نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 21-5-2016
السنة التاسعة
العدد: 3186
الطبنفسى الإيقاعحيوى (47)
Biorhythmic Psychiatry
المقابلة الإكلينيكية (13)
التاريخ العائلى (8)
افتراضات أساسية، وأبجدية خاصة
استهلال:
مازلنا فى مبحث الوراثة والسؤال عنها، وعن طبيعتها، كما حاولنا بيان أنها ليست حتمية فى الأمراض النفسية ، وأن السؤال عنها يعيننا فى فهم ما طرأ على الفطرة البشرية من تشويه أو انحراف أو عرقلة بسبب المرض، وقد حاولنا من خلال النظر فى الوراثة ومدّ أصولها إلى العرقية والثقافة الأساسية، أن نتعرف على الطبيعة البشرية انطلاقا من الطفل السليم، لتكتمل معارفنا عن ما يجرى عليها من خلال فرص التعرية الذهانية التى يقرأها الطبيب أثناء الفحص والعلاج، ، أملا فى إعادة تشكيلها لاستئناف المسيرة كما خلقها الله .
مع تمادى الاستطراد واطمئاننا إلى ندرة المتابعين وكسل الباقين، وإصرارا على رصد ما وصلنى بكل الوسائل فى الوقت المتبقى لى، سمحت لنفسى بما أسميته “طيران المواضيع”، أو “طيران الكتب”، وذلك بالتداعى المطول كلما لاح ذلك، ربما قياسا على “طيران الأفكار”، وأرجو أن يعاد تنظيم كل ذلك فى النسخة الورقية (إن ظهرت).
مقدمة:
فى أخر نشرة يوم الأثنين الماضى بعنوان “موقع الوراثة فى الطبنفسى الإيقاعحيوى (التطورى)” عرجت إلى “دورات النمو المعادة” طول الوقت كحركة أساسية لاستمرار التفكيك فالتشكيل على مسار النمو (التطور) العادى، وأيضا على طريق العلاج ما أمكن ذلك، وقد عرجت أيضا إلى بداياتى من ميلانى كلاين فجانترب وبالذات فيما يخص تسلسل مراحل النمو من الشيزيدى إلى البارنوى إلى الاكتئابى، وسجلت رأيى واختلافى مع مدرسة العلاقة بالموضوع وأن الموقف الاكتئابى ليس ناتجا بالضرورة عن الشعور بالذنب كنتيجة لقتل الطفل لأمه فى خياله، وهى مصدر الحب والحياة معا، ولكنها مصدر التهديد بالترك أيضا، ومن ثم القتل الخيالى فالذنب، وقد اضفت أن رأيى أن هذا الموقف هو خاص بالإنسان دون مَن قبله من الأحياء، حين قلت:
” هذه المرحلة هى التى تقابل – فى رأيى – ما وصل إليه الإنسان بوجه خاص بعد أن أصبح يتمتع بما يسمى “الوعى، فالوعى بالوعى“، وإن كنت لا أستبعد مع متابعة الدراسات الأحدث لعواطف بعض الحيوانات أن يعايش نفس الموقف بنفس التفاصيل: من هو دون الإنسان بما يحمل من درجة مناسبة له من تفعيل برامج التطور ووعى خاص به وبمرحلته…الخ”
ثم إنى حين رجعت إلى ملف الوجدان انتبهت كيف أننى قدمتُ تجربتين فى نشرتين متتاليتين بتاريخ 7/9/2014 و 8/9/2014، طلبت فيهما من الأصدقاء المتابعين أن يشاركوا فى الاستجابة لما عرضته في كل تجربة، ,أن يسموا كل عاطفة بأحد الأسماء المعروضة، أو يختاروا لها اسما مناسبا، وكان الهدف هو توصيل عظمة ودقة المبدعين التشكيليين، وأذكر أنه لم يشارك فى الاستجابة إلا أقل القليل، لكن ما يهمنى فى كل هذا الآن هو أن أكرر الدفاع عن منهج الاستعانة بإبداع التشكيليين العظام بدءًا من التصوير الفوتوغرافى إلى التشكيل الإبداعي كمصدر موضوعى لدراسة حركية الوعى والوجدان بما لا تستطيع أن تحيط به الكلمات (نشرة 1/9/2014) وهو ما سيأتى فى النشرات القادمة:
الجديد فى انبهارى بإسهام التشكيليين فى هذه الإضافات العلمية هو تلك الثروة الأحدث التى أضافتها تقنية الحركة فى البرامج الحركية المعبّرة أكثر عن الطبيعة كما تجرى وكما أود تقديمها (برامج الإحياء (1) animation) المعروضة ببرنامد الباور بوينت.
