نشرة “الإنسان والتطور“
الأثنين: 11-7-2016
السنة التاسعة
العدد: 3237
الطبنفسى الإيقاعحيوى (70)
Biorhythmic Psychiatry
المقابلة الإكلينيكية (23)
التاريخ العائلى (18)
ملاحظات بادئة ضرورية
مقدمة:
حين تزايد ثقل يوميات السبت والأحد والأثنين علىّ اضطررت أن أعيد النظر: فكما ذكرت وجدت أننى أشعر بأنى أقدّم مادة تقليدية حتى لو قمت بتحديثها من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى الذى طالبنى بعض أبنائى وبناتى بتسجيله، لكننى اسُتْدِرجْتُ إلى جرعة مفرطة من الطب النفسى التقليدى، وكنت أتصور أنها سوف تجذب الزملاء والأصدقاء، وبرغم التحديث الذى ألحقته بكل فقرة إلا أن الاستجابة لم تتحسن فانسدت نفسى أكثر.
ما علينا قررت التوقف – ولو مؤقتا – عن هذه الطريقة وأن أبدا من منطلق ما تدعو إليه النظرية الإيقاعية التطورية ومن ثم الطبنفسى الإيقاعحيوى.
وسوف ألتزم ألا أغيّر ما كنا فيه، فأظل فى موضوعنا الحالى وهى “المقابلة الإكلينيكية” وأرجو أن أجد فى هذه النقلة النوعية غير التقليدية ما يغرى بالمتابعة.
بدايات أخرى:
يا ترى ماذا يخطر فى وعى الطبيب النفسى حين يلقى مريضه لأول مرة، وقد جاء طبعا ليستشيره، وما هى الأسئلة المحتملة التى تدور فى وعى كلٍّ منهما؟
السؤال البديهى الأول الذى يسأله الطبيب للمريض هو عن شكواه طبعا، ولابد أنه بمجرد أن يبدأ المريض بالشكوى سوف يبدأ مخ الطبيب الحاسب فى جمع مفرداتها إلى بعضها البعض ليصل إلى جمل مفيدة توصله بالتالى إلى تسمية الأعراض ومن ثم وضع تشخيص صحيح أو أقرب إلى الصحة، ليكتب بناء عليه العلاج الأقرب إلى النفع، وربما هذا ما يسمى مؤخرا الممارسة المعتمدة على الأدلة Evidence Based Practice وكل هذا بديهى ومفيد غالبا (وليس دائما) ولكن يا ترى هل هذه هى مهمة الطب الحقيقية فعلا، فماذا عن الطبنفسى الإيقاعحيوى.
أعتقد أن ما أمارسه، ولم أكن أسميه كذلك، لكن لعله كذلك، يبدأ بتساؤلات أخرى لست متأكدا من ترتيب أولوياتها، فهى مثلا:
(1) يا ترى ما الذى دفع هذا الإنسان إلى القدوم إلى مشورتى فى هذا الوقت بالذات؟
وكثيرا ما يبدأ المرضى بالحكى عن الطفولة، أو عن أى خبرات سابقة، وسابقة جدا، وعادة ما أثنيهم عن ذلك فإذا تمادوا فقد أقاطعهم واعدًا بالعودة إلى ما يريدون حَكْيه إن لزم الأمر، وتبدأ أول مواجهة التى تصل أحيانا لدرجة الصدمة.
(2) السؤال الثانى – السخيف – الذى أسأله للمريض الجديد “يا ترى ماذا تنتظر منى؟” والإجابة الجادة المنطقية التى يبادر بها المريض هى “أن أرتاح” وأحيانا يقول: “جئت لتحل لى المشكلة التى أتيت من أجلها”، فتأتى الصدمة الثانية حين أنبهه أننى طبيب أعالج أمراضا ولست محررا صحفيا يحل مشاكل ولا قاضيا يفض نزاعات، وأساسا لست “مِرَيَّحَاِتى”، وحين أطمئن لحسن استماعه، ثم أطمئن إلى سعة صدره أقول له: يا ترى ماذا قرأت على اللافتة فى خارج الشقة أو العمارة، هل مكتوب عليها الطبيب (الدكتور) فلان، أم “المِرَيّحاتى” فلان، وتبدأ المواجهة الثانية حين أضيف: إن كانت وظيفتى هى الطب (الدكترة) فأنا أعالج أمراضا، أما إن كانت اللافتة تشير إلى أنى اساسا “مِرَيّحاتى”: فأعتقد أنك أخطات العنوان، وتستمر المواجهة حين يحتج أن المفروض أن الطبيب النفسى وظيفته أن يريح مرضاه، فأعتذر أننى بعد ستين عاما من الممارسة لا أعرف تفاصيل مهمة الطبيب النفسى، وأكمل أننى أتمنى أن أسهم فى أن يرتاح إن شاء الله، لكن هذه ليست هى مهمتى الأولى لو سمح، وقد يتمادى الحوار إلى قوله: “إمال أنا جىْ ليه؟” ولا أرد بأن “إسْأل نفسك”، تجنبا لتصيعد الحوار إلى ما ينهى المقابل لأننى المسئول عن فشل اللقاء الأول لو حدث.
