نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 25-4-2016
السنة التاسعة
العدد: 3160
الطبنفسى الإيقاعحيوى (37)
Biorhythmic Psychiatry
المقابلة الإكلينيكية (3)
بحث علمى بمهارة فنية
مقدمة:
انتهت نشرة أمس كما يلى: “وليس من الضرورى أن أعقب على فقرة فقرة بالتفصيل”. إلا أننى وجدت أن التعقيب الإجمالى يكاد يطمس معالم ما أريد تقديمه عن الطبنفسى الإيقاعحيوى، فقدرت أن التعقيب فقرة فقرة قد يكون أكثر فائدة، هيا نجّرب.
هذا العنوان القديم “بحث علمى بمهارة فنية “ يبدو تأكيدا على ما وصلنى منذ البداية بأن مهنتنا هى أقرب إلى فن المداواة والمواساة، وهو الفن الذى تتطور معنا إلى “فن الإبداع النقدى: فى محاولة إعادة تقويم مَن “دسَّاها”.
فقرات المشاهدة (المتن 1986):
المتن:
ينبغى أن نعتبر أن المقابلة الإكلينيكية هى بمثابة بحث علمى وفى نفس الوقت، فإن عملية إجراء المقابلة ليست إلا مهارة فنّية خاصة تماما. ذلك أن القدرة على جمع المعلومات اللازمة، ثم تنظيمها حسب الأولويات المناسبة فى إطار الهدف الخاص بكل مقابلة على حدة، هو من أدق المهارات الفنيّة التى تحتاج إلى دراية وتدريب.
التعقيب:
يبدو أن ما اقتطفته أمس مما اقتطفه الأخ الزميل أ.د. أحمد عكاشة عن أن “الطب النفسى هو أكثر العلوم فنا، وأكثر الفنون علما”، هو دليل على أن ما يشغلنى يشغل الكثيرين ممن يرون فى هذه الممارسة ما تستحق، وعلى من يأخذ ما أقدمه ليحفظه فيطبقه حرفيا أن يحذر، فهو بذلك يبتعد عن الإبداع المتفرد اللازم ليكون إبداعا أصيلا ونقدا حقيقيا.
من أهم مبادئ الطبنفسى الإيقاعحيوى أن تشعر مهما طالت الممارسة، بالفروق الفردية للمريض بين آلاف أو عشرات الآلاف من المرضى مهما تماثلت الصفات أو اتقفت الأعراض أو توحد التشخيص، من هنا وجب التنبيه أنه فى الطبنفسى الإيقاعحيوى لا يوجد تقدير خاص لما يسمى “الأبحاث المقارنة” ذات العينات التى يزعمون أنها متماثلة مهما بلغ الاحتياط بما يسمى “التعمية المزوجة” Double- Blind، وكما أن كل مريض له معالمه الذاتية جدا، فإن كل فاحص أيضا له معالمه الذاتية جدا، وبالتالى فإن مجرد التطبيق الحرفى للتعليمات، كما لاحظت احتمال تلقى ذلك من نشرة أمس، ليس هو المطلوب تماما، وإنما هى علامات على الطريق، تـُستوفـَى تماما، كلُّ بطريقته.
ثم إن اقتصار وصف المهارة الفنية على “كفاءة جمع المعلومات اللازمة ثم تنظيمها حسب الأولويات” لا يكفى، وهو ليس ما يقابل ما يعينه الطبنفسى الإيقاعحيوى من نقد النص البشرى، إن الإبداع النقدى يتواصل مع استيعاب النص البشرى للمريض وكيف انحرف أو تشوَّه أو تَشَرْذَم، ثم احترام كل ذلك ورسمه كما هو للبدء فى جدلية العلاقة العلاجية من خلال التفاعل البينشخضى إلى ما هو نص جديد تقريبا لكل من المريض والمعالج مهما كان ذلك غير ظاهر فعلا، أو حالاً.
المتن:
ويمكن تقسيم المشاهدة إلى سلسلة من الدراسات والملاحظات المستعرضة: ملاحظات تتعلق بالحالة الراهنة (الآن) كقطاع مستعرض ماثل للفاحص، بالإضافة إلى، والتبادل مع، دراسات طولية تتعلق بالتاريخ الشخصى والمَرَضِى على حد سواء
التعقيب:
اعتدت من قديم (بدءا من سنة 1961)(1) وأنا أدرّس أقدم لطلبة السنة الرابعة كيف يكتبون ورقة المشاهدة Sheet، واعتدت أن أبدأ بأن أبين كيف أن هذه العملية تشتمل على دراستين طوليتين، ودراستين مستعرضتين:
أما الدراسة الطولية الأولى فهى تاريخ المريض منذ ورث جيناته من والديه وحتى بداية المرض
ثم تأتى الدراسة الطولية الثانية وهى أقصر كثيرا وتختص بتاريخ تطور الحالة المرضية عموما، والنوبة الحالية بوجه خاص.
