نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 12-6-2016
السنة التاسعة
العدد: 3207
الطبنفسى الإيقاعحيوى (57)
Biorhythmic Psychiatry
النظرية التطورية الإيقاعحيوية
الجذور (4)
الأطوار الثلاثة الأساسية لدورات المخ (3)
الطور الكرّفرّى التوجسى
(تكاملا مع الطور الانسحابى الانعزالى)
مقدمة
كما ذكرنا من قبل كان من الضرورى أن ندمج الطور الكرفرَّي التوجسى مع الطور الانسحابى الانعزالى، وقد قدمنا ما تيسر مما سبق كتابته شعرا لتوضبح الطور الانعزالى، ولعلنا لاحظنا أن كل انسحاب تقريبا كان بمثابة الفرار من الآخر ، قبل إلغائه، وبالتالى يصبح الحديث عن الطور الكرفرى التوجسى هو فى نفس الوقت حديث عن الطور الانعزالى الانسحابى، بمعنى أن الأخير إنما هو “ذراع الفر” فى آلية “برنامج” “الكرّ فرّ”.
خلاصة القول فى هذا التقديم هو أننا إذا كنا قد ركزنا أمس على ذراع الفرار والهرب عودة إلى أمان زائف داخل الرحم، فإن نشرة اليوم سوف يكون التركز فيها على ذراع التوجس/الكرّ/الهجوم الدفاعى.
حتى نعرف أصل هذا الهجوم ، لا بد أن نبدأ من أساليب التوجس، والخوف من الاقتراب، ومن التلويح بالحب دون ضمان حب داعم، ومن هنا بدت إضافة صفة “التوجسى” ضرورية.
وإذا كانت مدرسة الموضوع تتهم الأم أنها هى المسئولة عن شحن هذا الطور بما يجعله جاهزا للتنشيط المرضى فى مواجهة ضغوط فائقة، فإن النظر فى استجابة الطفل النامى هى التى يمكن أن تبين طبيعة ومسار آثار هذا الشحن، أما إذا أرجعنا طبيعة هذا الدور إلى اصله التطورى، فإن علينا أن نحترم دور الكيان النامى (سواء على مسار التطور أو كمرحلة فى نمو الطفل) فى الدفاع المشروع – فى حدود متطلبات المرحلة – وهكذا علينا أن نتقمص دفاعات هذا الطور مهما بلغت مزعجة وخطيرة باعتبارها دفاعات أصيلة وعميقة ناشئة من قديم عبر تاريخ التطور كله، كذلك لا ننسى أنه طور وليس موقعا، وأنه دائم الاستعادة وليس قاصرا على فترة نمو (أو تطور) معينة.
تقديم هذا الطور تقمصًّا على لسان الطفل النامى، هو تكبير مبالغ فيه لآليات الكر الفر والتوجس، تكبير وقد يصل إلى مئات المرات (1)، ويفيد هذا التكبير أيضا، ونحن نقدمه على لسان الطفل فى أننا حين نلقى حالات البارانويا المرضية، يمكن أن نفهم جذور نَفْسمراضيتها (سيكوباثولوجيتها)، بالرجوع إلى هذا التكبير الذى يكشف عن أن كل آليات ومواصفات هذا الطور هى دفاعية فى الأساس من منظور الطبنفسى الإيقاعحيوى.
بعد كل هذه المقدمات نعود ونؤكد من جديد على أن الطورين الأول والثانى فى دورات النمو: (وطول العمر) هما طور واحد، وإنما يسمى الطور باسم الذراع الغالب فى آلية الكر والفر، فإن كان الذراع الغالب هو “ذراع الفر” حتى إلغاء الآخر فهو الطور الانسحابى الانعزالى، أما إذا كان الذراع الغالب هو ذراع الكرّ، أى الهجوم والتوقى والتوجس والشك، فهو الطور الكرّفرّى التوجسى.