……………….
سوف أنتقل الآن إلى ما يدور فى ظاهر وباطن الطبيب وهو أشد ارتباطا بموقفه من مهنته ومن الحياة، ومن الناس، ومن الوعى، والحركة، وأيضا من معتقده، ومصادر تعلمه، ومؤسسات تدريبه، وسنين خبرته وغير ذلك كثير كثير دعونا نطرح اليوم بعض الأسئلة التى قد تنير الطريق.
(3) أتساءل عادة قبل الشكوى عن “من هو هذا الشخص الذى وثق فىّ وخاصة إذا كانت الممارسة خاصة ومدفوعة الأجر، فما الذى دفع به أن يغرم الشىء الفلانى حتى يستمع إلىّ، وأستمع إليه، وأول سؤال يخطر لى هو “من هو”؟ وذلك قبل أن أسأل أو أتساءل “ماذا عنده”، وهذا الفرق ليس هينا، وعادة أطلب قبل مقابلتى المرضى الجدد ملء ورقة صغيرة عند الممرض بها “الاسم” و”العمل” و”السن” و”الحالة المدنية” (متزوج اعزب الخ) (ويا حبذا عدد الاولادَ إن وجدوا) وعنوان السكن (وأحيانا عمل الزوجة أو الوالد اختياريا) وبمجرد النظر فى هذه الورقة (10 سم x 10 سم ) أستطيع أن أكوّن فكرة سريعة عن “من هو” حتى قبل أن ألقاه، وكثيرا ما استنتج بعض المعلومات المبدئية التى تساعدنى فى إدارة الحوار بدءًا بـ “من هو”؟ كما ذكرت، فمثلا شخص عنده 38 سنة عدد أفراد أسرته خمسة، ومتزوج وله بنتين وولد، وأمام خانة المهنة أنه: “لا يعمل” يقفز إلى ذهنى حتى قبل أن أقابله: يا ترى هل هو لا يعمل منذ كم من الوقت، وحين يدخل إلىّ يحدث فرق هائل بين أنه “لا يعمل منذ سبع سنوات”، وأحيانا عشرة أو أكثر، وبين أنه ترك عمله الحالى من بضع أسابيع أو شهور!!
(4) ويبدأ تعرفى عليه من هذه المنطلقة رابطا إياها بعدد أفراد الأسرة وأعباء إعالتهم وكل ذلك حتى قبل أن يحكى شكواه تفصيلا، وكثيرا ما أكتشف أننى أحصل على إجابة “من هو” من هذه البداية أوضح وأكثر فائدة مما لو بدأت بالشكوى أو حتى لو نجحت فى الحصول على إجابة عن سبب مجيئه غير رغبته “فى الراحة” أو أن “أحل مشاكله”، وكثيرا ما يبدأ نقاش جادا حول هذه البداية، لا ينقصه إلا أن بتساءل بطيبة، أو تحدٍّ فيه فكاهة، “وانت مالك انت؟” فإذا كان الثلج قد ذاب، تواصلنا أكثر واستمر الحوار.
(5) فى نفس الوقت وبعد وقت قصير تقفز إلىَّ تساؤلات عملية ولحوح عن ما إذا كان قد استشار زميلا قبلى، وأثنى على كل الزملاء عادة، وأحذره من هذا التنقل بيننا، وأكرر باستمرار مدى احترامى لضرورة التداوى ولكن ليس بهدف الراحة السحرية التى يشيعها الإعلام وشركات الدواء، وإنما لأنها وسيلة مفيدة فى تنمية الثقة والحفاظ على العلاقة حتى يمكن أن نعمْل معا شيئا مفيدا لكلينا من خلال ما تسهله لنا الأدوية أحيانا.
(6) وكثيرا ما أكتشف من البداية أن المريض قد جاء دون تحديد هدف حضوره تماما، ولكنه جاء ليحكى ما عنده، وكنت قديما شديد الحماس لهذه الفرصة التى ينبغى أن تتاح لمن يثق فيما نمارسه كأطباء نفسيين وأستشهد لنفسى ببت الشعر القائل: “ولابُدَّ من شَكْوَى إِلى ذي مُروءَة, يُوَاسِيكَ أَوْ يُسْلِيكَ أو يَتَوَجَّع”، لكننى عدلت بينى وبين نفسى عن الفرحة بهذا البيت أو التمسك بفحواه بعد أن شاعت حكاية “التنفيث” و”التفريغ” بجرعة مفرطة بلا طائل، مع أن الحاجة إلى مستمع أمين ما زالت بالغة الأهمية وخاصة بعد أن زادت العزلة، واتسعت المسافات بيننا نتيجة لتدخل هذه الضرّة التكنولوجية للحيلولة بين الناس وبعضهم: حيث حل التواصل التكنولوجى والمعلوماتى محل الدفء الإنسانى والحوار الحى، أقول بالرغم من ذلك فإننى أبادر بتوضيح موقفى ألا يكون حضور المريض، وهدفه، هو أن يحكى ويحكى بغض النظر عن مآل هذا الحكى أو توظيفه أو فائدته، وتزيد المقابلة الأولى حرجا وإحراجا، وتضيف إلى المصادمات المتتالية التى لا أزعم أننى أقصدها، لكننى أيضا لا أتجنبها، وأطمئن أكثر حين يقوم ذوبان الثلج فيما بيننا بما يسمح ببعض الفكاهة دون سخرية.