افتراضات أساسية، وأبجدية خاصة
لاحظت وأنا أراجع بعضا من النشرات الأخيرة أن الأمر يحتاج إلى وقفة قصيرة تبين الافتراضات الأساسية لمنطلقات الطبنفسى الإيقاعحيوى، وأيضا لتوضيح بعض المصطلحات الجديدة، أو القديمة التى تستعمل بمضمون جديد، فقررت أن أخصص نشرة اليوم لبعض ذلك:
أولاً: الحركة:
لا يمكن الإحاطة بما يضيفه الطب النفسى الإيقاعحيوى إلا من خلال استيعاب أهمية ومحورية وجوهرية “بُعد الحركة” لدرجة أننى أحيانا أتصور – ولو من باب الإحياء – أن من يريد أن يعرف ماهية الفطرة ونبضها الدائم ، فربما يجد نفسه يتلقى ما يصله من معلومات وهو يتحرك مواكبا هذا الإيقاع الضروري والدائم، وذلك حتى يتمكن من أن يعايش ما يصله بما يستحقه من مواكبة (حتى أننى جمعت الصورة التشكيلية شكل (1) ربما تترجم عن بعض ما أعنى، ولعل المعتاد على البرامج الحاسوبية الحديثة السالفة الذكر، يتصور كيف تقدم هذا الشكل متحركا:
شكل (1)
وهذا البعد له علاقة مباشرة بكل من بعد المواكبة فى علاج “المواجهة المواكبة المسئولية: م.م.م.”، وأنتهزها فرصة لأعلن أن كثيرا مما حصلته فى خبرتى العملية كان من خلال “مواكبة” مرضاى فى العدو أو العزيق أو اللعب، وقد كنا نطلق على هذا النشاط صفة : “كتفاً لكـَتِـف” وهو الذى يعنى أن المعالج لا يلقى أوامره على المرضى من الوضع قائدا أوواقفا، وإنما يتحرك معهم و”بجوارهم” معظم الوقت.
ثانياً: الوحدة الزمنية:
من يريد أن يستوعب معنى الحركة النابضة الدائمة، وضرووة مواكبتها (لا أقصد بالاستيعاب الوعى بها وإنما مجرد السماح الضمنى بافتراضها) عليه أن يبدأ من نظرية الاستعادة حتى يصل إلى “دورة الخلية”(2) فمعنى ذلك أننا نتحرك من بلايين السنين إلى أجزاء الثوانى، وليس معنى عجز خيالنا العلمى أو غير العلمى عن مجرد تصور هذا البعد أنه غير حقيقى أو أنه ثانوى الدلالة.
إن الذى يمارس العلاج الجمعى بتلقائية ومثابرة سوف يلقى أدلة (غير مباشرة عادة) على ما يحدث إيجايبا من خلال أجزاء الثوانى، بما يترتب عليه من تغيرات نوعية أقرب إلى الذرات لكنها قادرة على التجمع والجدل إذا ما تفاعلت مستويات الوعى فى اتجاهها بقوانين ما خلقت به وما خلقت له.
فى جلسة علاج جمعى عقدت مؤخرا (الأسبوع الماضى) تكلمنا مع المرضى والمتدربين– بالصدفة- عن “فتافيت التغير”، وقد لاحظت أن المرضى قد نجحوا فى رصدها فى بعضهم البعض أكثر بتلقائية أكثر من المعالجين، وأنهم لم يتساءلوا عن ما أعنيه بلفظ: “فتافيت” وهو تعبير غير مألوف لوصف التغير الذرّى الذى يجرى فى وحدات متناهية الصغر من الزمن.
