نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 30-7-2016
السنة التاسعة
العدد: 3256
الطبنفسى الإيقاعحيوى (77)
Biorhythmic Psychiatry
العصاب الأم “عصاب القلق”
(وموقعه فى ثقافتنا بوجه خاص)
مقدمة
لا أعتقد أنه يوجد لفظ شاع استعماله فى العصر الحديث، وخاصة فيما يتعلق بما هو نفسى (مرضى أو غير مرضى) مثل هذا اللفظ “القلق”! فهل يا ترى هو – بما شاع عنه وشاع به – يصف فعلا جانبا من ثقافتنا ونحن نحاول أن نتعرف على جذورنا الطبيعية قبل أن ننطلق إلى استعمال هذا اللفظ فى مجالاته المختلفة المهنية بالذات، برغم ما قد يؤدى ما أصابه من اختزال على ناحية وتعميم على الناحية الأخرى؟ وإلى أى مدى يفيد ذلك وخاصة حين نعلقه لافتة تشخيصية لمرض معين؟
الظاهرة قبل اسمها:
ظهور اللغة هو ظهور لاحق – تطوريا – لحركية الظاهرة التى تُسَمّيها (خاصة فى مرحلتها الإنسانية)، وبالتالى فإن البحث فى تاريخ ظهور لفظ معين (1) قد يهدينا إلى دلالة تخليقه فى مرحلة بذاتها ليؤدى وظيفته فى حدود نشأته واستعماله، وقد يتحور اللفظ بتحور الثقافات، وقد تموت بعض الألفاظ أو تُهمّش: لتحل محلها أخرى أكثر تناسبا مع مرحلة غير المرحلة التى نشأت فيها، وهكذا.
وبعد
اليوم سوف أناقش القلق أكثر من حيث أنه “العصاب الأم” وليس باعتباره العرض المحدد المعالم الذى يمكن أن يوجد مع أى مرض نفسى آخر، هذا علما بأنه قد سبق لى أن قدمت عرض القلق ضمن فصل الأعراض فى كتاب “الأساس فى الطب النفسى”، وقد يكون مناسبا أن أقتطف منه ما يناسب المقام الحالى وخاصة فيما يتعلق بالطبنفسى التطورى.
مقتطفات من نشرة الأعراض عن “القلق” 5-1-2015:
أولاً: “القلق حركة داخلية أساسا، وكثيرا ما يتم تفعيلها فى حركة عضلية خارجية ، تتمثل فى ما يسمى عدم الاستقرار الحركى، وأحيانا، العصبية، وسرعة الاستثارة، وكثيرا ما يوصف مريض القلق بفرط الحركة المصاحبة بالتوجس ودرجة من توقع خطر ما، غير محدد د فى العادة،
ويختلف التعبير عن ما يسميه الأطباء “قلقا” باختلاف الثقافات الفرعية، ففى الريف مثلا نادرا ما يتحدث فلاح مصرى عن أنه “قلق”، وإنما يكثر الكلام عن “العصبية”، و”النرفزة”، و”قلة الاستحمال” و”الاستعجال” ومثل ذلك من علامات أغلبها حركية، فى حين أن سكان المدن، (ربما تأثرا بالتليفزيون ومثله) يتكلمون عن القلق مباشرة، وأحيانا يتحدثون عن التوتر، والشــَّـدّة، والغضب، و”قلة الصبر”، و”الانزعاج” دون سبب وهم يشيرون إلى توقعات عامة وغامضة، وهو ما يوصف به القلق مؤخرا”.
………………….
………………..
ثانياً: لاحظت أن علماء الطب النفسى التطورى ربطوا القلق بما ربطوا به الخوف تقريبا من حيث توجهه إلى تهيئة الحيوان للاستعداد لمواجهة خطر قادم، من الخارج أساسا، حيث لا يمكن سبر الداخل على هذا المستوى التطورى، وبالتالى اختلط القلق بالخوف تطوريا، لكننى انتبهت إلى تفرقة تفصيلية لعلها تفيد وهى أن القلق مرتبط بحالة “الاستعداد” لاحتمالات الخطر، في حين أن الخوف هو تفاعل فى مواجهة الخطر فعلا،
ثالثاً: بانتقالنا للإنسان رحت أمد هذا الخط لأعبر من واقع منظور التطور عن “الحق فى القلق”، من حيث أن الاستعداد أحيانا يكون تحضيرا شديد الأهمية للمواجهة، بل إن الاستعداد قد يكون هو المحدِّد أحيانا لنوع المواجهة.
