نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 1-5-2016
السنة التاسعة
العدد: 3166
الطبنفسى الإيقاعحيوى (39)
Biorhythmic Psychiatry
المقابلة الإكلينيكية (5)
بحث علمى بمهارة فنية (3)
أبعاد الشكوى ومغزاها
مقدمة :
مازلنا نناقش اللقاء الإكلينيكى لكتابة ورقة المشاهدة Sheet بالطريقة التقليدية مع تعقيبات محدودة متعلقة جزئيا بالطبنفسى الإيقاعحيوى.
ذكرنا فى النشرات السابقة ما تيسر عن (1) الاسم، (2) العنوان، (3) مصدر وسبب التحويل.
ونواصل اليوم.
الشكوى والحالة البادية:
المتن: (1986)
يقصد بالشكوى تحديدا: ما يشكو منه المريض أو أهله أو المحيطون به، والشكوى عامّة شديدة التداخل مع سبب التحويل، وكثيرا ما تكون الشكوى غير قاصرة على هذا وإنما عادة – بل غالبا – ما يبدأ المريض - وأهله- فى الحكى ليس عن الملاحظات الحديثة التى جدّت، بل عن التاريخ السابق، وكثير من أهالى المرضى يبدأون بالحديث عن تاريخ قديم، ليس لمرض سابق، وإنما لصفات حسنة أقرب إلى المديح والاطراء الذى يبدو من وجهة نظرهم أنه لا يتناسب مع ما حلّ بالمريض، أو هم يبدأون بالحكى عن الأسباب - كما يتصوّرونها- أو عن أحداث فى الطفولة يرجحون أنها السبب، وعلى الطبيب ألا يُستدرج معهم إلا احتراما للبداية، ثم عليه أن يسارع بطريقة مناسبة بالحيلولة دون الاسترسال فى مثل ذلك وأن يوجّه المتحدث بهدوء، وباستمرار، إلى ضرورة التركيز -مبدئيا- على الشكوى والحالة الراهنة، وهناك تعبير شعبى شاع مؤخرا قد يصلح فى مثل هذه المواقف، يقول هذا التعبير “هات مالآخر”، ولا ننصح باستعماله هكذا لكنّه تذكرة بأن العامّية المصرية الجميلة أيضا تفضّل البداية من الحاضر بشكل أو بآخر.
التعقيب: (2016)
هذا التعبير الشعبى الذى استشهدت به منذ ثلاثين عاما وتحفظت على استعماله مع احترامى لفكرته “هات ما لآخر” أصبح عندى بالتدريج هو الأساس فى بدء المقابلة، ذلك أننى تدريجيا اكتشفت أن معظم المرضى، وخاصة من الطبقة المتوسطة إلى ما هو أعلى يبدأون المقابلة بعرض تاريخ قديم يصل إلى عشرات السنين أحيانا، أو قد يركز أحدهم على حادث واحد اكتشف بطريقته أنه أصل ما هو فيه لما له من دلالة خاصة، وانتبهت إلى أن ذلك، يساير الشائع عن التحليل النفسى وما يسمونه العقد النفسية بين العامة، بل وفى وسائل الإعلام وكثير من المسلسلات، وكل هذا له دوره ودلالته من حيث المبدأ.
