نشرة “الإنسان والتطور”
نشرة السبت: 7-5-2016
السنة التاسعة
العدد: 3172
الطبنفسى الإيقاعحيوى (41)
Biorhythmic Psychiatry
المقابلة الإكلينيكية (7)
التاريخ العائلى (2)
التاريخ العائلى وموقع الصرْع منه!!
السؤال عن الصرع فى التاريخ المرضى للعائلة سؤال مهم، ويمكن التعرف على مدى أهميته من خلال مراجعة ونقد ما صار إليه موقع الصرْع من الأمراض النفسية عامة، ومن ثَمَّ من الطب النفسى بدءًا بالتاريخ الأسرى، ثم أثر هذا وذاك على مسار العلاج والتكهن والمآل، وخاصة من منظور الطبنفسى الإيقاعجيوى.
حقيقة الأمر أن مرض الصرْع – ذلك المرض المقدس!! – تراجع تدريجيا من محيط الطب النفسى، وانتقل برمته إلى طب الأمراض العصبية حيث أصبحت المهمة الأولى فى مواجهته هى التخلص من نوباته المتعددة الأشكال، كما أن علاجه هو عادة مزعج ومزمن، وبعض أشكاله خطيرة ومقاوِمَة لكل العلاجات وهو فى بعض ثقافاتنا الفرعية ، يعتبر أحيانا “وصمة” ليس فقط للمريض وإنما أيضا للعائلة، وهو يعالج عادة بشكل اختزالى بمضادات الصرْع المختلفة والمتنوعة والتى يقومون بتحديثها أولا بأول كلما عجزت المضادات المتاحة عن ضبط ومنع المزيد من تكرار النوبات، وهذا أمر مطلوب ومهم.
ولكن هل هذه هى كل الحكاية بالنسبة للأطباء النفسيين عامة؟ وهل هذا هو المطلوب وخاصة من منظور الطبنفسى الإيقاعحيوى؟ ثم أليس هنا النموذج هو ما آل إليه الطبنفسى التقليدى المشتبكى الدوائى عامة؟؟
انطلاقا من المفهوم الأحدث والأشمل لماهية المخ وأنه مفاعل للطاقة والمعلومات كما ورد فى نشرات الأسبوع الماضى، وأنه يمثل تركيباً هيراركيا من مستويات وعى متصاعدة، فإنه لا يمكن اختزال الصرْع، وهو يغمر هذا الجهاز الرائع (المخ) غمرا بهذا التواتر، لا يمكن أن نختزله إلى هذا المظهر النَّوْبى من تغير الوعى الفجائى المحدود أو أى نوبة من نوباته بأى صورة أو تبرير.
ومن ناحية التاريخ العائلى – وهو موضوعنا الآن – على الفاحص أن يَسأل عن الصرع ليس باسمه فقط: هكذا “صرْع”(1)، وإنما يسأل عن النوبات والتشنّجات عموما، ثم عن أى من المظاهر الأخرى التى قد تدل على ذلك مثل الدوخة المفاجئة، والهجاج – التجوال على غير هدى – وأحيانا نوبات الصداع النصفى …..وغير ذلك.
والعامة عندنا لا يفرقون بين نوبة الصرع، ونوبة الهستيريا والمسّ ( اللمسة الأرضية، أو المس بالجن مما يندرج عادة تحت حالات الانشقاق وليس الصرع)
ثم نعود إلى أساس الفروض التى يقدمها الطبنفسى الإيقاعحيوى بدءًا من أن المخ مفاعل للطاقة (والمعلومات)، نبدأ بالتذكرة بأن هناك قول شائع عندنا بين المرضى النفسيين عموما والصرعيين خاصة، يستعمله بعض الأطباء بسهولة، ربما تبسيطا للمسائل تحت إلحاح كثير من المرضى والأهل، فيقولون للمريض أن عنده “كهربا زيادة فى المخ”، وكثيرا ما أبديت تحفظى على هذا الاختزال، لكنى رحت أفكر فى هذا التعبير من جديد وأربطه بكون المخ، “مفاعل للطاقة” فجاءنى تساؤل يخص الصرْع بوجه خاص يقول: ولم لا يكون الصرع له علاقة أساسية بهذا الفرض: فرض الطاقة واحتمال فرط زخمها؟، وأن هذه الطاقة إذا تكثفت ولم تجد لها سبيلا فى الابداع أو حمل المعنى أو توثيق العلاقات، انطلقت عشوائيا من أضعف مخرج لها فى المخ؟
هكذا تسلسلت الفروض تضع احتمالا بأنه يتحدد هذا الموقع (مخرج الطاقة) بالوراثة كما قد يتحدد بإصابات الدماغ أو أى خلل يؤدى إلى عدم اتساق ضام فى تشريح أو وظائف المخ، فإذا كان ذلك فى منطقة الوعى حدث تغير فى الوعى، وإن انطلقت الطاقة عبر أى من مناطق الحركة حدثت النوبات الحركية، وهكذا بالنسبة لسائر المواقع ووظائفها.
