نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 17-4-2016
السنة التاسعة
العدد: 3152
الطبنفسى الإيقاعحيوى (34)
Biorhythmic Psychiatry
البداية من “تناص” الوعى لدى الأحياء قبل الإنسان
إذا أردنا أن نبدأ من البداية، فلا بد أن نتعرف على ماهية “الوعى” فى حدود المستطاع، والمستطاع فى موضوع الوعى بالذات – كما ذكرت أمس- قليل تماما إذا قيس بحجم المشكلة وحاجتنا للسير فى ضوء معرفة كافية.
دعونا نبدأ بأن نسترجع محاولات “دانيال دينيت ” الدؤوب، وهو يقدم لنا “أنواع العقول” (1) بعنوان فرعى “نحو محاولة فهم الوعى” (نشرة: 25- 12- 2007) و(نشرة 2-1-2008) .
وما يهمنى الآن هو التنبيه على تركيزه من البداية : أن لكل نوع من الأحياء – دون استثناء- وعى خاص به يحافظ من خلال نشاطه على بقائه بشكل أو بآخر، وقد أسمى هذا الوعى “عقلا”، فى معظم تناوله للمسألة، ولا اعتراض عندى طالما أنه لم يختص كلمة العقل بهذا العقل المتحذلق فى أعلى مراحل تطور اللغة الرمزية عند الإنسان، وقد انتهى دينيت إلى أن العقل البشرى هو نتاج
(1) الانتقاء الطبيعى
(2) إعادة تصميمه ثقافيا (2)
وهكذا يمكن الانتباه إلى ضرورة مراجعة غرورنا بعقولنا الظاهرة ونحن نتصورها، ونصوِّرها طول الوقت، أنها الأصل، وأن كل ما عداها هو ناتج عن نشاطها، ولكن يبدوا أن الامر ليس كذلك تماما، فما العقل – حسب دينيت – إلا نتاج لعملية التطور والانتقاء.
حين نعرف كيف نشأ العقل سواء تجلَّى فى منطومة إبداعية حركية تسمى الوعى، أم تربع على منظومات مفهومية وصية تسمى العقل الحديث، أقول حين نعرف كيف نشأ العقل من كل من الإنتقاء الطبيعى، ثم إعادة تصميمه ثقافيا، بكل ما تعنى الثقافة من تلاحم جماعى، وتناغم مع البيئة، وتطور وإبداع، لا بد أن نتوقف أمام المقولات الشائعة، ونعيد الظر فى علاقة كل ذلك بحركية الوعى بين الأحياء من نفس النوع، وأيضا مع الأنواع الأخرى، وأن نتساءل: هل ثمَّ “تناص” جرى ويجرى بين مستويات الوعى المختلفة فى النوع الواحد، وكذلك بين وعى نوع من الأحياء ونوع آخر استطاع أن يبقى معه أيضا؟
بل إن مزيدا من التأكيد على دور الإبداع فى البقاء نتيجة لنجاح حواره مع الطبيعة والزمان والمكان والإسهام فى تشكيلهما، حتى مع الطبيعة والإسهام فى تشكيلهما، قفز إلىّ من مقولة “سيلفانو أريتى” فى كتابه “الإبداعية: ذلك الولاف السحرى” Creativity: The magic Synthesis (3)])
فقد جعل أريتى – فى سياق الإبداع – أن آليات وبرامج التعامل البقائى ليست فقط مع أفراد الأحياء من نفس النوع، ولا مع الأنواع الأخرى، ولكن مع دوره فى إبداع وتشكيل الزمان والمكان، وهذا بالغ الأهمية نتعلم منه أن التكيف وإبداع الحياة – لتستمر ويبقى النوع – يحتاج من الكائن الحى بما فى ذلك الإنسان أن يتشكل مع الأزمنة والأمكنة أيضا، الأمر الذى يتعلمه أيضا – كما يقول أريتى: من البيئة الخارجية.، ثم يقول بعد ذلك ” ثم ينقلها التطور من جيل إلى جيل”
هكذا تتواصل العملية الإبداعية حين يمثل هذا التشكيل الإبداعى تلاؤما بين البيئة المحيطة وما تبقى من التركيب الوراثي لقوانا العقلية، إذن فهذا إبداع آخر من إبداعات برامج وآليات التطور، وهو مسئول عن البقاء، ذلك لأنه كما قال أريتى: ” إن أية آلية أو تركيب لم ينجح فى التلاؤم قد فشل أن ينتقل جينيا“، ومن ثم فشل فى مواصلة مسيرة التطور
وحين يصل الأمر إلى أن يكون هذا الانتقال الجينى مشروطا بأن ما ينتقل إلى الأجيال الأحدث هو ما ينجح فى عمليات الإبداع والتكيف، يزداد وعينا بأهمية وأولوية حركية التفاعل بين مستويات الوعى وبعضها، بل وبين مستويات الوعى (التى أسماها دينيت: عقولا) وبين الطبيعة من حولنا بما فى ذلك المشاركة فى تشكيل الزمان والمكان كما أشار أريتى في سياق كلامه عن طبيعة الإبداعية .
