نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين : 31-10-2016
السنة العاشرة
العدد: 3349
الطبنفسى الإيقاعحيوى (118)
Biorhythmic Psychiatry
الفصام (3)
مغارة الضياع، ووعود الإبداع
كلمة السر لفك شفرة المرض النفسى، وكل الطبنفسى
مقدمة:
رجعت إلى كتابى الأم (3) (1979)، ووجدت أن ما به عن الفصام لا يصلح أن نبدأ منه ولا حتى كمتن قابل للتحديث، ليس لأننى تراجعت عنه أو لأن الممارسة عبر الزمن (ثلث قرن من كتابته) قد أثبتت بعده عن الحقائق التى أحاول أن أواصل تقديمها، وإنما لأن به جرعة من الغموض والتداخل آن الأوان للتخلص منها ما أمكن ذلك، لكن الذى طمأننى هو أننى مازلت أنتمى إلى كل الخطوط العريضة التى وردت فيه، وأن الخبرة المتواصلة فى الفحص والعلاج (خاصة الجمعى وعلاج الوسط) والتدريس، قد أكدت لى سلامة التوجه العام فضلا عن الدعم الذى وصلنى من معارف وفروض وأبحاث أحدث فأحدث – كما قلت فى نهاية نشرة أمس – خاصة فى مجال النيوروبيولوجى للأمراض كافة والفصام خاصة، وبالذات فى النفسمراضية التركيبية..
المنطلقات الأساسية التى لابد من تسجيلها حتى يمكن البدء منها، يمكن ايجازها فيما يلى:
- ما يسمى الفصام هو ظاهرة سلبية مرضية بلا أدنى شك.
- الفصام هو أخطر الظواهر المرضية النفسية، بعد استبعاد الأمراض التشريحية التلفية.
- يمكن من خلال الإلمام بمخاطر ظاهرة الفصام واحتمالات تماديها أن ندرك قيمة، والاضطرار إلى، استعمال كل الدفاعات الممكنة للحيلولة دون تماديها، أو لإيقافها، أو لعكس توجهها.
- تتنوع الدفاعات للقيام بهذه المهمة على مدى بالغ الاتساع لتشمل:
(1) كل الأمراض النفسية الأخرى(2)
(2) كل اضطرابات الشخصية والإنحرافات السلوكية
(3) كل المسارات العادية فى الحياة العادية
(4) كل مستويات الإبداع من أول استمرار إبداع الحياة نموا، حتى أعمق وأصعب الناتج الإبداعى
(5) كثيرا من تصعيدات الوعى إلى التناسق الإيمانى
فإذا كان الأمر كذلك – وهو ما سنبينه أولا بأول – فللفصام بكل سلبياته وخطورته فضل فى أنه يحفز كل هذه الدفاعات ضده، تلك الدفاعات التى أغلبها أمراض نفسية أخف منه وأسهل تناولا، كما أن كثيرا منها هى دفاعات من أرقى ما يمكن أن نأمله فى مدى رؤيتنا البشرية.
يمكن استيعاب هذا التحدى الإشكالى من خلال الخطوات والتوجّهات التالية:
(1) أن نميز بين حركية العملية الفصامية وبين تجليات مرضى الفصام ظاهرا دون أن نفصل بينهما.
(2) أن نتعرف على أصول العملية الفصامية قبل أن تتمادى لتصبح فصامية سلوكية.
(3) أن نعترف بمشروعية كل الدفاعت بمختلف أنواعها بما فى ذلك الأمراض الأقل خطورة والأكثر قابلية للعلاج، دون التسليم بالإبقاء عليها كدفاعات سلبية لمجرد الخوف من التسليم للمسار التدهورى للعملية الفصامية.
(4) أن ننتبه ونحن نحاول التخلص من الأمراض الأقل خطورة، أى ونحن نحاول الاستغناء عن هذه الدفاعات التطورية المتوسطة – بمعنى الشفاء منها – أن ننتبه أن ذلك قد يعرضنا إلى مواجهة خطر ما كانت تدافع ضده، وبالتالى لابد أن نستعد لذلك بالبديل الصحّى القادر على احتواء حركية العملية الفصامية بالأسلوب المناسب لمعادلتها أو توجيهها أو عكسها.
(5) إن ما أسميناه حركية العملية الفصامية هى ليست كذلك منذ البداية، فما هى إلا مضاعفات التمادى فى التفكيك انطلاقا من حركية “المرحلة المفترقية” فى دورات الإيقاعحيوى المستمرة من (نشرة 13-8-2016) إلى (نشرة 21-8-2016)
يترتب على كل ذلك:
(1) إن علينا أن نبحث وراء كل ظاهرة مرضية (أو غيرها) عن ما وراءها من احتمالات دورها الدفاعى فى مواجهة خطر التمادى الفصامى.
(2) أن يجرى العلاج من منطلق النفسمراضية التركيبية واضعين فى الاعتبار طول الوقت وفى كل الأحوال هذه الخلفية التهديدية بما هو عملية فصامية محتملة.
(3) يتطلب ذلك (رقم 2) استعمال كل الوسائل – بما فى ذلك العقاقير الانتقائية تصاعديا – بطريقة تكاملية قد تغنينا عن اللجوء إلى الدفاعات السلبية.
(4) أن نحترم المراحل الأولى للتفكيك حتى لا تضطر الدفاعات الأقل خطورة إلى المبادرة بالإفراط فى قمعها لدرجة ظهورها كأمراض بديلة جسيمة.