وبعد
حين هممت أن أقتطف من شعرى ما يدعم أصل النفسمراضية الفنى والموسيقى والشعرى، بدأت بقصيدة ” جلد بالمقلوب” من ديوان سر اللعبة، وإذا بى أعجز أن أقتطف ما يناسب شرح المتن، لأن كل مقتطف منها بدى لى مهما ودالا تماما حتى كدت أنشرها جميعها، فرجعت إلى الشرح الاصلى فى كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، فإذا بالشرح يستغرق عشرات وعشرات من الصفحات، فاكتفيت بما تيسر من مقتطفات دعمتها بما تيسر من تشكيل وتصوير(2)
التجربة كانت قاسية علىّ لما فيها من مغامرة التعرض لما لا أتقن، وقد حاولت أن أثنى نفسى عن خوضها، لكننى عدلت فى آخر لحظة وقررت أن أنشر بداية هذه المحاولة كعينة لعلها تشجع على الاستمرار أو تثنينى عنه :
(1) من ديوان “سر اللعبة”: قصيدة جلد بالمقلوب |
-1-
لا تقتربوا أكثر ..
إذْ أنِّى:
ألبسُ جلدى بالمقلوب،
حتى يُدمى من لمسِ ‘الآخرْ’
فيخاف ويرتدْ
إذْ يصبغ كفّيِه نزفٌ حىّ
وأعيش أنا ألمى،
أدفع ثمن الوحدة
-3-
تتلقفنى الأيدى الصماء
أصعد درجَ الرفعةْ
أنسج حولى شرنقة الصّدْ
هربا منكم،
فى رأسى ألفىْ عينٍ ترقبُكُمْ،
تبعدكم فى إصرار.
أمضى وحدى أتلفت
-4-
يا من تغرينى بحنان صادق .. ،
…………… فلتحذرْ
إذ فى الداخلْ
وحشٌ سلبىُّ متحفزْ
فى صورة طفل جوعان
……… ولنتذكر ما جاء فى بداية القصيدة مما يساير هذا السياق:من فرط الجوع التهم الطفلُ الطفلْ
فإذا أطلقتُ سُعارى بعد فواتِ الوقتْ،
ملكِنىَ الخوف عليكم.
اذ قد ألتهم الواحدَ منكم تلو الآخر، دون شبع
إضافة:
على أن ثم مقطع فى قصيدة أخرى بعنوان: “هربا من هربى” فى نفس الديوان وكانت فى سياق عرض “الشخصية السيكوباتية” (وليس الطور التوجسى أو الاضطراب البارنوى) وجدت أن بها دليلا آخر على أن هذا الطور موجود كامن أو ظاهر فى كل الأشخاص وأن تجلياته المرضية غير قاصرة على اضطراب بذاته.
يقول هذا المقطع من قصيدة “هربا من هربى”:
واسّتيقظ فىّ ابن العمِّ النمرْ ،
ولبستُ عيون الثعلبْ
ونمت فى جلدى بعضُ خلايا بصرية
مثل الحرباءِ أو الحّية
وبدأتُ أُعاملُ عالَمَكم
بالوحش الكامن فى نفسى
أرسلتُ زوائدَ شعرية
مثل الصرصور أو الخنفسْ
أتحسس ملمس سادتنا
ووجدتُ سطوحَكمو لزجة..
تلتصقُ بمن يدنو منها ،
أو ملساءْ،
تنزلق عليها الأشياء
أو يعلوها الشوّكْ.
فجعلت أدافع عنى
هرباً من هربي
هربا من “همى” و”شكوكى”
…………………
وإلى الغد، مزيد من توضيح هذا الطور من ديوان “أغوار النفس”
[1] – مع التذكرة بالتكبير الذى علمه أفلاطون للنفس البشرية حتى صاغها فى جمهوريته
[2] – وعلى من يريد أن يرجع التفصيل أن يتبع هذا الرابط من ص 70 إلى ص 77