نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 23-4-2016
السنة التاسعة
العدد: 3158
الطبنفسى الإيقاعحيوى (36)
Biorhythmic Psychiatry
نقد النص البشرى: هو تزكية النفس إلى “ما سواها”
مقدمة:
بدأ النشاط الثقافى فى جمعية الطب النفسى التطورى بإلتزام شهرى بتقديم عمل ثقافى فى ندوة الجمعة الأول من كل شهر اعتبارا من شهر يناير 1974 ، وكان لزاما – تقريبا– أن تكون حوالى نصف الأعمال المقدمة هى “نقد لنص أدبى فى القصّ والرواية بالذات”، وأحيانا فى الشعر ، وظل هذا التقليد ساريا حتى عهد قريب، ثم اختفى كما اختفت أشياء أخرى ما كان لها أن تختفى
كما أننى أعلنت مرارا وتكرار، وأصدرت كتبا وكتبت مقالات عن “التفسير الأدبى للنفس”، ردا على مقولة “التفسير النفسى للأدب”، وأبَنْتُ كيف أننى عرفت سيكولوجية الطفولة من نيتوتشكا نزفانوفنا لديستويفسكى، ومن الفارس الصغير، ومن كاتيا فى مذلون مهانون، وتأكدت من موضوعية وجوهرية ظاهرة الإيقاعحيوى من ملحمة حرافيش نجيب محفوظ، وتعرفت على تعدد الذوات من معظم ما قدمت من أعمال نقدية لا أجد داعٍ لإعادة تعدادها، كما تعرفت على طبيعة الأحلام من نجيب محفوظ (1) وفتحى غانم (2)، وعن العلاقة بالموضوع منهم جميعا بالإضافة إلى إدوار الخراط (3) وحسنى حسن (4) وغيرهم، هذا بالإضافة إلى أطروحاتى النظرية عن “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”(5)، وجدلية الجنون والإبداع” (6) وغيرها
وحين وصلت إلى إدراك ما أمارس فى علاج مرضاى، وبدأت أستوعب كيف أن النص البشرى هو أعظم إبداع فى الكون كما أبدعه بديع السماوات والأرض وبديع كل شىء، وكيف أن المرض النفسى هو تشويه وانحراف بهذا الإبداع الفائق العظمة المحكم التكوين فى أحسن تقويم، انتبهت إلى وجه الشبه وفرحت بهذا الكشف، وهكذا بزغ مصطلح “نقد النص البشرى”، غير أننى بدأت أجد صعوبة فى توصيف وتوصيل ما أمارس لزملائى الأطباء النفسيين الأصغر بعد أن كنت أعانى من الصعوبة مع الأكبر فقط، ثم لاحظت فتور الأجيال الأحدث فالأحدث عن متابعة نشاطات الإبداع والنقد، أو أى نشاط معرفى خارج تخصصهم، وبالتالى عزفوا عن المشاركة الجادة فى الندوات حتى اقتصروا على ما يسمى الندوة العلمية، وبالتالى لم تعد متابعة النقد الأدبى جزءا أساسيا من برنامج التدريب الذى كان يسهل مهمتنا العلاجية حتى قبل صك هذا المصطلح الجديد، “نقد النص البشرى”، فكان لزاما علىّ أن أعود كلما لزم الأمر إلى بعض التعريف بما هو “نص”، وبما هو “نقد” أولا: نص أدبى، ثم قياسا نص بشرى (مع أنه هو الاصل)، وهذا ما سوف أبدأ به اليوم مع بعض المقارنات، وإن كنت أعترف ابتداءً أننى وجدت صعوبة بالغة فى المقارنة بين هذين المنهجين ، وأنا أحاول أن أقيس “الجارى” على “المجهول” بالنسبة للقارئ المنغلق فى تخصصه الراضى به، ومع ذلك فليس أمامى حل آخر .
عودة إلى التناص:
كل نص هو تناص:
هذه عبارة بالغة الدلالة، وبغيرها قد لا نستوعب المدى الذى سمح لى بهذه المقارنة وهذا القياس، المقصود بهذه العبارة أنه لا أحد(7) يبدأ من الصفر مهما كان مبدعا، بمعنى أنه يستحيل أن يخرج إبداعٌ من فراغ منفصل عن ما سبقه، لا ينطبق ذلك بالنسبة للنص الأحدث وعلاقته بالنص الأقدم فحسب، بل يمتد إلى أى مجال وأى خبرة ومع أى تفاعل مع أى وعى، بقصد أو بالصدفة، أو بطبيعة مجريات ما يجرى، هذه الفكرة أساسية وهى من ناحية: تربط تاريخ الثقافة بل والحضارة بعضه ببعضه، ومن ناحية أخرى: تجعل الإبداع كله إعادة صياغة مهما بلغت درجة أصالته، وهذه مزية مضافة لأن إعادة الصياغة هى كل الإبداع وما دام الناتج جديد أصيل مهما أعاد فهو إبداع، إذا اقتصر النقد الأدبى على نصوص بذاتها لفحصها والمقارنة بينها، وتمييزها مع بعضها، وعن بعضها، فإن ذلك لا ينفى أن النصوص الأخرى هى أيضا تناص، وإن بعــُدَ الأصل أو اختفى.