لكن فى الطبنفسى الإيقاعحيوى يكون التركيز أكثر فأكثر على ما هو “هنا والآن” وأيضا على السببية الغائية: (ماذا “يقول” المرض – وليس فقط المريض) – بظهوره الآن هكذا؟ يا ترى ماذا يعنى ذلك؟ وهذا وذاك يتطلب من اللحظة الأولى عدم السماح بالاسترسال فى البدء بسرد التاريخ السابق، إلا بما يفيد رؤية الحالى، وعلينا أن نعطى اهتماما أكبر لما آل إليه تنظيم مستويات المخ (وعى) المريض الآن بعد هجمة المرض، وهذا يقتضى البدء بالتاريخ القريب وخاصة بالنسبة للأحداث التراكمية المحيطة منذ بدء المرض (حسب رأى الحاكى وتقييم الطبيب معا) ولكن عادة ما يواصل الأهل الحكى عن سبب يعقتدون أنه أهم شىء، أو هم يتمادون فى قصيدة مديح المريض، مثل أنه كان اجتماعيا أو مصلـِّيا أو مهذبا أو متفوقا أو ما شابه ذلك، وكل هذا مهم وسوف نرجع إليه فى “الشخصية قبل المرض” (الدراسة المستعرضة الأولى: النشرة السابقة 25-4-2016) لكنه يظل يبعدنا عن اللحظة الراهنة أكثر فأكثر، حتى يكاد يتوارى السبب المباشر القريب لحضور المريض (أو إحضاره بواسطة أهله) للمشورة الآن، وهو ما يلزم لتخطيط التركيب الحالى الذى يبدأ العلاج منه.
وقد يبدأ المريض أو أهله بذكر مشكلة (أو عدة مشاكل) محددة هى التى أتت به للمشورة ويصر على أن يحكيها بالتفصيل بربط أو دون ربط مباشر بأثر هذه المشكلة أو المشاكل على ما يعانى منه، وهنا أيضا على الطبيب أن يحذر أن يُستدرج إلى النظر فى المشكلة بديلا عن النظر فى المريض، وقد اعتدت مؤخرا أن أوضح لمثل هؤلاء المرضى أننى طبيب أعالج أمراضا، وأننا نلتقى فى “عيادة” وليس فى مكتب استشارى لحل المشاكل”، وإن كنا نعرج إلى المشاكل إذا لزم الأمر حين نتبين أن لها علاقة سببية كافية بما ظهر من معاناة أو صعوبة تكيف أو إعاقة.
هذا الأسلوب لا يعجب أغلب المرضى والأهل لكنه الطريق الأقرب لتوصيل رسالة يهتم بأولويتها الطبنفسى الإيقاعحيوى تلك الرسالة التى تقول: إننا فى النهاية سوف “نبحث سويا“عن “إذن ماذا؟” بديلا عن التركيز على “لماذا؟” وهذا أيضا يخفف من ثقل التوقف عند السببية الخطية لنتوجه أكثر وأولا إلى “فهم التركيب” الحالى وإدراك الغائية من المرض ومعنى الأعراض، ومن ثَمَّ العلاج، وتكون الإجابة على “إذن ماذا؟؟” متضمَّنة فى “التعاقد المبدئى” الذى يضع فى اعتباره لغة الأعراض وغايتها كخطوة مبدئية لتحقيق أغراضها بطريقة أخرى غير اللجوء إلى المرض، بمعنى أنه إذا كان المرض “يقول” ما يستحق أن نستمع له وننطلق منه مثل: الاحتجاج أو الثورة أو الرفض، أو العزم على التغير، أو خوض مغامرة الإبداع، ولكن كل ذلك قد فشل فى إكمال الطريق فأجهضت المحاولة وظهر المرض، فعلينا أن نستمع إليه ونبحث عن لغة أخرى غير المرض يحقق بها ما أراد.
المتن: (1986)
وهكذا تشمل هذه الفقرة كلا من الشكوى وما جاء عفو الخاطر من وصف لبعض مظاهر المعاناة أو الإعاقة أو اضطراب العلاقات، وعلى الطبيب ألا يتمادى فى الأسئـلة فى هذه المرحلة عن أعراض بذاتها اللهم إلا إذا سمح السياق عفوا. وعلى الفاحص أن يلجأ فى هذه المرحلة إلى الإيماءات والأسئلة المفتوحة النهاية كما ذكرنا قبلا (مثل: ماذا تعنى بقولك كذا وكيت؟ أو ثم ماذا؟ أو إذن ماذا؟ وماذا أيضا؟ وهكذا”).