الفصام: من وجهة منظور الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى:
الطبنفسى الايقاعحيوى يبدأ فى استيعاب الظاهرة المرضية بالاستماع إلى معنى الأعراض فالأمراض، وهو ما يشار إليه عادة بـ “غائية المرض”، وانطلاقا من ذلك يبدأ قبول أية ايجابيات نفسمراضية بررت ظهور المرض، ويتبنى احترامها، ثم يبادر بالبحث عن بديل صحى لتحقيقها أغراضها دون التمادى فى المسار المرضى حتى نهايته أو حتى طريق اللاعودة .
وبالنسبة للفصام فإن غائيته الأولى تعلن أنه حركة تدهورية تهدف إلى النكوص والتفكك فى نهاية النهاية، وهذا هدف لا يمكن التجاوب معه ولا تحقيقه بأية وسيلة علاجية أو حيلة غائية، ولذلك علينا أن نكمل القراءة فنستمع للفصام وهو يقول: “أنا إعلان لجاهزية البديل التدهورى النكوصى ما لم تقبلوا التفكك مَرْحلةً (طورا عاديا) وتستوعبوه فى حركية الجدل الممكنة دون إنكاره من البداية، أو استنكاره وقمعه على طول الخط، لحساب الاغتراب والجمود”.
ولتسهيل المهمة نقول إنه إذا كان للموت هدف فلا عجب أن يكون للفصام غاية .. وهدف الفصام هو النكوص – باللغة الشائعة – وقد أكد عليه سيلفانو أريتى(1) تحت عنوان النكوص الغائى المتزايد Progressive Teleological regression, وقد أفاض شولمان Shulman فى تفسير أهداف أعراض الفصامى: ما بين تسهيل الانسحاب إلى تشويه المجتمع إلى تدعيم المنطق الخاص والموقف الخاص وغير ذلك.
ولعل الفصامى بنكوصه وتوقفه وتفسخه يحقق هدفين معا:
الأول: هدف خاص، وهو أن يحافظ على حياة المريض الجسمية على أى مستوى، بالتراجع إلى مستوى بدائى هربا من جرعة غير مناسبة من التعامل البشرى المغترب القائم، أو عجزا عن قفزة غير محسوبة تناسبا مع الكفاءة التطورية المتاحة، إذا فانه بالرغم من النتيجة السلبية التى ينتهى إليها، فإنه يحمل ضمنا احتمال الانطلاق من جديد ليعاود المحاولة … ما دامت الحياة العضوية باقية.
الثانى: هو هدف عام (تطورىّ)، إذ أن الفصامى يعلن بتفسخه وتوقفه حقيقة قوة التدهور القابعة داخل التركيب البشرى، فيثير القوى التطورية المضادة لما أعلنه وهدَّدَ به، فى بقية أعضاء المسيرة البشرية، وهو بهذا يكاد يقوم بنفس دور الفنان الذى يعرى الحقيقة الموقظة المفزعة أحيانا، حفزا للتقدم.
فالفصام تراجع وتوقف فاشل، ولكنه يحمل معنى التحدى الذى يحفز الأمل بشكل غير مباشر … طالما الحياة مستمرة، فهو صرخة لمن يحاول الاستمرار حتى لا يُغفل حجم القوى المضادة.
ترتيبات الدفاع المتوالية:
يهمنى فى هذه المرحلة الباكرة، وحتى أعود لتقديم (أو إعادة تقديم) أطروحة: الوحدة والتعدد فى الامراض النفسية، أن أبين أن الأمراض المختلفة تتدرج فى دورها الدفاعى ضد الفصام، بمعنى أن المرض الأخطر يقفز للدفاع ضد الأكثر خطرا، فالعصاب قد يكون دفاعا ضد الاكتئاب، والاكتئاب قد يظهر دفاعا ضد حالات البارانويا، وهذه الأخيرة قد تقوم بدور دفاعى ضد ظهور الفصام صريحا، وهكذا، وطبعا المسألة لا تسير بهذا الترتيب تحديدا فى كل الحالات، ولكننى كتبت هذه الملاحظة حتى لا نظن أن كل الأمراض تدافع عن خطورة الفصام فحسب، ولعل هذا الشكل يوضح تشكيلات الدفاعات المتاحة دون التزام بترتيب معين!
لابد من التأكيد على أن كلمة “دفاع” هنا لا تفيد معنى ميكانزمات الدفاع Defensive Mechanisms كما ترد فى لغلة التحليل النفسى، (مثل الإسقاط أو الكبت..الخ) وإنما هى تشير إلى برامج بقائية يدافع بها الكائن الحى عن بقائه فردا، وعن استمراره نوعاً، وبالتالى فهى أكثر غورا وأعمق دلالة، وكل ظاهرة من الظواهر التى أطلقنا عليها أنها دفاع ضد ما هو أخطر كانت ضرورية وناجحة فى مرحلة تطور بذاتها عبر التاريخ الفيلوجينى (تطور النوع) ثم التاريخ الأنتوجينى (نمو الفرد) فنحن حين نحترم هذه الآليات قبل أن تتجلى فى صورة مرضية صريحة معيقة إنما نساير ونستوعب التاريخ الحيوى، بالإضافة إلا أن المخ فى دوراته الإيقاعحيوية المستمرة لإعادة البناء إنما يكرر المرور بهذه الدفاعات وتنشيطها فى أزمنة شديدة القصر، ليكمل بها ومعها مسيرة النمو.
[1] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” لن أكرر بعد ذلك إلا السنة 1979، وهذا التوصيف “الكتاب الأم”.
[2] – عدا الاستثناء للتلف العضوى التشريجى السالف الذكر الذى لن تكرره بعد ذلك.
[3] – كتاب تفسير الفصام لسيلفانوا أريتى Silvano Ariti (1974) “Interpretation of schizophrenia”
– كتاب مقالات فى الفصام H. Shulman (1968) Essays in schizophrenia