نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 24-7-2016
السنة التاسعة
العدد: 3250
الطبنفسى الإيقاعحيوى (75)
Biorhythmic Psychiatry
عن عصاب القلق!! Anxiety Neurosis
مقدمة عن العصاب فى مقابل الذهان (2 من 3)
عودعلى بدء
يبدو مما سبق أن ثم فرقا واضحا لا يجوز إغفاله بين العصاب والذهان، أو بلغة العامة: بين المرض النفسى والمرض العقلى، وبلغة أكثر رخاوة (وأكثر خطأ) بين المُعَـقـَّد نفسيا (عنده عقدة) والمجنون،لكن الأمر ليس بهذه البساطة أوالمباشرة، فمن ناحية: نرى أن هذه التفرقة شديدة الأهمية مهما أنكرتـْها التقسيمات الحديثة، ومن ناحية أخرى فإن ثم تداخلا شديدا بين المجموعتين، ثم إن العامة يشتركون فى تزكية هذا الخلط لأسباب أخرى:
يفضل العامة تسمية أى اضطراب نفسى أو عقلى مهما بلغت حدته وشذوذه باسم المرض النفسى (أى العصاب) دون المرض العقلى (الجنون)، وهذا مقبول على ما فيه من تجاوز، كما أن الأطباء عموما، وكثير من الأطباء النفسيين، يتجنبون الإشارة إلى الذهان (أو المرض العقلى) حتى على حساب المصداقية العلمية، يفعلون ذلك بحسن نية عادة لطمأنة المريض وأهله، هذا الاتجاه للتخفيف بتعمد الخطأ أو استمرائه وارد بشكل متواتر فى ثقافتنا المحلية، حتى أن لفظ “اكتئاب” كثيرا ما يطلقه عدد من الأطباء على حالات فصام (شيزوفرينيا) صريحة، ربما بهدف مجاملة الأهل أو إشاعة التفاؤل النسبى
إذا كنا نقبل خلط العامة، ومجاملة بعض الأطباء للأهل والمرضى لأسباب ثقافية، أو شعبية، فإن هذا لا ينبغى أن يكون مبررا لكى ننساق وراء التقسيمات الحديثة التى تهرب من التفرقة لأسباب أخرى (أغلبها تابعة لحسابات السوق بشكل خفى أو ظاهر). إن التمادى فى هذا الخلط لا يؤثر فحسب على الممارسة الطبية، وإنما على كثير من مجالات الفكر، والأدب، بل والمجتمع بصفة عامة، ذلك لأنه يتعلق بمسائل جوهرية هى من طبيعة التكوين البشرى، وعلاقة مستويات الوعى بعضها ببعض، وعلاقة الإنسان بالواقع المحيط.
جوهر التفرقة بين الذهان والعصاب
يمكن فهم الفرق بين العصاب والذهان من خلال فهم علاقة مستويات الوعى ببعضها البعض. يطلق فرويد (والتحليل النفسى) على أى مستوى آخر غير المستوى الظاهر اليقظ اسم اللاشعور (كما يطلق أحيانا على الجزء من اللاشعور الأقرب على الجزء الأقرب اسم: “قبل الشعور، أو تحت الشعور).هذا التقسيم ليس كافيا، إن الموقف الأقرب إلى الصحة (عصبيا، وبيولوجيا، وتركيبيا) هو أن نتحدث عن المستوى “الآخر” للوعى، أعنى : ”الوعى الآخر” بدلا من التعبير بالنفى الـ”لا” شعور.(الـ “لا” وعى) unconscious
إن ما يسمى اللاشعور، أو اللاوعى، ليس إلا وعى آخر. (و ثـَمَّ وعىٌ ثالث ورابع وكثير(1).
إن المرض النفسى يحدث إذا اختل التوازن بين مستويات (حالات) الوعى ببعضها البعض. أما التوازن النمائى (= حركية الصحة) فإنه يتحقق بانتظام وباستمرار من خلال التبادل أساسا، ثم من خلال جدل النمو(2) ، وهو ما تحققه نوابية ودوام نبض الإيقاع الحيوى فى ظروف ملائمة
إذا لم يتم هذا التبادل الإيقاعى بشكل منتظم مناسب، (الإيقاع الحيوى اليوماوى : دورات النوم/الحلم/ اليقظة) فإن المرض يفرض نفسه باحتمالات متنوعة متبادلة، وذلك بأن سيرى فى أى من المسارات التالية:
- إما أن يضغط الوعى الآخر الذى تنشـَّط يهدد بنشازٍ ما، فيؤثر بطريق غير مباشر على السلوك، والتكيف، وعلى التماسك الواحدي، يؤثر تأثيرا معتدلا وغير مباشر، أى دون أن يظهر محتوى هذا الوعى الآخر صراحة، فيتم التعامل معه بمزيد من نفس الحيل الدفاعية المناسبة، وهذا هو العصاب
- وهو الذى إذا أزمن وأصبح سمة للشخصية، قد ينقلب تصنيفه إلى ما هو “اضطراب شخصية” (الحالة State تصبح سِمة Trait)
- وإما أن يضغط هذا الوعى الآخر (3)، يضغط حتى يطغى ويحل محل، أو يختلط بـ، الوعى الظاهر العادى. يحدث ذلك أثناء اليقظة بدلا من أن يحدث أثناء النوم والحلم. وهذا هو ما يسمى الذهان.
