نشرة الأحد : 9-4-2017
السنة العاشرة
العدد: 3508
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (182)
الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع
مسيرة الفصام :
النفسمراضية (السيكوباثولوجية) (7)
مراحل التفكيك وتماديه
مقدمة:
بعد إعلان البداية، ومع تطور عملية المسار على الطريق الفصامى إلى احتمال المآل الفصامى، يتمادى التفكيك بين الكيانات، تدريجيا، وأحيانا بسرعة حادة، وأحسب من الأفضل أن نواكب المسار التدريجى حتى تتضح المراحل النفسمراضيا بشكل أفضل.
(1) مرحلة التعتعة Dislodgement:
سبق أن ذكرنا أن هذه المرحلة تكاد تكون طبيعية وأساسية فى مسيرة النمو كخطوة أولى نحو إعادة هضم الكيانات المنطبعة التى لم يتم استيعابها فى مراحل النبض السابقة للإسهام فى النمو، والتعتعة هنا لاتختلف كثيرا عن التعتعة على مسار النضج، إلا أنها لا تتوجه فى اتجاه، إعادة التشكيل إذا كان المسار سيتواصل على طريق الفصام، وذلك تحت تأثير العوامل السالفة الذكر (الوراثة المستهدفة – الاستعداد السلبى – المحيط غير الملائم) بل تحل الخطوة التفكيكية التالية محل التعتعة لتتمادى مسيرة الفصام.
وقبل أن ننتقل إلى الخطوة التالية يستحسن أن نربط – للإيضاح- بين هذه العملية (التعتعة) وعملية مقابلة كثيرا ما تحدث بقصد علاجى ونسميها: ”فض التلوث” Decontamination وهى تحدث بالنسبة للكيانات الملوِّثة بعضها لبعضها لدرجة السكون المتجمد الذى يتجلى أكثر فى صورة اضطرابات الشخصية النمطية خاصة، حيث أن تداخل الكيانات فى بعضها فى هذه الزملات يكون شديدا وخفيا، وكذلك ثابتا متجمدا: بحيث يعوّق التعتعة النمائية التلقائية، وبالتالى فهو يحتاج إلى تدخل أكثر نشاطا وتنشيطا فى حالة العلاج، وفى خبرتى قبل ممارستى للعلاج الجمعى كنت ألاحظ أن المريض السيكوباتى إذا مر بخبرة ذهانية بدرجة ما فإن فرصته فى الشفاء (إعادة التشكيل إيجابيا) تتجدد حتى يمكن أن يتخلص من السلوك السيكوباتى الذى سُجِنَ فيه، وبعد ممارستى العلاج النفسى الجمعى المكثف بدأ ما يدعم هذه الفروض وكأنه جزء لا يتجزآ من خطوات العلاج إذا لزم الأمر، مما جعلنى أطلق عليه اسم علاج “إحياء الولاف النموي” “Reactivation of growth synthesis” (1)، وقد قرأت فيما بعد أن هذه الخبرة تسمى أحيانا الجنون المصغر mini-psychosis ونحن نرحب بهذه الخبرة ونسعى لها أثناء العلاج الجمعى بعد الإعداد المناسب، والضغط المتدرج حتى يدخل أحدهم إلى ما يسمى المأزق العلاجى Therapeutic Impasse الذى إذا نجح فى استيعابه فإن النقلة النمائية النوعية تصبح أقرب إلى التحقيق .
(2) مرحلة التباعد النسبى (2) Relative Spacing
وهى المرحلة التالية لمرحلة التعتعة والتى تكاد إذا انتقلنا إليها بسرعة تبدو وكأنها تحل محلها مباشرة، وهى تعنى مزيدا من التباعد بين الكيانات وخاصة الكيانين الأساسين، وتتصف هذه المرحلة عامة بظاهرة الثنائية (ثنائية الوجدان، وثنائية الميول، وثنائية الأفكار.. وهكذا) Ambivalence, Ambitendency & Ambithoughts, etc إلا أنى فى خبرتى الكلينيكية – كما ذكرت- لم أجد أن تعبير “ثنائية” Ambi يكفى لوصف المشكلة التركيبية، ومن ثم الدينامية ومن ثم الكلينيكية، فالأهم فى هذه المرحلة هو تقارب تساوى الشحنات فوق الكيانات المتباعدة وهو ماأسميته تساوى التكافؤ Equivalence ووجدته اسما أدق تركيبيا لوصف الاحتمال الجارى، والتنافس المذَبْذَب المعطِّل.
(3) مرحلة الملخ (3) استقلال نسبى للكيانات عن بعضها: وهى درجة أكبر من التباعد، وتعلن عادة بما يشبه الحوار بين الكيانات، ويظهر ذلك فى شكل الأفكار المسموعة، ثم الأصوات والتأثيرات والأوامر الداخلية، ثم الإسقاط (فى صورة هلاوس وضلالات خارجية) إذا استمر التصعيد.