التعقيب: (2016)
فى المقابلة التقليدية يكون الحرص من البداية، وبطريقة شبه آلية على ترجمة كل عبارة وكل شكوى وكل وصف إلى عرض بذاته له تعريف (متفق عليه ما أمكن ذلك) والطبيب بذلك سواء بقصد أو وهو مُـبـَرْمـَجٌ تلقائيا بطريقة تعـَلمه، إنما يجمع الأعراض ويرصد اضطراب الوظائف النفسية ليوصّفهما ويعيد ترتيبها بحثا عن مكان لها متفق عليه لتكوين منظومة مرضٍ بذاته، فهو يجمع ويطرح أكثر مما يفهم ويبحث، وكل همه أن يصل إلى تشخيص معين متفق عليه ومثبت فى دليل تشخيصى عام محلى أو قومى أو عالمى، ومما لا شك فيه أن هذا إنما يسهل أن يتفق الفاحصون فى مختلف الأماكن والأزمنة على ما يميز هذا المصطلح التشخيصى أو ذاك، وهذا الأسلوب يحقق درجة عالية مما يسمى الموثوقية (Reliability)((1)])، ولكنه قاصر تماما على توضيح الفروق الفردية الحتمية بين المرضى وبعضهم، وأيضا هو يعجز عن توصيل معنى متفق عليه لمِاَ تحت لافته تشخيص معين، وهو ما يسمى المصداقية Validity.
فى الطبنفسى الإيقاعحيوى قبل ومع كل ذلك يظل المـُنـْطلق هو تفرد كل حالة بخبراتها عن أى حالة أخرى مهما حملت نفس الاسم والتشخيص أو ظهر عليها نفس المرض،
ثم ينتقل الفاحص – فى الطبنفسى الايقاعى– من هذه المرحلة إلى قبول العرض ليس كظاهرة مرضية مسلم بسلبيتها وإنما كحق مشروع للدفاع عن الذات سواء ضد أمراض أخطر (أنظر كيف يكون الوسواس مثلا دفاعا ضد التهديد بالفصام) أو كلغة تمثل برنامجا تطوريا كان ضروريا نافعا فى أحياء أقدم (الطب النفسى التطورى) وأخيرا يتجمع كل ذلك فى فرض محتمل، ثم تبدأ الصحية (المعيّة المشاركة) تبحث عن نقلة نمائية أُجْهِضَتْ فى صورة مرض بذاته (الطبنفسى الإيقاعحيوى) لنستكمل الطريق بدلا من اجهاض كل حركة ، وكأننا “نتخلص من السلة المرفوضة بالطفل الذى فيها”.
وهنا يثار تساؤل: هل يحول البحث عن الأعراض وتسميتها وترتيبها محاولة فهم لغتها ومعناها وغائيتها؟
الإجابة: بصراحة: نعم، فبمجرد أن تتحول شكوى المريض بالألفاظ بواسطة برنامج الترجمة الفورية إلى أعراض، تتوارى الفكرة الأولى فى الطبنفسى الإيقاعحيوى ويصعب التعامل مع الأعراض باعتبارها حقيقة معيشة وليست مجرد أوهام مخترعة، وأنها جزء لا يتجزأ من مستوى من مستويات الوعى البشرى وليست مجرد خطأ فى تقيم الواقع ومعاملته باللغة السائدة،
المُنطلق الجديد (القديم) حسب الطبنفسى الايقاعى هو ان نصدق المريض ابتداءً، نصدق أنه يعيش ما يحكيه (مختارا محتجا عادة، ثم مضطرا بعد التمادى فى ورطته) وأنه يحتاج إلى رفيق يصاحبه ليخرج من الورطة وليس لينكر عليه حق المحاولة وإن فشلت مبدئيا، أما عملية الترجمة الفورية لكل ما يشكو منه أو يقوله إلى ألفاظ رصينة اسمها “أعراض” محددة لها مكانها فى مصطلح تشخيصى بذاته، فهذا يعطل الانتقال إلى هذا المستوى فى البحث عن المعنى لمحاولة المعية والخروج “معا” إلى لغة أخرى دون التنازل عن الغاية التى قد تكون مشروعه من البداية ثم ضلت الطريق إلى حل مرضىّ، وما العلاج إلا محاولة تحقيقها عن طريق سلوك سبيل سليم مشارَكٌ فيه.