من ناحية أخرى فإن القبول بهذه الفكرة جدير بأن يسهم فى إعادة قبول فكرة توحيد أصل البشرية، وليس فقط أصل الإبداع، إلى وحدة أصلية دائمة التجدد والتطور ، بما يحمل احتمال استعادة التوجه الضام بين البشر على اختلاف مشاربهم وألوانهم وأفكارهم ولغاتهم، هكذا تصبح القاعدة أن الأقرب إلى اصالة الإبداع والإسهام فى مسيرة التآلف البشرى، والتكافل الإنسانى ، هو الأكثر استلهاما – دون وعى ظاهر- من أصالة وعطاء النصوص السابقة.
هذا علما بأن التناص الناتج فى الإبداع عموما هو غير قاصر على التناص الكتابى شعرا أو نصا أو رواية وإنما هو يمتد إلى كل إبداع من الفن التشكيلى (أنظر الشكل) إلى المسرح…إلى غير ذلك.
وبما أن شبكية الوعى البشرى هى بهذا التداخل وهذا والتماسك من حيث جذورها وأصلها فى الإبداع فإننا يمكن أن نستلهم أن يكون الإبداع الواعد بإكمال المسيرة إيجابيا هو الإبداع الذى يعترف بهذه الحقيقة فيواصل رحلة التخليق فى كل مجال إلى التوجه الضام المشترك : أمل البشرية، وأصل وظيفة الإبداع إلى الإيمان الممتد.
ثم ننتقل إلى التناص فى العلاج ونقد النص البشرى
كل نص بشرى هو تناص حالة كونه يحافظ على الفطرة بإبداع (إيمان) متجدد
نعنى بالنص البشرى: أى مخلوق خلقه الله، والتناص بين البشر فى مساره التطورى ليس له علاقة بالنقد فهو قائم طول الوقت وهو برنامج تطورى أقدم من البشر (8) ولا يوجد من ينقده أو يطوره إلا خالقه، اما فى حالة خلله أو انحرافه أو تشرذمه وهو ما يسمى مرضا فإن التناص الموجه المسئول يمكن أن يسهم فى استعادة تركيبه وإصلاح ما فسد من الطبيعة البشرية، وهذا هو ما أسميناه “نقد النص البشرى”، وهو محاولة تزكية (تنمية) إلى أصلها لتحتوى جدلا فجورها وتقواها ليتخلق السعى الإبداعى طول الوقت.
ولقد ناقشنا هذه الحقيقة بالتفصيل فيما سبق من نشرات (أو فصول) ونحن ندافع عن نظرية الاستعادة، لكن الجديد هنا والجدير بالمقارنة هو أن فى تعبير “نقد النص البشرى” دعوة ضمنية لتأكيد الكثير من المقولات السابق تقديمها متفرقة ومتباعدة ، مثلا ما ذكرنا من حيث أن الشخصية البشرية هى دائمة النمو “فى الْيَتَكُوَّنْ”، وغير ذلك.
ثم إن الإبداع غير قاصر على الناتج الإبداعى وإنما على تجديد الحياة وإعادة تخليق الذات بنسب بالغة الضآلة لكنها مستمرة مع استمرار الحياة (الإيقاعحيوى السليم).
النص البشرى – كما ذكرنا – هو من إبداع بديع السماوات والأرض وبديع كل شئ، وبالتالى فنقد النص البشرى ليس له أدنى علاقة بأية مقارنة بين ما أبدع بديع السماوات والأرض، وبين فرص النص البشرى فى مواصلة إبداع نفسه، إذ كل ما على الإنسان هو أن يحافظ على جوهر النص الأصلى وغايته إلى بديعه فى ظروف متغيرة وأزمان مختلفة، وذلك من خلال استعياب فرص دوام عطاء الإيقاعحيوى لتجديد النص بما خُلِقَ بِهْ لمِاَ خُلِق لَه، ومن منطلق أن الشخص العادى هو أساسا مبدع طالما ينام ويصحو، ويدهش ويتغير (9)، فإن دورات الاستعادة يمكن اعتبارها ممتدة بامتداد الإيقاعحيوى طول الوقت، فهى دائمة ومتجددة من حيث المبدأ.
