بحور من المعرفة يستحيل أن ألمّ بها فى سنوات، وأغلبها له علاقة بما وصلنى من الممارسة وسجلتـُه فى هذه المقدمة الباكرة(1)، فقررت ألا أستـَدْرج إلى هذه الإطلالة التى قدرت أنها لن تعطل فقط تقديم النظرية ، بل قد تحتل مساحة ووقت النشرات جميعا (وغير ذلك من وقتى أيضا)، فقلت أستكشف نفس الموضوع من “الصور” المتاحة تحت نفس العنوان فى نفس الموقع ، فإذا بى أمام كمٍّ مماثل، لكننى أعجبت إعجابا شديدا بهذا الفيض من المعلومات من مجرد التأمل فى الصور حتى دون التمعن فيما كتبت تحتها أو فيها.
المفاجأة الثانية: هى أننى وجدت أننى كنت قد جمعت من القرآن الكريم الأيات (و أجزاء الآيات) التى تشير إلى الإيقاعحيوى ووصلنى كيف أنها تحرك الوعى البشرى فى هارمونية مع الطبيعة إلى الوعى الكونى إلى وجه الله، لكننى فضلت أن أؤجل تناول كل هذا حتى أتعرف ما استطعت أولا على “فطرة الله التى فطر الناس عليها” بعلاقتها بمستويات الوعى المتصاعدة.
كان ذلك منذ أكثر من عشرين عاما على ما أذكر، ولم أرجع إليها أبدا ، ولم أستشهد بأى من هذه الآيات قبلاً حيث أننى حذر تماما من هذا المنهج ، لأننى أتجنب بشكل حاد تماما أن يؤخذ مثل ذلك على أنه نوع مما يسمى التفسير العلمى للقرآن، الأمر الذى أرفضه من حيث المبدأ، بل إننى سبق أن تعلمت من ممارساتى فى النقد الأدبى أن أحذر من وصاية علم النفس على الأدب أو النقد الأدبى، حتى رفضت ما يسمى “التفسير النفسى للأدب”، وأحللت محله ما أسميته “التفسير الأدبى للنفس”، بمعنى أننى تعلمت ماهية النفس من الأدب، وبدأت فى جمع بعض أعمالى النقدية لأثبت ذلك فى كتاب أول بعنوان “تبادل الأقنعة”، وقد خطر لى الآن مثل ذلك بالنسبة للقرآن الكريم وأن العلم خاصة العلم الميكنى السلطوى المقارن، هو أبسط وأسطح من أن نلجأ إليه لتفسير القرآن، فى حين أن الاستلهامات من آى الذكر الحكيم باعتباره وعيا خالصا أو أساسا، هى شديدة الكرم سابغة العطاء لكل مجالات الإدراك والوجدان فالإيمان والحياة.
إن ما يصلنى من القرأن الكريم هو “وعي خالص” لا يحتاج إلى تفسير، وهو فى ذاته قادر أن يحرك الوعى البشرى إلى غايته، فهو يكشف عن حقائق أصيلة فى الفطرة البشرية، بل ويحفزها إلى طريقها الأسلم، إلى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم، ومن ثم إلى دعم ما يمكن أن يدعم من تناسق مستويات الوعى المتصاعدة، فهو أساس فى تحقيق مستوى التوازن الإبداعى فى مسار الإبداع نحو ما هو كيان نامٍ صحيح.
فى نفس الوقت وفى ممارستى اليومية لمهنتى انتبهت بوضوح إلى العلاقة بين توقيت الصلاة فى دينى، (وربما فى كثير من الأديان التى لا أعرفها) بالإيقاعحيوى، فَرُحْتُ أوصى مرضاى بالصلاة باعتبار أنها سبيل إلى تسهيل مهمتنا فى التواصل بين مستويات الوعى بانتظام إيقاعى رائع، حالة كوننا نواصل تنشيط الوعى البينشخصى وتخليق الوعى الجمعى (فى العلاج الجماعى مثلا)، وكنت أحاور مريضى فى ذلك فيلتقطه أسهل وأبسط مما يصل إلى أغلب الزملاء، وكان كل هذا يتم دون اللجوء إلى الحث على الصلاة ولزومها كعبادة واجبة دائما من الناحية الدينية، وعادة ما كان يلتقى هذا مع ذاك دون تناقض فيتحقق هدف استعادة التوازن عند من يحسن تلقى التوصية بوعى متفتح، كلٌّ بلغته.