المتن: (1986)
وتؤخذ الشكوى والحالة البادية من كل من: المريض، والمرافق، ومن أى مبلغ عن المريض يمكن أن يدلى بأى معلومات لازمة عنه أو عن مرضه.
وعلى الفاحص أن يثبت وصفا مختصرا عن شخصية كل من المرافق attendant وأيضا عن كل مبلّغinformant ، وخاصّة فيما يتعلق بعلاقته بالمريض، وطريقة حكيه، بما يسمح بالحكم على مصداقيته، ويشمل الوصف المختصر للشخصية تحديد السن، والجنس، والعمل، والسمات الغالبة على الشخصية، والعلاقة بالمريض وأى معلومة تحدد مستويات علاقة المرافق بالمريض سواء من حيث الإقامة معه أو رؤيته أحيانا أو الإبلاغ من ثالث مقيم معه، أو غير ذلك.
التعقيب: (2016)
وهنا علينا أن نتذكر أن المرافق برغم أهمية كل حرف يقوله، له موقفه الخاص من المريض من حيث قربه، أو البعد عنه، أو حبه، أو الغيرة منه، أو ثقته فيه، أو خوفه منه، فهو يحكى عن ظاهر السلوك، وينقل بعض الكلام عن المريض مباشرة أو عن من سمعه من شخص أقرب، وهو – حسب الثقافة الشائعة اللهم إلا فى التفسيرات الشعبية (المرفوضة والمختزلة والمشوِّهة غالبا) لا يعرف للمرض معنى ولا غاية، بل قد يحسبها من وجهه نظره بل ربما من خلال مخاوفه الشخصية من عدوان المريض أو التشهير بسمعة العائلة …الخ،
وقد يبالغ المرافق فى وصف شكوى المريض أكثر مما يقوله المريض نفسه وفى هذه الحالة علينا أن نفرق بين نقل الصورة السلوكية بموضوعية ولو نسبية، وبين وصف الصورة السلوكية من وجهة نظر الحاكى شخصيا.
وأخيرا علينا أن نفحص مدى حرص المرافق على الخروج من مأزق المرض فى مقابل احتمال ميله لا شعوريا لتثبيت المرض دون أن يدرى (وهذا من أهم العوامل المُدِيمةَ) Perpetuating factors وهذا يتطلب الغوْص – دون اتهام خفى – للنظر فى المكاسب التى تعود على المرافق من مرض المريض وإعاقته، فى مقابل المخاطر والمضار التى قد يتعرض لها. (2)
ومهما وصل الفاحص إلى معنى المرض واستطاع ترجمة لغة العرض إلى لغة الحقوق المنسية أو التعويض المرضى الخائب (من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى) فإن عليه أن يحرص ألا يوصل هذه الرسالة – هكذا – إلى المرافق مباشرة لأنه عادة سوف ينكرها ابتداءً، أو قد يفهمها باعتبار أن المريض يتصنع المرض، أو قد يتعجب لمخالفتها لما يعتقد أنه مرض، وأنه لابد أن تزول مظاهره وفورا بالعقاقير أو بقدرة الطبيب جدا، وذلك طلبا للسلامة الظاهرة فحسب.
[1] – نشرة 16-1-2016 ” الواحدية والذات والجسد، ووظائف الأنا ماهية الشخص فى الْيَتَكوّن“
[2] – وسوف نرجع إلى ذلك فى مجال ما يسمى بالذهان المُقْحَمْ imposed insanity حين يكون المريض مَسْمَعاً لسيكومراضية شخص قريب طاغٍ، يقوم عنه بإظهار المرض، فى مقابل أن يظل هذا الشخص متماسكا على حساب تفكك المريض.