أما الدراسة المستعرضة الأولى فهى التعرف على سمات وطباع وشخصية المريض قبل ظهور ما يسمى المرض بفترة مناسبة (ليست أقل من اسابيع، وتسمى “الشخصية قبل المرض Premorbid Personality) حتى يمكن التحقق مما طرأ على المريض من تغيّر (هو الباعث إلى الاستشارة غالبا) وذلك من خلال المقارنة بالدراسة المستعرضة الثانية، وقد أسمينا هذه الدراسة مستعرضة لأنها وصف تفصيلى تقريبا فى زمن محدد، قبل المرض، ثم بعد ظهور المرض، ويجمع الوصف الأخير تحت عنوان: الحالة العقلية الراهنة Present Mental State وتشمل وصف الأعراض وكثير من التفاصيل التى سوف تأتى بعد ذلك عن كل وظيفة نفسية اختلت أو لم يصبها الدور!!، وطبعا لأنها دراسة مستعرضة فهى ترصد الموجود فى فترة زمنية بذاتها، وهذه الفترة هى “الآن” (وقت الفحص) ويمتد هذا “الآن” إلى شهر كاملَ من تاريخ الفحص (وأحيان أكثر فى الأمراض المزمنة طبعا)
أنظر الأشكال من فضلك:
انتبهت الآن إلى ضرورة إعادة توظيف هذا التخطيط المبدئى من وجهة نظر الطبنفسى التطورى على الوجه التالى:
أولا: نحن لا نعرف الحدّ الحاسم، الذى يفصل بين الصحة والمرض، لأننا لا نعرف التعريف الجامع المانع لماهية الصحة النفسية، والطبنفسى الإيقاعحيوى يتعامل مع مفهوم الصحة النفسية من منطلق حركيتها المتصاعدة على مسار النمو الفردى طول العمر، كما يميز بين أوليات الوسائل التوازنية (الدفاعية والبصيرية والإبداعية) لكل مرحلة، وبالتالى يرتب الإعاقة المترتبة عليها، بالذات الإعاقة عن التكيف وعن مواصلة العمل، ومن ثَمَّ النمو (أنظر ملف الصحة النفسية وقد بلغ 280 صفحة) ولذلك فكل من هذا المنطلق واحد هو قياس نفسه فى النهاية، شريطة ألا يتوقف!
ثانيا: إن هذا التخطيط يسمح طولا باحترام الاستعداد الجينى (بل وما قبله مما أشرنا إليه مجرد إشارة عن احتمال التهيئة الإثنية دون تمييز عنصرى طبعا) (2)
ثالثاً: إن بداية النقد تنطلق من صياغة النفسمراضية وكيف تَغَيَّر التركيب الطبيعى إلى التركيب المرضى، ومتى وماذا يعنى ذلك وإلى أين، ومن ثَمَّ: كيف يعاد تشكيله (وسوف نعود إلى ذلك خاصة مع عرض الحالات).
رابعاً: يكون الشخص مريضا – بناء على ذلك – حين يكون هناك فرق سلبى واضح بين نوعية وجوده، وناتج أدائه قبل أزمة المرض بالمقارنة بنفسه بعد المرض، وليس ابتداءً بالمقارنة بآخرين ممن حوله، حتى لو كانوا من صلب ثقافته الفرعية
خامساً: يتعمق بذلك احترام الفروق الفردية مهما تماثلت الأعراض أو اتفق على نفس التشخيص كما أسلفنا مرارا، والفروق الفردية موجودة بين الأسوياء وأكثر بين المرضى ولو حملوا نفس التشخيص كما ذكرنا.
سادساً: يتأكد من خلال هذا التخطيط المبدئى مدى أهمية الوراثة (أنظر بعد)(3)دون أن تكون قيدا على حركية النمو وإعادة التشكيل إبداعا من خلال نقد النص البشرى (أنظر بعد أيضا)
سابعاً: تُسْتلهم الخطة العلاجية من كل المعلومات الواردة فى هذا التخطيط بالطول وبالعرض، ليس فقط للعمل على زوال ما يسمى مرضا، أو التخلص مما يسمى عرضا، وإنما للوصول إلى ما أشرنا إليه ونحن ننصت إلى لغة المرض، وكيف تغير التركيب الدماغى والنفسى والوجودى ليعبر عن احتياجاته المُنْكرة وحقوقه المنسية منه، وممن حوله، وليس ممن خلقه، الأمر الذى يعمل الطبنفسى الإيقاعحيوى على التذكرة به.
ثامناً: ما لم تكن المقابلة الإكلينيكية هادفة إلى مثل ذلك فإنها قد تصل إلى أن تكون نوعا من الاغتراب إذا ما كان الهدف الأول والأخير منها هو رصد أعراض بذاتها للوصول إلى تشخيص محدد ، الأمر الذى لم ننكر أهميته، لكننا نؤكد عدم أولويته، ونصر على عدم التوقف عنده.
وبعد
لو أننا توقفنا عند كل فقرة كما فعلنا اليوم، فمتى ننتهى بإذن الله؟
عذرا
أفيدونى أفادكم الله.
[1] – وأنا بعدُ معيد فى كلية الطب قصر العينى
[2] – وهو ما أرجعناه إلى ربط مواقع النمو بلغة مدرسة “العلاقة بالموضوع” (الشيزيدى، فالبارنوى، فالاكتئابى)، وبين مراحل التطور (الأحادية الذاتوية فالكر والفر فالمرحلة البشرية مع تحمل الغموض وثنائية الوجدان).
[3] – تحت فقرة التاريخ العائلى لاحقا