(7) وهناك احتمال ليس نادرا أن أكتشف أن من جاء يستشيرنى لا يحتاجنى أصلا كطبيب وأن طبيعته وثقافته النفسية التى يستمدها غالبا من الإعلام السطحى هى التى دفعته إلى طرق بابى، وأنه قد سمع عنى (أو عن أى من زملائى) ما رسم صورة أخرى لحقيقة دورنا الأهم وربما الأصعب، وهو المعية لمواصلة الحياة، وفى هذه الحالة بعد أن أتأكد منه ومن مرافقيه أن وجدوا إلى عدم حجز معلومات مهمة عنى أقول حين أتبين أنه أخطأ القرار أبادر بتوضيح ذلك وأنصحه ألا يواصل هذا الطريق النفسى، وأن دور الطبيب النفسى مازال موجودا فى مجتمعا بلا طب ولا نفسى، وأنه قادر أن يواصل حياته بلا حاجة إلىّ وطبعا أفعل ذلك بعد أن أكون قد ألممت بما يلزم من تاريخه، وكفاءته، ودرجة تكيفه السابقة وبعض قدراته ومدى التزامه ودائرة حركته.
(8) ويتعجب المريض عادة حين أنصحه ألا يعود لى ثانية “إلا إذا”، فيلتفت ويقول: “إلا إذا ماذا؟” فاستجيب واقول له ثلاث محكات أعتبرها فى مجتمعنا معالم على الطريق، وأقول له: (1) إلا إذا قلت ساعات نومه عن كذا ساعة (حسب سنه)، أو (2) إذا توقف عن العمل دون موافقتى أو موافقة من يثق فيهم من مستشاريه دون أن يلتحق بعمل آخر فى اليوم التالى (وطبعا أقول ذلك وأنا أعرف أن الأعمال ليست جاهزة على قفا من يشيل) أو (3) إذا اضطربت علاقته مع الأقرييبن لدرجة مهددة بالتعاسة أو التفكك، وأكتفى بهذه المحكات الثلاثة.
(9) وأحيانا أكتشف أن المشكلة التى أحضرته إلىّ ليست تابعة لاختصاصى أصلا، ولكنها قد تكون مشكلة قانونية أو اجتماعية (وأحيانا سياسية) فأنصحه باللجوء إلى مصادر ومؤسسات أخرى أكثر اختصاصا بهذه المسائل له، وذلك بعد أن أبدى له رأيا متواضعا من خلال خبرتى المحدودة بالمسائل العادية (برغم أننى أنصح طلبتى أن يكتسبوا بعض الخبرة اللازمة فى كل المجالات الحيوية مثل القوانين المنظمة للحياة والتعامل والعلاقات وليس بالضرورة الخاصة بالطب النفسى الشرعى وحده) وأساسيات موقف القانون من كل هذا، وكل ذلك يدخل فى عمل الطبيب النفسى لكنه ليست مهمته الأساسية.
(10) وأحيانا أكتشف أن المريض أتى عن طريق الخطأ سواء جاء هذا الخطأ من معلومات مغلوطة عن أعراض معينة، أو من صديق له تبرع بنصيحه متعجلة، ولا أعنى بالخطأ أنه بالغ فى تقدير الدور الذى على الطبيب النفسى أن يقوم به، ولكننى أكتشف من خلال ذلك ومن خلال الكشف أيضا أن ما يشكو منه هو مرض عضوى محدد المعالم ليس فى اختصاصى، وبديهى أن أى مرض عضوى يمكن أن تصاحبه معاناة نفسية، لكن يكون الأصل هو فى تحديد المتخصص الأول للتخلص من المرض العضوى الذى قد يكون له علاج ناجح عند المتخصص فيه، فيزول أثره النفسى بداهة، وأحوّله بنفسى إلى من أثق فيه من الزملاء، أو أنصحه أن يبحث عن من يرى أنه محل ثقة.
وبعد
أتوقف عند هذا الاحتمال الأخير الذى لم أطرحه ابتداء: وهو أن على الطبيب النفسى أن يسأل نفسه أول ما يسأل بعد هذه المقدمة الطويلة (التى أرجو ألا تكون مملة) هل من جاء يستثيره هو مريض أصلا، فإذا اقتنع أنه مريض فهل مرضه هذا مرض نفسى أساسا، أو أنه مصاحبات نفسية لمرض آخر.
وبعد
هذه هى البداية التى يبينها الشكل الأول الذى أنهى به هذه السلسلة من عرض الخبرة العملية من وجهة نظر الطبنفسى الإيقاعحيوى.
الشكل (1)
وهذا ما سوف نناقشه تفصيلا بدءًا من الأسبوع القادم