نشرة “الإنسان والتطور”
نشرة الأثنين: 9-5-2016
السنة التاسعة
العدد: 3174
الطبنفسى الإيقاعحيوى (43)
Biorhythmic Psychiatry
المقابلة الإكلينيكية (9)
التاريخ العائلى (4)
الصرْع والوعى والمخ والطاقة والمعلومات
(ملاحظات خبراتية/ إكلينيكية)
نحن نتكلم كثيرا عن “المعلومات” سواء وهى مُخـْتـَزَلـَة إلى رموز وعلامات، أو وهى راسخة كـ: “وحدات بيولوجية نشطة” فى تآلف وجدل مستمر، لكننا لا نشير إلى الطاقة بنفس القدر ولا حتى بعشر معشار نفس القدر، وحين وصلتنى نقلة التعامل مع المخ كـ: “مفاعل للطاقة والمعلومات” اهتممت أكثر بالنظر فى طبيعة الطاقة أكثر من متابعة معالجة وبرمجة المعلومات، علما بأنه لا جدوى من طاقة لا تـُوَظـَّفُ لتشكيل المعلومات بمعناها الأشمل، ليس فقط لتفيد ما تعنى، وإنما لتفعيل ما يمكن.
تركيزى فى هذا المدخل على العناية بتناول واستيعاب دور الطاقة بنفس قدر تناول المعلومات (وليس بالضرورة أكثر)
عمل المخ أعقد من كل تصور، وعلاقة عمله بأجزاء الثوانى علاقة مذهلة تحتاج بعد الدهشة (والفرحة)، إلى قدر كبير جدا من الاحترام والتتلمذ، خذ هذه المعلومة مثلا:
“إن محاكاة نشاط المخ خلال ثانية واحدة يتضمن 28.944 مفاعلا (معالجا)”(1)
حين توقفتُ أنا أمام هذه المعلومة غمرنى قدر من الاحترام لا حدود له حتى كدت أنحنى لهذا العظيم المسمى “المخ” وأسجد لخالقه عبر ملايين السنين من التطور.
من هذا المنطلق قرأت خلاصة مناقشة الباحثة “كاترين ميلا” الذى أشرت إليه أمس، حيث أن ما وصلنى منها – ارتباطا بخبرتى وتنظيرى فى العلاج الجمعى – أن التفاعل الخلاق فى العلاج الجمعى – حتى مع الصرعيين- يتعامل من خلال الوعى البينشخصى والوعى الجمعى: بكل هذه الدقة فيـُـسْـهم فى إعادة تشكيل المخ: فيحتوى النشاز الذى كانت تنطلق منه نوبات الصرْع.
فإذا أضفنا إلى ذلك ما ثبت من أن المخ البشرى “يعيد بناء نفسه باستمرار” – ليلا ونهارا– وربطنا بين هذه الحقائق وبعضها، لابد أن نحدد دورنا كمعالجين – وبشر – فى التعامل مع هذا الكيان المعجزة الرائع، – المخ البشرى – لنكون مجرد مُواكبين داعمين لحركيته الطبيعية الخلاقة، واضعين كل إمكانياتنا ومستويات وعى أمخاخنا تحت تصرفه دفعا لمسيرة وحركية الإبداعى أبدا (شاملا علاقته بالأحلام وأيضا علاقته بالجسد: كوعىٍ متعين)(2)
كل ذلك ومثله وصلنى دون تفصيل وبأقل قدر من التنظير من خلال ممارساتى الإكلينيكية عامة، وفى العلاج الجمعى بوجه خاص، كما أنه بدا لى مؤخرا أنه كامن وفاعل فى كل نشاطاتى الشخصية وخاصة النقدية.
وبعد
انطلاقا من ذلك سوف أعرض اليوم بعض المشاهدات الإكلينيكية لدعم فرض حركية الطاقة المخية أساسا، والحيوية عامة، ومساراتها، وتحديدا: فى العلاقة بين انطلاقها فى نوبة صرْعية، أو إبداعيا، قبل احتمال ارتدادها أو انحباسها .
