نشرة الإنسان والتطور
نشرة الأثنين: 24-4-2017
السنة العاشرة
العدد: 3523
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (189)
الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع
أنواع الفصام (3)
المقدمة
بصراحة، أشعر بضيق شديد وأنا أواصل الكتابة بهذه الطريقة الملتزمة بالسائد والثابت، ولولا تقديرى للغة الزملاء الأكثر ترديدا، ولولا حرصى على ربط فروضى بما ساد واستقر، لاعتذرت عن مواصلة هذا الالتزام هكذا.
وعموما فقد لاحظت فى نشرتىْ أمس وقبل الأمس أننى لا أستطيع أن أوقف نفسى عن العروج إلى الإشارة لوضع كل نوع من هذه الأنواع التقليدية فى موقعه على المسار النفسمراضى الإيقاعحيوى مما يضعنا فورا وقبل الأوان فى المرحلة الثانية لتقديم أنواع من منظور نفسمراضى دون تمهيد أو استئذان، والظاهر أننى انتهزت فرصة ندرة المتابعين – وهو أمر متوقع – وتماديت فى الكتابة وكأنى أخطط مسودة قابلة للتحرير عند نهايتها.
اليوم سوف أقدم أشهر أنواع الفصام وهو الفصام البارنوى:
(3) الفصام البارنوى
يتميز هذا النوع بوجود ضلالات بشكل ظاهر تصاحبها عادة - وليس دائما- هلاوس متسقة معها غالبا، وذلك بالإضافة إلى أعراض الجوهرى للفكر، وهى درجة قليلة أو متوسطة من الاضطراب، كما قد توجد درجة متوسطة أيضا من انسحاب العواطف دون التمادى إلى درجة التسطيح أو اللامبالاة، لكن الأغلب أن تنزاح طاقة العواطف إلى شحن المنظومة أو المنظومات الضلالية وتصبح الانفعالات مُوَظَّـفة لدعم هذه المنظومة بطاقة استمرارها وتبريرها (دون قصد واع ظاهر طبعا)، وقد تكون الضلالات من أى نوع إلا أن الأغلب فى هذا النوع من الفصام هى ضلالات الاضطهاد وأحيانا العظمة، وقد يصاحبها ميل مرضى إلى فرط التدين، ونادرا (فى مجتمعاتنا، رَفْض التدين)، وقد يتخذ المريض موقف العدوان الصريح، ولكنه عادة يكون عدوانا انتقاميا من قوى الاضطهاد (الضلالية) أو ثأرا من قوى القهر (الضلالية أيضا).
هذا، وتتفق أغلب تصرفات المريض مع محتويات ضلالاته، ولكن ليس بتلازم حتمى مثلما يحدث فى حالات البارانويا، ولا تتدهور شخصية المريض بشكل واضح مثلما يحدث فى أنواع الفصام الأخرى سواء المتفسخ منها أو المتدهور.
على أن مجرد وجود الضلالات والهلاوس لا تكفى لتشخيص الفصام من هذا النوع ولا بد من وجود نسبة مناسبة دالة على درجة ولو قليلة من التفسخ مثل اضطراب عملية التفكير (الاضطراب الجوهرى فى التفكير) أو أية مظاهر تفسخية أو تفككية أخرى مثل تباين العواطف مع التفكير Incongruity..،
وقد يبدأ هذا النوع بظهور ضلالات أولية (أنظر نشرات أنواع الضلال: نشرة 7-4-2014 ونشرة 13-4-2014 ونشرة 14-4-2014 ونشرة 20-4-2014)، ثم يتطور المرض حثيثا بعد ذلك بالضلالات الثانوية والتفسيرية للفكرة الأولى أو الإدراك الضلالى الاول.
وقد لوحظ من قديم أن شخصية المريض قبل ظهور المرض فى هذا النوع من الفصام تكون من النوع النوابى الدورى (أو كما يسميها صلاح جاهين: الفرحانقباضية)، وليس النوع الانطوائى الشيزيدى كما هو الحال فى سائر أنواع الفصام، حتى ذهب “ماير جروس” (1) من قديم إلى افتراض أن هذا النوع الذى يعتبر أقل تفسخا هو كذلك بسبب تأثير نوع هذه الشخصية على الصورة الإكلينيكية للفصام.