ظللت أمارس ذلك سنين عددا وقد لاحظت بأمانه مدى فاعلية هذه الفروض يوميا مع التحذير من الظن أننى بذلك أفسر جدوى الصلاة أو فائدتها بديلا عن ثوابها وموقعها بين العبادات، وإنما كنت – وما زلت – أتصور أننى بذلك أوثق العلاقة بين مستويات الوعى إلى غايتها التى خلقها الله على أحسن تقويم.
فى نفس الوقت لاحظت علاقة كل ذلك أو بعض ذلك بما تقدمه هذه النظرية (الإيقاعية التطورية) وأنها نابعة من عمق ثقافتنا، مما أشرت إليه فى البداية بوضوح، أن مدخلى إلى التطور وإلى الإيقاع هو من خلال إيمانى بخالقهما جميعا.
ثم ماذا ؟
سوف نرى:
عودة إلى النظرية نقرأ النص القديم كما هو،
مع الإضافات الممكنة والأشكال المساعدة كلما لزم الأمر.
ثانيا: الأفكار الأساسية والأبعاد العامة:
”إن الظاهرة البشرية جزء من الكون الأعظم, تشترك فى قوانينه العامة, وتختلف فى تمييزها المحدد بمعالمها الخاصة, ومن أهم ما يشمل ظاهرات الحياة جميعا هو الايقاعحيوى على كل المستويات, وفى مختلف الوحدات الزمنية.
انطلاقا من ملاحظة دورية نوبات المرض النفسى (العقلي) من ناحية (2), ومراحل النمو من ناحية أخرى (بما يشمل النمو العلاجي) رأيت أنه ينبغى أن يعاد النظر فى التنظيم الحيوى للمخ البشرى من حيث علاقة ذلك بالايقاع الحيوى المنتظم, ومضاعفات تعثر مساره, وأخيرا من حيث إمكانية الوقاية من ذلك التعثر, ومحاولات تعديل المسار بمواكبة ايقاعية أقدر (وهو ما يسمى العلاج).
تعقيب:
نلاحظ كما ذكرت منذ البداية كيف أن انطلاقى كان ومازال من الممارسة الإكلينيكية مباشرة، هنا والآن، وليس من معلومات وأبحاث التطور بل تهمنى التذكرة هنا أن فكرة نوابية المرض النفسى والذهان خاصة، وبشكل أكثر تواترا: الجنون الدورى (اضطرابات الهوس والاكتئاب) أقول إن الفكرة ليست جديدة ولا هى ملاحظة عند الأطباء فحسب، وإنما هى معروفة وشائعة بين العامة، وقد تناولتها بالتفصيل فى نقدى لرباعيات جاهين (رباعيات .. رعيات)(3)ولعل هذا يوضح ما أعنيه مما جاء فى أصل المقال فى الجملة القائلة: “انطلاقا من ملاحظة دورية نوبات المرض النفسى “الفعلى”.
ثم نعود إلى ما جاء فى المقال القديم بترتيب ما أورده:
1 – الايقاع الحيوى وطبيعة مسيرة الانسان.
2 – المعلومة والبيولوجي
3 – التنظيم والتصعيد
4 – العلاقة بين ما سبق
أولا: تتم عمليات التوازن الحيوى(Homeostasis) فى ايقاع منتظم لا ينقطع, مع اختلاف وحدة الزمن (4) فى كل عملية توازنية,
تعقيب:
كنت قد استعملت كلمة Homeostasis مقابل ما أسميته التوازن الحيوى، وبمراجعة ذلك الآن وجدت أن المقصود أساسا بهذا اللفظ بالإنجليزية هو:الحفاظ على حالة من الثبات لكل المستويات الحيوية الفسيولوجية ومحكاتها تحت مختلف الظروف، مثل درجة حرارة الجسم، وضغط الدم، ومستويات الالكترونيات فى سوائل الجسم…الخ، ومع أن هذا لا ينفى أن حالة الثبات هذه قد تكون نتيجة لتوازن إيقاع مستمر، إلا أننى فضلت التنبيه الآن إلى أن هذا ليس ما أعنيه تماما، نظرا لأن من أهم معالم ما أقدمه هو الدفاع عن حتمية الحركة (نبضا وجدلا وإبداعا) مما يتعارض ولو ظاهرا مع المفهوم الشائع عن الثبات فيما يسمى Homeostasis.
الايقاعحيوي هو ظاهرة دينامية جدلية (ديالكتيكية) سرمدية, وقد يمكن ارجاع تواترها وسرمديتها الى تاريخ الحياة التطورى الطويل حيث كان – وما زال – لزاما على الكائن الحى أن يتكيف فى مواجهة بيئة إيقاعية دورية محيطة, وبالنسبة للمخ بوجه خاص, فانه توجد أدلة فسيولوجية متزايدة على أن الايقاع الحيوى هو محور نشاطه بشكل أو بآخر, يمتد ذلك من الاطلاق الدورى(5)المنتظم للجهد الفاعل ((6))لمحور الخلية العصبية المفردة – Neuronal axon الى محصلة النشاط الكهربى للمخ ككل, وهو الذى يسجل فيما يسمى رسام المخ الكهربائي. E.E.G.