هذا علما بأن الذهان ، خاصة فى مراحله الأولى، ليس دائما بهذه الفجاجة البدائية من حيث طغيان الوعى الأقدم بشكل صريح ومشوَّش، ومشوِّش، لكنه فى نهاية النهاية هو خليط من تنشيط الوعى (الأقدم) الآخر جنبا إلى جنب مع آثار أنقاض الوعى المهزوم، وأيضا هو نتيجة محاولات المقاومة من جانب مستوى الوعى المهزوم باستعمال كل ما يستطيع من حيل دفاعية (ميكانزمات) قد تبلغ فى شدتها أن ينتج عنها بذاتها شذوذ أغرب من الذهان الناتج من اقتحام الوعى البدائى دائرة الواقع الخارجى عشوائيا، وتتوقف النتيجة على مدى نجاح هذه الميكانزمات (كليا أو جزئيا) – برغم شذوذها- فى الحيلولة دون التمادى فى التمزق فالتفسخ إلى التدهور، وتسمى الذهانات الناتجة بالاسم الملائم لها حسب ترتيب الأعراض الظاهرة التى هى محصلة كل من التفسخ العشوائى (أو التهديد به) والدفاعات المشوِّهة، كما يمكن أن يحدث التنقل بين هذه الفئات الذهانية (وأحيانا مع غير الذهانية) وهذا ما يسمى ” انتقال الزُّملة : Syndrome Shift”، المثال الواضح لذلك : حين تحـُولُ حالات البارانويا الذهانية دون التفسخ الفصامى، وحين تضعف هذه الميكانزمات البارنوية (الدفاعية) أو تفشل ويبزغ التفسخ جنبا إلى جنب معها، تنتقل الزملة إلى الفصام البارنوى (وسوف نعود إلى ذلك كثيرا)
العصابى يستعمل الحيل الدفاعية مثل الشخص العادى من حيث النوع، لكنه يفرط فى استعمال بعض هذه الحيل بشكل يجعلها معوِّقة وليست تكيفية، ففى حين يكون استعمال الحيلة عند الشخص العادى بدرجة متوسطة لتقوم بوظيفة تسكينية وتكيفية جيدة، يكون استعمالها عند العصابى فى نفس الاتجاه لكنها تصبح معوقة، ومزعجة. مثلا إذا نسى الشخص العادى حادثا مؤلما نتيجة استعماله الكبت أو الانشقاق فإن ذلك قد يساعده على التأجيل أو تجزئ جرعة الألم على مراحل، لكن العصابى، فى حالة الهستيريا الانشقاقية، مثلا، يبالغ فى استعمال الكبت والانشقاق ليمتد النسيان طولا (فى الزمن) وعرضا (لأحداث أخرى قريبة عادة من الحدث الأصلى) كما تكون الذكريات المنسية أبعد عن الاسترجاع لإعادة المواجهة والمعايشة.
فى حالة الذهانى يختلف الأمر حسب نوع الذهان وحدته ومرحلته، ففى بعض الأحوال تنهار الحيل تماما فينطلق اللاشعور بلا ضابط ولا رابط فجا صريحا مهددا للمريض وللمجتمع من حوله، مثلما يحدث فى بعض حالات الهوس، أو الفصام المتفسخ حين يعبر المريض ـ مثلا ـ بشكل مباشر عن رغبته الجنسية فى مضاجعة المحارم أو حين تظهر نزوات القتل دون كفّ، أو حين ينكص حتى يعود إلى مرحلة طفلية رضيعية بشكل عيانى مباشر
على الجانب الآخر: إن كل هذا لا يعنى أن الذهانى لا يستعمل الحيل الدفاعية أو يستعملها بدرجة أقل، بل إن ثمة أنواعا من الذهان يستعمل فيها المريض حيلة أوعددا من الحيل بشكل بالغ حده الأقصى، حتى يشوه بها نفسه والواقع تماما، فقد يستعمل المريض الاكتئابى حيلة الإنكار المطلق حتى يعانى من ضلالات عدمية، وقد يستعمل المريض البارنوى حيلة الإسقاط المطلق الذى ينسج به منظومة ضلالية شديدة الخطورة، وقد يستعمل الفصامى البارنوى عددا من الحيل المختلطة والمتداخلة بشكل يُخِل بتركيب شخصيته وبالعلاقة بالواقع بشكل بالغ، ومن ذلك حيل الإسقاط، والنكوص، والتخيل، والإزاحة وغيرها(4)* .