إن ما يسمح بقبول هذه الأفكار هو مواصلة امتداد الوعى الفردى إلى الوعى الجمعى إلى الوعى الجماعى إلى الوعى الطبيعى إلى الوعى المطلق إلى الوعى المفتوح النهاية، إنه من منطلق أن كل نص بشرى هو تناص حيوى يتجدد بما يُعمّق ما به من منظومات حيوية إيجابية سواء اتخذت أشكال بعث الحضارات (على مستوى الشعوب) أم تجديد الإيمان على مستوى الأفراد (الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتني وإليه النشور)
وما دام الأصل بهذه الواحدية، وما دام الإبداع هو بهذا الاضطراد الإيقاعحيوى الدائم فإن الخروج عن السواء يتم من خلال فقد الواحدية إلى التشرذم، وتحويل النبض إلى دوائر جامدة مغلقة أولها هو آخرها طول الوقت.
وعلى ذلك فإن امتداد فكرة أن “كل نص بشرى هو تناص”، بما هو: .. “هنا والآن”، يعطى البشر فرصة أكبر، ومسئولية أخطر فى مداوممة إبداع الذات وتعهدها من خلال العلاقات البشرية السوية والتصحيحية (العلاجية)، وكذا مواصلة السعى إلى الدوائر الأوسع فالأوسع من الوعى الصريح والغامض، ودفع دائم إلى المصير الأرقى المحتمل.
العلاج ونقد النص البشرى المريض
فى العلاج يتم التناص بين نص مازال محتفظا بمعالم ما خُلق به وما خُلق له (المفروض يعنى فى المعالج) ونص تعطل أو انحرف أو تشرذم أو تشوه، وتقع المسئولية الأكبر طبعا على هذا النص المتماسك النامى (المعالج)، وخاصة أنه لا يستطيع أن يغير بحق إلا إذا تغير هو بحق إلى ما يمكن كما خلقه الله.
التناص فى النص البشرى العلاجى يبدأ بتحريك الحركية الجدلية الإبداعية بين نصين خالقهما واحد، كلاهما حاضر فى “هنا والآن”، لكن كل نص منهما قد آل إلى ما آل إليه بتحويرات وتغيرات متعددة بقدر حرص وقدرة كل منهما أن يجتمعا عليه وأن يفترقا عليه، إذن فهو تناص لا تصلح فيه المقارنة بين الخالق الأول والمجاهد اللاحق وإنما يتطلب إسهاما من النصين البشريين المتفاعلين المتجادلين فى الآن فى ظروف ملائمة، ولا يقتصر هذا التناص الآنى على نصين فحسب، بل كلما اتسعت دائرة التناص الآنى زاد احتمال العودة إلى الأصل فاضطراد النمو،
وهذا هو ما وصلنى من: “وما سواها” حيث المعنى (حتى المعجمى) = وما نمّاها
[1] – يحيى الرخاوى: “عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية: أحلام فترة النقاهة نجيب محفوظ” دار الشروق 2011
[2] – يحيى الرخاوى: “الموت.. الحلم.. الرؤيا (القبر/ الرحم) “أفيال” فتحى غانم” عدد يوليو 1983 مجلة الإنسان والتطور
[3] – يحيى الرخاوى، “استحالة الممكن، وإمكانية المستحيل، الحنين إلى الرحم: وجدل الآخر (الموضوع)!! فى: يقين العطش: إدوار الخراط (دراسة لم تنشر ورقيا)
[4] – يحيى الرخاوى دراسة نقدية لـ رواية ” “اسم آخر للظل” لـ حسنى حسن (دراسة لم تنشر ورقيا وموجودة بالموقع)
[5] – يحيى الرخاوى: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول- المجلد الخامس – العدد (2) سنة 1985 ص (67 – 91)
[6] – يحيى الرخاوى “جدلية الجنون والإبداع” مجلة فصول، العدد الرابع، 1986
[7] – إلا الله سبحانه وتعالى
[8] – Silvano Arieti: Tertiary processes (1976), Creativity: The Magic Synthesis. Basic Books، New York . (نشرة 17-4-2016)
[9] – يحيى الرخاوى : “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول- المجلد الخامس – العدد (2) سنة 1985 ص (67 – 91