إن مجرد احترام أهمية هذه الوحدات المتناهية الصغر
من الزمن يحمِّلنا مسئولية كبرى بشكل يتناسب مع ما يقدمة العلاج دون العروج إلى أى تنظيم شارح أو تفسير تبريرى يشير إلى أهمية الزمن وتناهى قصره ، مع ذلك امتلائه بما يكفى، ، فإذا أكملنا ونحن نتذكر أن نظرية الاستعادة ، بعد أن أوسعنا دائرتها بكل هذه الجسارة، تجعل بعد الزمن ممتدا من أجزاء الثواني التى قدمناها حالا، إلى ملايين السنين أو بلاينها: (عمر الحياة)، إذا تجاسرنا وحاولنا أن نصدق ذلك فلا بد من الاعتراف بأننا نطلب المستحيل، ومع ذلك فأنا لا أواصل احترامى للطبنفسى الإيقاعحيوى إلا من احترام إشكالية قبول هذا المستحيل على مستوى لا نعرفه من الوعى.
ثالثاً: الطاقة:
بدون الوعى بهذه القيمة الجوهرية عامة، مع التذكرة بما كررناه كثيرا من قبل: وكيف أن المخ البشرى هو “مفاعل للطاقة والمعلومات”، لا يمكن قبول حقيقة مبادئ وأساسيات الطبنفسى الإيقاعحيوى، وقد أولينا هذا الأمر اهتماما كافيا ونحن نتاول وراثة الصرْع، وضرورة أن يتوجه علاجه ، بل والعلاج عامة إلى احترام هذه الطاقة الحيوية، والعمل على توفير قنوات توصيلها إلى توجُّهَاتها الموضوعية والإبداعية واحتمالاات مضاعفات وكوارث كتمها، ومخاطر انحرافها بما لا مجال لتكراره، والاكتفاء بإعادة نشر هذا الشكل (2) الشارح لأهمية مركزية وجوهرية ومسارات الطاقة المختلفة.
(شكل (2)
رابعاً: القياس”
الطبنفسى الإيقاعحيوى: يبالغ فى استعمال ما هو قياس بشكل يسهل الحكم عليه باللاموضوعية، فنحن نقيس نبض المخ بنضات القلب بشكل اختزالى فج، ونقيس دورات الجنون الدورى (والظواهر النسية الدورية جميعها)، ونقيس حركية التفاعل الجدلى للوعى الببينشخصى ثم للوعى الجمعى بدورات إيقاع “النوم/ والحلم /واليقظة”، وكل هذه القياسات مفيدة للفهم، بل وفى التطبيق العلاجى من منطلق نقد النص البشرى، بل وفى الوقاية على كل مستوياتها من أول الوقاية الأولية والحرص على التنشئة النابضة المتناوبة المتواكبة مع نبض الكون ونبض الطبيعة، وحتى الوقاية الثالثوية لمنع النكسة.، لكن لغة القياس بهذا التعميم لغة تفتقد إلى الموضوعية بكل معنى الكملة، وهذا النقص يؤدى إلى استحالة التيقن من صحة فروض القياس، خاصة فى الدورات الممتدة من بلايين السنين إلى عشراتها، إلى أجزاء الثوانى، وهذا النقص مع فرط الخيال هو الذى دحض نظرية الاستعادة بشكل لا هوادة فيه.
وقد تماديت فى استعمال القياس وابتدعت مصطلح “السيكوباثوجينى” لأصف به نبضات دورية المرض النفسى وخاصة الذهانات الدورية المعاودة (أنظر نشرة : 7-5-2016 “التاريخ العائلى وموقع الصرْع منه!!”)
وبعد
أتوقف هنا وأتمنى أن نبدأ غدًا فى التعرف على دورات التطور فالنمو التى نتمنى أن ننجح فى شرح حتمية الاستعادة وفائدتها فى استمرار الإبداع فالنمو فالتطور.
[1] – فضلت استعمال لفظ إحياء ترجمة للفظ animation عن استعمال تعبير الرسوم المتحركة، لأن ما يصلنى من هذه البرامج هو “إحياء” للصورة والفكرة فعلا، بما يفيد قضيتى الأساسية وهو ان مدخل الإيقاع الحيوى هو مدخل إحيائى فى المقام الأول حتى أننى كررت، إن سمح العمر، أن أقدم ما يجب تقديمه فى حركة فى أقراص مع النسخة الورقة، حتى يمكن أن أبين أهمية الحركات المتداخلة والنابضة والدواثرية (وهى مواصفات الإيقاعحيوى الأساسية) و حتى يحين ذلك أرجو إعمال الخيال لتحريك الشكل مع الشكر.
[2] – Cell Cycle and Cancer Biology Research Program