بالنسبة للبصيرة، يقال إن العصابى عنده بصيرة، أى يعرف أنه مريض، ويعرف طبيعة مرضه النفسي، ويطلب النصح ، ويتعاون فى العلاج، وأن الذهانى عكس ذلك، ينكر أنه مريض، ويرفض العلاج ولا يستطيع أن يواصل الامتثال(5) لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فهناك كثير من العصابيين ينكرون أن مرضهم نفسى أصلا، وهم يعزونه إما إلى سبب عضوى أو روحى أو سـُـفـلى (مسُّ الجن)، كما أن هناك عددا من الذهانيين يقرون بمرضهم، وبطبيعته النفسية، بل إن دراية بعض الذهانيين قد تتجاوز المستوى العادى من حيث الإلمام بعمق طبيعة الواقع، وأيضا بطبيعة ما هو داخل أنفسهم. يحدث ذلك خاصة فى المراحل البادئة من الذهان وأثناء العلاج العميق، بل وبعضهم يعترف أنه ذهانى بالمعنى الحقيقى للمفهوم الغائى للذهان- يحدث ذلك خاصة أثناء العلاج االمكثف.
معنى المرض وغائيته:
من أهم أساسيات الطبنفسى الإيقاعحيوى أن نحسن الإنصات إلى معنى المرض ، أى ماذايمكن أن يقول المريض بهذا المرض بالذات فى هذا الوقت بالذات، جنبا إلى جنب مع – وربما أهم من – رصد أعراضه، وهذه الفكرة قديمة تماما، ليس فقط فى الفكر الاسطورى والشعبى والتاريخي، وإنما فى تاريخ الطب النفسى ذاته، وقد كان هذا المعنى قابعا فى فكر أدولف ماير (أبو الطب النفسى الأمريكى) حين كان يعتبر الأمراض “تفاعلا نوعيا” Reaction Type ، وأحيانا تفاهما مع ظروف الحياة ولكن بلغة غير مألوفة، ومرضية، ثم فاشلة، وقد وصلنى أن هذا هو ما وراء تسميته الأمراض بأنها “نوع التفاعل الـ كذا، فهو يسمى الفصام : نوع التفاعل الفصامى Schizophrenic Reaction Type وأيضا يسمى العصاب : نوع التفاعل النفسعصابى . Psychoneurotic Reaction Type الطب النفسى التطورى الإيقاعحيوى يتبع نفس الأسلوب بدرجة أعمق على مستويى النفسمراضية، التركيبية بالذات: تعالوا ننصت لما يقوله كل من العصابى والذهانى بمرضه (المعنى الغائى الكامن فى المرض) :
يقول العصابى بمرضه (بصفة عامة) :
”إن الحياة صعبة، والتكيف مرهق لكننى مستمر، وأنا أدفع الثمن من المعاناة أو الغرابة النسبية”
أما الذهانى فهو يقول (بصفة عامة أيضا) :
“إن الاستمرار” هكذا” مستحيل، إنى أتوقف أو أنسحب أو أرتد علانية إلى نوع قديم من الحياة والعلاقات، للخلف دُرْ، ولـْيتوقف النمو، ولـْيكن ما يكون. أو ليكن البديل عالـَما من الخيال بعيدا عن هذا الواقع الذى أنكرنى، فأنكرته.
موقع اضطرابات الشخصية:
نشير أخيرا إلى موقع ما يسمى اضطراب الشخصية من هذه الحركية بين هذا وذاك، فقد كانت التقسيمات الأقدم تجمع اضطرابات الشخصية مع العصاب (6) وتبرر ذلك بأن اضطرابات الشخصية،فضلا عن أنها تشير إلى توقف أو انحراف مسيرة النمو، فإنها تتميز بنفس النوع العادى فى التعامل مع الذات والواقع ولكن بطريقة مزمنة (أو دائمة)، كأنها بمثابة عصاب مزمن ولكن دون ظهور أعراض بذاتها، وإنما تتصف بسِمات خاصة فى الشخصية تصبغها بما يصنفها فى إحدى أنواع اضطرابات الشخصية حسب ما يغلب عليها من أنماط معينة، فى السلوك، باقية وثابتة، وإن كانت ليست سوية خاصة بالمعنى السائد (أنظر بعد).
وبعد
لأهمية هذا المفترق سوف أعود إليه غدا ، فى محاولة أن أجدول التمييز بين العصاب والذهان دون خوف من الاستقطاب، تأكيدا لموقفى
[1] – راجع الوحدة والتعدد (نشرة28-11-2007) & أنواع العقول (نشرة 2-1-2008) ..إلخ
[2] – لن نتطرق إلى جدل النمو حاليا وقد عرجنا إليه مرارا فى نشرات سابقة ، وسوف نعود إلى تفصيله فى حينه، غالبا مع تقنيات العلاج
[3] – أحيانا يسمى الوعى النكوصى، أو الوعى البدائى، أو الوعى القديم، أو بلغة فرويد: اللاشعور
[4] – وسوف نعود لكل ذلك فى كل من النفسمراضية التكركيبية، والتقسيم، والعلاج
[5] – compliance
[6] – Clinical psychiatry, Willy Mayer-Gross; Martin Roth; Eliot Slater, London : Cassell, 1954.