نفس هذه الطاقة – كما سنعود إلى ذلك – قد يكون فى انطلاقها السوىّ تحفيز للنمو أو قد تكون هى هى وقودا للإبداع، وسوف يتم تدعيم هذا الفرض بتعداد تواتر الصرْع عند عدد هائل من المبدعين والقادة الذين كانوا مصابين بالصرع وفى نفس الوقت فائقى الابداع بالغى القدرة وأحيانا مفرطى الطغيان.
انطلاقا من هذا الفرض الأساسى يمكن تفسير علاقة الصرْع بالأمراض النفسية (العقلية) كما يلى:
الفروض الأساسية للوراثة الطبيعية ومسار النمو فى حالة السواء النامى:
(1) المخ البشرى مفاعل لطاقة حيوية جاهزة ومناسبة موروثة جينيا جزئيا.
(2) الإيقاعحيوى ينظم حركية هذه الطاقة باستمرار من خلال نبضاته الدائمة الاستعادة واحتمال التشكيل الإيقاعى الحيوى الدائم ليل نهار.
(3) يجرى نشاط مناسب مواكب لتنظيم وتوجيه واستيعاب هذه الطاقة الحيوية لتقوم بدورها فى “العمل” و”العلاقات” و”الإبداع” و”النمو”.
(4) تتواصل حركية متناوبة بين التفكيك والتشكيل (الإبداع والجدل) بين كل المستويات والمعلومات فى دورات متعاقبة ليست مكرر، بالضرورة، مادام النبض مستمرا والجدل متصلا.
(5) يرث كل شخص زخما من الطاقة يختلف من فرد لفرد، ومن عائلة إلى عائلة، ثم يتم تدعيمها بالتنشئة من خلال حركية نمائية مختلفة المستويات حسب نوع التربية، ومساحة السماح، ومسافة الاقتراب،ومواصلة التوجيه، واحتواء العائد .
(6) تتواصل هذه الطاقة فى وظيفتها الطبيعية لتأنيس الإنسان وتعميق وجوده مع مستويات الوعى الممتدة، وبالتالى مواصلة الإبداع عبر الإيقاعحيوى بما يشمل إيقاعات النوم والأحلام وإيقاعات التحصيل والإنشاء والتفكيك والتركيب.
ثانياً: الفروض المكمِّلة بالنسبة للصرْع (فالأمراض النفسية لاحقا)
(1) توجد فى التركيب الدماغى حسب الاستعداد الوراثى، أو أثر إصابات الرأس أو كبقايا التهابات ظاهرة مسجلة أو خفية تحت إكلينيكية، توجد نقاط ضعف فى التماسك مع كلية التركيب الدماغى، جنبا إلى جنب احتمال ميل إلى فرط نشاط فى هارمونية نبض الإيقاع، فتصبح هذه المناطق مخرجا تفعيليا أمام زخم هذه الطاقة النشطة، خاصة إذا زاد هذا النشاط ولم يجد له متنفسا فى مساره الطبيعى، فاختنق.
(2) لظروف معروفة أو غير معرفة لا تجد هذه الطاقة الزائدة سبيلها الطبيعى الإيقاعحيوى القادر على احتواء نبضها كلها طول الوقت، كما تفتقر إلى فرص إرساء علاقة كافية “بالآخر” فيها “دخول وخروج” و”مسافة وتحمّل”، كما أنها عادة تُحرم من توفير الفرص الكافية للابداع الذاتى (النمو) أو الابداع المنتَجْ
(3) تنحرف هذه الطاقة فتنطلق فى نبضةٍ مستقلة أشبه بما يحدث فى القلب ويسمى فـَرْطُـنَـبـضُةْ (2) Extrasystole ، فتنطلق نشازا مفاجئا قصيرا عادة من منطقة من مناطق الجزء الضعيف المذكورة سابقا، وتظهر حسب موقع هذا الجزء الأضعف فى شكل نوبىّ متكرر عادة لمدة قصيرة، وهذا ما يمثل شكلا من أشكال الصرْع.
(4) إن ما يُوَرّثَ إذن هو كم زخم الطاقة تواكبا مع جاهزية حركية التفكيك (التشكيل) فى حالة السواء وسلاسة الإبداع اليومى فى النوم، وسلامة إيقاعه عموما.