وبعد
ما علاقة كل هذا بالتناصّ، وبنقد النص البشرى، وبالطبنفسى التطورى؟
- إذا كانت الأحياء حتى قبل الإنسان لم تبقَ، ولا تستمر، ولا تتطور ولا تبدع إلا من خلال حركية الوعى معا، فكيف بالله عليكم يواصل الإنسان مسيرته بأقل قدر من الانتباه إلى هذا الدور الخلاق لحركية الوعى، وهذا التبادل الإبداعي الواجب الانتباه إلى تزكيته على كل المستويات، فينتهى الحال إلى إرهاصات التدهور والانقراض ومن بينها تجليات معظم هذه الفروض والحقائق فيما يسمى المرض النفسى،… وعلاجه؟
- إذا كان الكائن البشرى هو” نص حيوى” أبدعه بديع السماوات والأرض، وهو مركب من كل مستويات وعى من سبقه على مسيرة من أكرمهم الله بخلقهم وهديهم إلى طريق الحفاظ على طبيعتهم بتبادل الشكيل وإعادة التخليق عبر كل المسويات، فأين نحن الآن (خصوصا الأطباء والمعالجين) من مسئولية تعهد كل ذلك أو بعضه حتى نقدر على مواصلة المضى فى الطريق الصحيح للحفاظ على ما هو “ربى كما خلقتنى”، بعد كل ما جرى ويجرى؟
- إذا كان رب العالمين قد أكرم هذا النص البشرى أكثر من غيره فجاء على “أحسن تقويم”، ثم سلمه الأمانة ليتعهد بقاءه واستمراره ما أجاد حملها، الأمر الذى يتوقف على مدى نجاحه فى الحفاظ على هذا التقويم الأحسن، وكان لزوم ذلك هو استمراره على طريق التطور وتبادل حركية الإبداع مع كل ما يلوح من مستويات الوعى النابضة بإيقاع حيوى خلاق، فما الذى جعلنا نصير إلى هذا المنحرف الهامشى، والتجزيئى، والكمّى المغترب؟ ولحساب من؟ وإلى متى؟
- إذا كان المرض النفسى هو بعض أوجه فشل هذه المسيرة، أليس من المنطقى أن يكون علاجه هو محاولة تصحيح المسار لإنجاحها بكل ما أتيح لنا من أدوات وقدرات؟
- إذا كان السابقون من أولاد عمومتا الذين سبقوا إلى اكتساب مقاليد القوة والحركة، قد توقف أغلبهم عند البحث عن أصل المسيرة ووضعوا فروضا جيدة وصالحة لاحتمالات مفيدة وهادية فى هذا السبيل، ألا يمكن أن نواصل معهم – أو بدونهم – التوجه الصحيح إلى النظر فى المصير انطلاقا من غوصنا فى حركية الوعى بدرجة عملية مباشرة، مما هو متاح من خلال مهنتها ومثلها من مناهل أخرى كثيرة وحقيقية من قنوات الإبداع وتجلياته؟
قيل وكيف كان ذلك ؟
دعونا نتأمل ما جرى ويجرى فى العلاج الجمعى من واقع ثقافتنا الخاصة
وأترك لكم الآن أشكالا بلا تعليق ربما تقوم بمثابة دعوة إلى النظر فى ما لم أستطع كتابته بالألفاظ فى المتن، حتى نعود إليها غدًا ما أمكن ذلك.
[1] – Daniel C. Dennet : “Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness” (1996). الكتاب المترجم صادر عن “المكتبة الأكاديمية” القاهرة 2003
[2] – Denette came to the conclusion that:
Human mind is the outcome of
(1) natural selection + (2) Restructuring by cultural influences
(For me human is but the latest organization of consciousness )
[3] – Silvano Arieti: Tertiary processes (1976), Creativity: The Magic Synthesis. Basic Books، New York
.….. These modes (i.e. the structures of time and space) have to be “learned” by evolution itself from the external environment and then evolution transmits them from generation to generation. The modes happen to fit the world because the hereditary depositories of our mental functions were selected for their evolutionary fitness. Whatever mutation or mental structure did not fit was dropped from genetic transmission.