من واقع الخبرة والمراجعة
حين كنا ندرس باكرا التفرقة بين حالات البارانويا خصوصا البارانويا المتأخرة والمسماة آنذاك بارافرنيبا Paraphrenia، كان التركيز على عدم وجود هلاوس مصاحبة، وأنه مع مرور الزمن قد تظهر الهلاوس لاحقا، وحينذاك ينتقل التشخيص من البارافرنيبا إلى الفصام البارنوى، ولم أقتنع بذلك أبدا، وحين قرأت “لهنرى آى” تكافؤ ما هو “هلاوس” مع ما هو “ضلال” من منطلق تكوين الأعراض أطمأننت إلى مقاومتى البدئية، حتى ظهرت التصنيفات الأحدث التى تكاد تساوى بين الهلاوس والضلالات، ولا تشترط اختفاء الهلاوس فى حالات البارانويا.
ملاحظات عن هذا النوع فى ثقافتنا الخاصة المعاصرة:
أولاً:
كثيرا ما يتأخر تشخيص هذا النوع فى ثقافتنا الخاصة حين تتفق الضلالات مع بعض المعتقدات الثقافية السائدة، مثل أن يعزى الاضطهاد إلى “عمل” (كتابة حتى قام به شخص كاره)، أو زوجة مطلقة أو خصم محدد، وفى هذه الحالة يستمر المريض مع أنكاره مدة أطول قبل اللجوء إلى الاستشارة حتى تتفاقم حالته.
ثانيا:
كثيرا أيضا ما يصدِّق محتوى الضلالات شخص قريب على علاقة عاطفية وثيقة بالمريض، وقد تكرر فى خبرتى موقف الأم بالذات التى تأتى بابنها، وحين سؤاله هو عن شكواه، تنبرى الأم وتقول إن الشكوى هى أن رئيسه فى العمل يضطهده، ويمارس الضغوط عليه، ويميز زملاءه عنه دون وجه حق…الخ، وحين أستدير لأسأل الإبن قد يكتفى بما قالته أمه، وحين أعود لأسألها ما دور الطب النفسى فى هذه المشاكل الوظيفية ، تقول إن ابنها لم يعد ينام ، أو أنه اصيب بالاكتئاب من فرط شعوره بالظلم، ..إلخ، وحين أعود إليه أجده يوافق على كلامها أيضا، حتى يرجح عندى احتمال “تشخيص فارقى” من نوع الجنون المشارك Conataminated Insanity وهو نوع لا ينتمى عادة للفصام، لكن إذا ما صاحب كل ذلك درجة أو درجات من التفكك سواء فى الوظائف (وخصوصا درجة من الاضطراب الجوهرى فى الفكر)، أو بين الوظائف (درجة من لا توافق العاطفة مع الأفكار) فإن تشخيص الفصام البارنوى يقترب أكثر فأكثر
وقد يتكرر مثل هذا فى مواقف كثيرة فى ثقافتنا، مثلا: حين تصديق الأم أيضا لضلالات الخيانة الزوجية التى تكون جزءا من الأعراض المرضية لابنها، بما يحمل وراءها من تاريخ غير مريح بين الزوجة وحماتها وهكذا.
ثالثا:
قد تتأخر ملاحظة شذوذ محتوى التفكير فى بعض الحالات التى تتولى منصبا قياديا خطيرا (جدا)، وبالتالى لا يجرؤ أحد على مراجعة محتوى معتقداته مهما بلغ شذوذها، وقد يصل الأمر إلى ابتداع نظريات اجتماعية أو سياسية بالغة الغرابة، وتسرى بين الأتباع ويصدقونها لأسباب مختلفة، وقد لا يحدث تشخيص مثل هذه الحالات إلا بأثر رجعى بعد تخلى مثل هذا الشخص عن السلطة أو انتزاعها منه، وإعادة النظر فى معظم محتويات فكره التى حكم بها فترة حكمه.
هذا علما بأن مثل هذا الاحتمال ليس قاصرا على ثقافتنا العربية، ويوجد فى التاريخ عدد ليس قليلا من القادة والحكام (والقتلة والسفاحين) الذين تم تشخيصهم بأثر رجعى، وإن كان ذلك قد يكون غير جائز علميا لأسباب مختلفة.
وبعد
أتوقف اليوم، ولو أننى كنت أود لو ضممت نوعا آخر أقرب إلى هذا النوع منه إلى الفصام الهيبفرينى، وهو الفصام “المزمن غير المتميز” حيث يقف بينهما تماما، لكننى فضلت أن أقدمه مع نوع آخر، تقليدىّ أيضا هو الفصام الوجدانى، لأسباب سوف أذكرها لاحقا بدءا من الأسبوع القادم.
[1] – هذا هو المرجع الرئيسى الذى كنت أعد منه التحضير لدرجة الماجستير حوالى 1959 ولم أعثر عليه تحديدا الآن حتى أثبته.