إن الانتباه الى الايقاع الحيوى ليس جديدا (7) الا أن هذا الانتباه قد أخذ مسارا محدودا بعيدا عن أهم مجالات عطائه للفهم الأعمق لطبيعة الإنسان ومسيرة نموه تناغما مع دورات الكون خارجه -لا داخله فحسب- مما انتهى به – خاصة عند العامة الذين لم يستطيعوا أن ينكروه أو يتنكروا له- فانتهى بهم حدسهم إلى بعض المعقتدات النابعة من ثقافتهم التى تربط بين السماء والنجوم والقمر والمجهول مثل المعتقدات المرتبطة بالتنجيم والعلاقة بين البروج وقراءة الطالع الخ. ولعل انحراف المسار الى هذا الاتجاه هو الذى أجل الاهتمام الضرورى بدراسة الايقاعية البيولوجية لنشاط المخ البشرى فى علاقته بسائر دوائر الوعى، ولكن الاهتمام بدأ يأخذ مجراه الطبيعى فى الاتجاه السليم مؤخرا.
هذه المقدمة عن النظرية الإيقاعية التطورية (المقال) قد تكون إسهاما فى ذلك, وهى تطرح الفروض – من واقع الممارسة – على الوجه التالي:
أولاً: إن الظاهرة البشرية – ككل – مثل كل الظواهر الحيوية: الأدنى والأعلى، هى ظاهرة ايقاعية أساسا, وأعنى بالايقاعية كلا من: الذبذبة المتزامنة الدائرية synchronous circular oscillation والنبض الدورى اللولبى spiral periodical pulsation , وفى حين يواصل النوع الأول الحفاظ على التكيف الحيوى والسلوكى فى بيئة إيقاعية. فإن النوع الثانى يسهم فى التصعيد الولافى للنمو المتصل.
تعقيب:
لا أعرف من أين جئت حيننذاك بهذه المصطلحات وهذه التفرقة، وقد رحت أبحث عن أصلها في المتاح الجديد فلم أجده نصا، لكننى كما قلت وجدت من الصور ما يعيننى على تركهما كما هما.
أما الذبذبة المتزامنة الدائرية فالأرجح أننى كنت أشير بها إلى إيقاعحيوى حركى (تعتعىّ) تمهيدا للإيقاع للإبداع والجدل اللاحق وهو يمكن أن ينتهى حيث بدأ لكن يؤدى دور الحلحلة والتعتعة كما ذكرنا، وأما الثانى تنتهى دورته إلى موقع جديد أعلى (أرقى نموا) نتيجة للجدل فالإبداع الذى حدث أثناء التعتعة، إذن فيبدو أننى استعمل تعبير الذبذبة المتزامنة الدائرية synchronous circular oscillation لوصف الأول، أما تعبير spiral periodical فهو لوصف النوع الثانى شكل (2)
نكمل غدًا
[1]- لم أكن أعرف الطريق إلى جوجل أصلا حين كتب هذه المقدمة
[2] – قبل التدخل الطبى الكيميائى الحديث، وبالرغم منه
[3] – يحيى الرخاوى: “رباعيات…و…رباعيات” قراءة فى رباعيات الخيام وسرور وجاهين” عدد يناير 1982 مجلة الإنسان والتطور، وكتابى: “رباعيات .. رباعيات” سنة 2000
[4] – حيث تتراوح من الميكروثانية (فى تفاعلات الكيمياء الحيوية مثلا) الى الميلليثانية (فى نشاط الاطلاق Firing النيورونى المنتظم) الى الثانية الكاملة (فى دورة القلب candiac cyde الى تسعين دقيقة فى نشاط النوم النقيضى … الخ.
[5] – Firing
[6]-Action Potential
[7] – ومن الطريف أن فلايس Flies (صديق فرويد) كان من بين الأوائل الذين أشاروا الى أهمية الايقاع الحيوى الذى يتحدد تلقائيا منذ الولادة، ويظهر فى دورات كل 28 يوما عند المرأة (ممثلة أساسا فى دورة الطمث)، وكل 28 يوما عند الرجل، وقد وافق فرويد صديقه فى البداية، ثم عاد فأنكر ذلك كلية (سنة 1900) ربما بعد أن تباعد عن الاهتمام بفسيولوجية وباثولوجيا المخ، أو ربما خوف الشطح دون دليل.