………………….
………………..
رابعاً: أن القلق عند الإنسان هو “الوعى بالخوف”، أكثر منه الخوف ذاته، الوعى بالخوف حتى يكون قلقا متميزا عن الخوف من مثيرات محددة، حقيقية أو متخيلة، وهو يكون وعيا بقدوم، أو ترجيح، أو احتمال غالب لخطر مجهول، تغلب عليه درجة من التوجس، والمبالغة فى الحسابات، والتشاؤم وخاصة بمعنى توقع الأسوأ، من الأيام ومن المجهول عادة“.
………………….
………………..
خامساً: بالرجوع إلى وظيفة القلق الصحية والتطورية قبل أن يكون مرضا يمكن النظر إليه على أنه حافز لمزيد من الانتباه للمخاطر الحقيقية فى الخارج، وأيضا ربما يحفز إلى فحص داخل النفس على حد سواء، بما يترتب على ذلك من توظيف ظهوره كدافع لحركية دافعة لتطوير القدرة على مواجهة الأسباب الظاهرة والخفية واستيعابها ما أمكن ذلك.
عودة إلى أصل اللفظ:
بدأت اليوم بالرجوع إلى اللفظ نفسه بما فى ذلك البحث عن تاريخه لربطه بثقافتنا الخاصة قبل أن أتحدث عن كونه يصل إلى درجة مرضية جعلتنى أصفه بأنه “العصاب الأم” الذى تتفرع منه كل العصابات الأخرى، وفوجئت بما كنت أتوقع وأنه لفظ نادر الورود فى اللغة العربية الفصحى التى أعتبرها أصل تاريخى أصدق وأكثر موضوعية من كل المكتوب تحت مسمى التاريخ.
لم أجد لفظ القلق متواترا فى أصول الشعر القديم الرصين مقارنة بألفاظ أخرى مثل الهم والحزن والضيق والنزق، وحين وجدته كان يعبر أكثر عن حالة حركية أكثر من تعبيره عن وجدان عميق مكثف، وإليكم بعض ما وجدت من أمثلة محدودة:
نبدا بمعلقة لبيد بن ربيعة(2)وفيها:
رَفَّعْتُهَا طَرَدَ النَّعامِ وَشَلَّهُ حتى إذا سَخِنَتْ وَخَفَّ عظامُها
قَلِقَتْ رِحَالَتُهَا وَأسْبَلَ نَحْرُهَا وابتلَّ من زَبَدِ الحمِيمِ حِزَامُهَا
وكان لبيد يصف فرسأ اعتادت على فارسها، حتى صار لجامها وشاحًا له، لأنه لا يفارقها. ينتصب عنقها كجذع النخلة العالية، معتادة على الطرد، خفيفة العظام، ولشدة سرعتها يتحرك سرجها باضطراب فوقها، ويمطر لعابها على نحرها، وهى فى هذا الحال من التعب والكلل. تعب وإرهاق فإنها ترفع عنقها نشاطاً فى عدوها كأنها تطعن بعنقها فى عنانها، وتسرع فى عدوها الذى يشبه فى سرعته سرعة طيران الحمائم إذا كانت عطشى.
نلاحظ هنا كيف أن القلق يصف سرعة الحركة، أما الرحالة: فهى شبه سرج يتخذ من جلود الغنم بأصوافها ليكون أخف فى الطلب والهرب. المعنى: اضطربت رحالتها على ظهرها من إسراعها فى عدوها ومطر نحرها عرقا وابتل حزامها من زبد عرقها، أى من عرقها.
فنلاحظ كيف أن هذا المعنى مجسدا تجسيدا واضحا فى حركة ظاهرة سريعة وليس له أى علاقة بالقلق الذى نتكلم عنه والمرتبط بالوجدان والإدراك أساسا.
ثم ننتقل إلى المتنبى(3) وهو يهجو بكل قسوة رجلا فسْلا مات اسمه إسحق.
قالوا لنا مات إسحاق فقلت لهم هذا الدواء الذي يشفي من الحمق
………………
إلى أن قال:
ما زلت أعرفه قردا بلا ذنب صفرا من البأس مملوءا من النزق
كريشة بمهب الريح ساقطة لا تستقر على حال من القلق
فنجد نفس المعنى وهو الحركة العشواء غير المستقرة بعيدا عن الوجد والوجدان.