المشاهدات الإكلينيكية:
سوف أقدم اليوم بعض الملاحظات المحدودة التى ربما تدعم فروض الطاقة والإيقاع الحيوى وعلاقتها بالصرْع، وذلك من خلال ما لاحظته فى خبرتنا الإكلينيكية فى ثقافتنا، علما بأننى لم أمارس العلاج الجمعى تحديدا مع صرْعيين بالذات، ربما يرجع ذلك إلى أننى أمارس العلاج الجمعى منذ خمس وأربعين عاما، مع مجموعات غير متجانسة بالضرورة، وقد بينت أسباب ذلك فى مكان آخر (مثلا نشرة12-5-2013) .
وفيما يلى عرض لبعض مشاهداتى فى الممارسة العادية بالعيادة الخارجية وفى علاج الوسط بما يدعم هذه الفروض، حيث لاحظت ما يلى:
أولاً: أن نوبات الصرْع تقل إذا ما تواجد المريض فى جو أسرى دافئ محيط (غير مفرط فى “الشفقة” أو فى “التفويت”، وأيضا لا يمارس “الرفض” أو “الوصم”).
ثانياً: أن النوبات تزداد (برغم ثبات جرعة مضادات الصرْع) بعد صدمات الإحباط، خاصة صدمة الترك أو الرفض فى العلاقات العاطفية.
ثالثاً: أن نوبات الصرْع تقل إذا ما ظهر معها – وليس نتيجة لها – ذهان وجدانى نشط بالذات، ولعل هذا التناسب العكسى إنما يشير إلى التبادل المحتمل بين الذهانات الوجدانية الدورية ونوبات الصرْع
رابعاً : الإفراط فى استعمال مضادات الصرْع حتى تختفى النوبات أو تصبح نادرة، قد يتواكب فعلا مع ما سمّى ذهان التطبيع القهرى Forced Noralization Psychosis (نشرة 7-5-2016)
خامساً: أن نوبات الصرْع تقل بشكل واضح حين يدخل المريض مستشفى المجتمع العلاجى الذى أمارس فيه نشاطى بمفهوم علاج الوسط Mileu Therapy، وأضيف هنا تذكرة بأن هؤلاء المرضى يدخلون المستشفى عادة لسبب آخر غير نوبات الصرْع.
سادساً: مع زيادة النشاط الجماعى والبدنى فى علاج الوسط هذا، أقوم أحيانا – وبحسابات تـَنـَاسُبٍ إكلينيكى– بإنقاص تدريجى لجرعات مضادات الصرْع تناسبا مع زيادة التنشيط والحركية الجماعية، لا تزيد نوبات الصرْع عادة نتيجة هذا الإنقاص.
سابعا: أنه يوجد تناسب عكسى أكثر كلما امتد النشاط الجماعى إلى رحلات طويلة، وخاصة إلى شاطئ البحر وفيه، أو إلى أى نشاط متسع فيه خضرة كثيفة وأشجار باسقة وبرنامج أكثر نشاطات وتنشيطا.
ثامنا: فى بعض الحالات القليلة كانت هناك فرصة للربط بين النشاط الإبداعى وعدد نوبات الصرْع التى كانت تقل كلما زاد هذا النشاط.
وصف حالة نموذجية:
كان مبدعا نادرا متواضعا يكتب قصصا قصيرة، وفى نفس الوقت يتكسب قوت يومه من عمل محدود بالصحافة، وكان يكتب على مستوى متميز من الإبداع، ونظراً لعلاقتى بالنقد الأدبى وبعض محاولات الكتابة طلبت أن اطـّلع على قصصه، وقد وجدتها لا تقل عن قصص يوسف إدريس أو القصص القصيرة التى يكتبها نجيب محفوظ، وكان يعانى من نوبات الصرْع الصغرى Petit-Mal وقد كان لا يتعاطى لها علاجا، واستمرت علاقتى به مدة سمحت لى بالملاحظات التالية:
1- كان قد استطاع أن يتكيـّف مع النوبات طول الوقت، ربما نظرا لقصر مدتها
2- كان يتشجع وينبه محدثه إذا كان أليفا قريبا أنه قد يسرح أثناء الحوار لمدة ثانية أو أكثر لكنه يستطيع أن يـُكمل، وسوف يلحقه!!! وكان المقربون يتقبلون ذلك باحترام وترحيب.