(5) إن لم يحدث ذلك فإن أوضح وأسرع إعلان عن هذا المسار الخاص للطاقة هو هذا الظهور الغامر والصاعق أحيانا، وهو ما يسمى عادة الصرْع.
(6) من هذا المنطلق ينبغى أن تكون الوقاية (فالعلاج) متضمِّنة احتمالات توجيه مسار هذا الكم النشط من الطاقة إلى مساره الطبيعى النمائى والعلاقاتى والإبداع.
(7) كلما زادت الطاقة عن مجارى استيعابها الطبيعية زاد احتمال إطلاقها العشوائى النوْبى كما ذكرنا، وأحيانا تتراكم حتى يتم تفعيلها فى نبضات دورية جسمية (السيكوباثوجينى) (3) ومن ثم تظهر فى صورة دورات الذهان الدورى، وهذا ما يفسر العلاقة بين كثير من حالات الصرْع والذهان الوجدانى الدورى خاصة (انظر بعد).
(8) يصبح تركيز العلاج على كَتْم هذه الطاقة من الأساس: فورا ودائما دون السعى إلى تنمية أى سبيل آخر لاستيعابها وتسليك مسارها (4) أى التركيز المطلق على زوال تناقص (فى نوبات الصرْع وكذا اختفاء علامات رسام المخ الكهربائى) يصبح كل ذلك سببا مباشرا لاحتمال ظهور ذهان خاص بهذا التطور.
(9) التفسير المباشر لهذه العلاقة المتبادلة بين اختفاء نوبات الصرْع وظهور أعراض هذا الذهان وهو ما يسمى “الذهان” “المُقْحَم” بعد التطبيع Forced Post Noralization Psychosis وهو الذهان الذى يَظْهر تَوَاكُباً مع نوبات الصرْع أو (و) مع اختفاء العلامات الصرعية من رسام المخ الكهربائى ،وقد وضعت فروض كثيرة لتفسير هذا الذهان. (أنظر بعد).
وبعد
أشرت يوم الأثنين الماضىى أننى سوف أتناول موضوع الصرْع بالتفصيل نسبيا، لأنه لا توجد فئة مستقلة فى أغلب الطب النفسى التقليدى خاصة بالصرْع بما يوضح هذه العلاقة تحديدا حتى أن التقسيم الأمريكى الرابع (وربما الخامس) والتقسيم العالمى العاشر وربما الحادى عشر، لم يشيرا بشكل مستقل ومباشر إلى الصرْع كمرض نفسى عقلى محورى له حضوره الذى يستأهل التناول المستقل مثل سائر الأمراض فى حين أن التقسيم المصرى/العربى “د.ت.م” Psychiatric Disorders Diagnostic Manual of قد أورد الفئة الرابعة للأمراض “4 صفر”: بعنوان: “الاضطرابات النفسية للصرْع” وقد نعود إليها لاحقا (5)
الشكل (بالعربية والانجليزية) يبين:
المسار “العادى” للطاقة الحيوية تمهيدا لشرح مساراتها بعد التراكم أو الاختناق بالعلاج، أو بسوء الاحتواء.
وبعد
نأمل أن نواصل بمزيد من شرح العلاقة بين الصرْع وعلاجه حتى بالعلاج النفسى وبين الأمراض النفسية ومسارها وعلاجها.
[1] – الاسم العربى الصحيح هو صرْع وليس “صَرَع”، وقد راقنى هذا التسكين ربما لأنه أقرب إلى مفاجأت وقمع المرض.
[2] – نحت هذه الكلمة ترجمة لـ Extrasystol حيث وجدت الترجمة العادية هى انضابضة ومفضلت أن أنهج نهج أ.د.على زيعور وأقدمت على نحت هذه الكلمة المضغمة وأرجو أن تكون أكثر تصويرا ليحدث فعلا
[3] – أنظر نشرة 29-2-2016 ونشرة 4-4-2016
[4] – هذا هو المقابل للتثبيط المفرط فى استعمال النيورلبتات الجسيمة لقهر مستوى الوعى الأقدم الغائر المنشط فى الذهان، وهو ما يتجلى فى ظهور الأعراض السلبية والتدهور التدريجيى للشخصية نتيجة للعلاج الدائم المتزايد بالنيورولبتات لمدد طويلة (أحيانا طول العمر)، مما قد يؤدى إلى ظهور حالة الذهان السلبى المتدهور، مما يستحق أن يكون له تفسير موازٍ.
[5] – هامش كبير من ص 40