إلى أن نصل إلى الشعر الحديث فيظهر القلق بالمعنى الوجدانى الذى تناوله – مثلا – عبد اللطيف محرز(4) وهو يقول:
فلا حياة لليل الهم والرهق
والحلم يورق حتى في لظى سقرٍ
والقلب تخضرّ فيه جمرة القلق
وأحدث من ذلك شعر الشاعر عبد العزيز جويدة (5) وهو يقول:
لا تَحسَبي أن الكتابةَ عن هوانا عَبَّرَتْ
هي ليسَ إلا بعضَ دُخَّانٍ قَلقْ
إن المشاعرَ لا تُقاسُ بنظرةٍ أو لمسةٍ
………………….
………………..
القلق فى العامية المصرية
ثم إنى رحت أبحث فى العامية المصرية الأعمق، التى لم تنهزم بالإعلام ولم تتشكل باللغة النفسية الشائعة، فلم أجد فى موسوعتين للأمثال العامية المصرية مثلا مصريا عاميا واحدا يستعمل كلمة قلق، كذلك لم أعثر فى حدود بحثى وحرفتى على لفظ قلق فى أى أغنية شعبية، ولم يسعفنى أى ممن سألتهم عن ذلك.
رجعت إلى محاولتى لإكتشاف ثقافتنا العادية من واقع برنامج قدمته فى قناة النيل الثقافية باسم “سر اللعبة”(6) لأكثر من عامين وشاركنى فيه ضيوف من عامة الناس ليسوا مرضى، وأغلبهم ليس له علاقة بالعلوم النفسية، ووجدته منهجا يمكن أن يعتبر عينات لحقيقة الثقافة الجارية، وكان المقصود منه – كما ظهر تفاصيل ذلك – فى نشرة سابقة بتاريخ 28-11-2007 (الوحدة والتعدد فى التركيب البشرى “أنا واحد ولاّ كتير”) أن أتعرف على – ليعرف الناس – حقيقة جذورهم الممتدة فى ثقافتهم، ولأننى كنت أعد شخصيا نص الألعاب فى كل حلقة فقد تعمدت أن يشمل النص محاولة أن يستدرج موقفا ناقدا عن ما يشاع عن القلق (أو غيره من المواضيع التى ناقشناها) وكأنه تدريب على نقد شعبى لثقافة مستوردة.
أكتفى باختيار نصّ الثلاث لعبات (من عشرة عن القلق) وهى التى كانت نقدا بشكل مباشرا، للمبالغة فى اعتبار القلق عرضا أو مرضا فى كل حال كما يشيع معظم الإعلاميون وبعض النفسيين.
اللعبات المنتقاة التى سوف نناقشها غدا هى:
(3) ما هو لازم الواحد يقلق ما دام ما فيش أمان ولا تأمين، دانا حتى……….
(6) أنا لو عشت من غير قلق خالص أحسّ إنى ……….
(10) أنا ممكن استفيد من القلق بتاعى لو إنى ……..
(ومن شاء من الأصدقاء أن يجرب، يستجيب لهذه اللعبات الثلاث فعليه أن يقرأها بصوت عال ثم يكمل بسرعة ما يأيته له دون تفكير لو أمكن وسوف ننشر ما يأيتنا من استجابات ربما غدا أو فى بريد الجمعة. وشكرا)
[1] – كنت دائما أتعجب وأنا أبحث فى قاموس Oxford الأم وهو يهتم بتاريخ ظهور لفظ ما، ورحت أحترم اللغة التى تسمح بدخول ألفاظ جديدة إليها دليلا على مواكبتها للتطور مثلا: “عدد الكلمات التى تدخل اللغة الإنجليزية (450 كلمة) كل عام” (أنظر “اللغة بين الشعر والشارع).
[2] – هو لبيد بن ربيعة العامرى 41 – ؟؟ هـ / ? – 661 م .
[3] – أبو الطيب المتنبى: (303 هـ – 915 م) حتى (354 هـ – 965 م )
[4] – عبداللطيف محمد محرز ولد عام 1932.
[5] – الشاعر عبدالعزيز جويدة ولد عام 1961
[6] – وهو ما سبق أن نشرت منه عينة فى (الوحدة والتعدد فى التركيب البشرى “أنا واحد ولاّ كتير”)