3 – فضّل أن يتمادى فى هذا التكيف وألا يتعاطى علاجا مضادا لهذه النوبات، شاكيا من أن الأقراص (!!!) تقلل من حدة يقظته وحركية إبداعه.
4- كانت النوبات تقل تلقائيا بشكل ملحوظ كلما استغرق فى كتابة قصة أو مجموعة يرى أنها أكثر عمقا وأنشط تشكيلا.
5- كان يرسل إبداعه لينشر فى دار نشر فى بيروت، وينتظر خطاب قبول النشر بلهفة، وقد لاحظ أن لهفته هذه مهما اشتدت لا تزيد من عدد النوبات،
6- في حين أنه لاحظ، وحكى لى: أنه حين يأتيه خبر قبول النشر تقل النوبات، أما إذا اعتذرت دار النشر، فكان يعانى من تضاعف النوبات.
7- كان إذا استغرق فى عمل إبداعى جديد، ولو بعد فترة من رفض النشر تقل النوبات.
وقد ناقشته فى كل ذلك، وقدّمت له فروضى عن فكرة الطاقة التى يبدو أنها كانت تلوح لى من قديم، وأن الطاقة الحيوية إذا وَجَدَت لها موضوعا ومـَخْرجا ومُـتـَلقـِّـياً تصبح وقوداً للإبداع الفائق، أما إذا حيل بينها وبين ذلك فإن الطاقة ترتد إلى الداخل وتتراكم حتى تخرج من نقاط الضعف الجاهزة لتفريغها فى صورة نوبات الصرْع التى تنتابه.
وقد اقتنع بذلك وفرح بهذا الربط، بل وعقب عليه أن هذا الفرض يبدو صحيحا حتى لو كان المتلقى للطاقة قارئا لا يعرفه، ولو فى بلد بعيد، وحين حاول صديق له أن يفسر تزايد عدد النوبات عند رفض النشر بما يسمى “الإحباط” رفض أن تكون المسألة مجرد “إحباط” بالتفسير الدينامى العادى، وشرح له الفرض الذى أبلغته إياه.
وبعد
موجز الفرض (متضمَّنا فى الشكلين فى البداية والنهاية) :
تَـتَنـَقَّـل نقلات مجالات سريان وتفعيل ودفع الطاقة الحيوية للمخ والحياة بين:
- التفريغ الصرْعى،
- والتوقيد (من الوقود) التشكيلى، (الابداع).
- ونوبات الذهان (والدفاعات ضده، بأمراض أخرى توسطية ).
بمعنى أن هذه الطاقة هى هى المسئولة عن زخم الإبداع، بقدر ما هى مسئولة عن التفريغ النوبى (الصرْع)
فإذا حيل دون هذا وذاك، ظهر احتمال ارتدادها عشوائيا إلى إفساد الهارمونية الإيقاعية التشكيلية، ومن ثم الذهان أو أى مرض آخر أقل خطورة مما بيـَّنا أنه قد يكون دفاعا ضد ذهان أخطر(نشرة: 1-12-2007).
نفس الشكل فى أول النشرة: بالعربية
ونواصل الأسبوع القادم عن المبدعين (والقادة) الصرْعين.
[1] – Simulating one second of human mind brain activity takes 28.944 processors by Ryan Whitman (2013)
وتترجم كلمة “Processor” إلى “معالج” وعندى تحفظى على ذلك وأفضل كلمة “مفاعل”
[2] – كررت هذا الفرض مرارا وكيف أننى – من خلال الخبرة الإكلينيكية – أتعامل مع الجسد باعتباره وعيا متعينا Conscious Concretized ومشارك أساسى فى الإبداع بكل مستوياته (نشرة 6-11-2007 “عن الفطرة والجسد وتَصْنيم الألفاظ”).