وهذه المرحلة تصف خبرة معيشة بالإضافة إلى درجة محدودة من الإسقاط، وهى تقابل كلينيكيا مايفسر بعض أعراض الصف الأول لشنايدر Schneider’,s First Rank Symptoms وخاصة “الهلوسية” منها, علما بأن هذه الأعراض – كما سبقت الإشارة - لم تعد تعتبر خاصة بالفصام من ناحية، وهى مازالت أكثر تواترا فى الفصام المبكر (المراحل الأولى) عنها فى الفصام المستتب المتدهور.., وتفسير ذلك أن الكيانات كلها تتباعد تماما فى المراحل الأخيرة، وقد يضمر ما بينها فلا يعود من الممكن أن يخاطب أو يحاور أحدهما الآخر بأى درجة،الأمر الذى أغلب أعراض “شنايدر” التى تظهر فى المراحل الأولى للمسيرة الفصامية معلنة حجم المسافة من جهة، ودرجة متواضعة من بصيرة خاصة يمكن الاستفادة منها فى العلاج المكثف فى هذه المرحلة.
أعراض شنايدر:
تتميز أعراض شنايدر للصف الأول المميزة لهذه المرحلة (الضلالية) بالمواصفات التالية:
(1) أنها ليست مُسقطة تماما بحيث يعبر عنها أحيانا بالصوت الداخلى Inner voice أو بالأفكار المسموعة Audible thoughts أكثر مما توصف بالهلوسة وفى ذلك إعلان أن كيانا يَسْمَعُ كيانا آخر، أو أن آخر يأمر، وغيره، أو يعقّب عليه وهكذا.
(2) فهى تشير إلى حضور أكثر من كيانين فى وساد واحد وخاصة أن الأصوات المسموعة قد لا تُخاطب المريض مباشرة بل قد تتناقش مع بعضها البعض فى أمره (أصوات تتناقش) Voices arguing أو تعقّب على أفعاله مع بعضها البعض أو مباشرة له Voices commenting والتفسير المباشر هنا أن التباعد والتفكك بين أكثر من كيان (4) ، قد حدث، وأن كيانا واحدا يستقبل أكثر من كيان، أو أن كيانا يفعل الفعل وآخر يلاحقه، وكل هذا من أدلة استقبال كيان آخر “مباشرة” كخبرة معيشة.
(3) أن بعضها عادة ما يشير إلى تحكم أو توجيه خارجى، مثل أن يشعر المريض بأن حركة يده صادرة من مصدر خارجى volitional acts Made، أو أن شعورا بالفرح مقحم عليه …إلخMade Feelings وهذا يدل أيضا على الداخل على تأثير الوساد الشعورى الظاهر (5): أما “الادراك الضلالي” Delusional Perception فإنه يشير إلى استقبال لمثير حسى بمعنى معين استقبالا خاطئا، لكن بيقين جازم لا يفسره إلا أن كيانا يستقبل، وآخر يُترجم المُدرك بعاطفته ويقينه إلى منظومته.
……….
……….
وغدًا نكمل مراحل المسيرة وهى تنتقل إلى التفسخ فالخفوت والانطفاء، فالضمور.
[1] – يحيى الرخاوى ، مقدمة فى العلاج الجمعى ، دار الغد للثقافة والنشر، 1978
[2] – أدخلت تعديلات وتصحيحات ضرورية ليست قليلة على ترتيب وتسمية المراحل كما جاءت فى الكتاب الأم (دراسة فى علم السيكوباثولوجى) فلزم التنويه.
[3] – اخترت كلمة “الملخ” لتشير إلى درجة أكبر من تباعد الكيانات بعد التعتعه، وأصل الكلمة يشير إلى الفصل والمباعدة معا، جاء فى الأساس (الزمخشرى) “.. امتلخ اللحام من رأس الدابة..، وامتلخ السيف من غمده..” وقد استعمل مجازا فى هذا السبيل يقول الأساس أيضا: “… ومن المجاز: هو ممتلخ العقل” وأقرب كلمة فى الانجليزية إلى المعنى هو Dislocation وإن كانت نادرة الاستعمال فى لغة الطب النفسى والسيكوباثولوجى (وهى تستعمل فى لغة طب وجراحة الفصام أكثر) ولكن ينبغى البدء فى اعتبارها.
[4] – الآن – نيوروبيولوجيا – يمكن التحدث عن هذا الكيان باعتباره منظومة وعى أخرى أو تنشيط مخ آخر فى نفس الوقت.
[5] - لعل من أقرب ما يكون إلى هذه الظاهرة ما وصفناه فى نشرة أمس وهى التى اسماها كليرامبو Clearambault اللآلية العقلية Automatisme Mental حيث يصدر من المريض ويشعر بحركات وأحاسيس ويكاد ينطق بأصوات لايدري كيف، وهو لايقاومها بالمعني الوسواسي ولكنه يتحدث عنها ويشكو منها، وللأسف الشديد فقد بطل استعمال هذه الزملة باعتبارها وسوسوة عصابية من ناحية، أو باعتبارها أعراض سلبية فصامية من ناحية أخرى، مع أن لها استقلالها عن هذا وذاك، حيث أنها خبرة معيشة أكثر منها فكر معلقن، ويبدو أن الطب النفسي الحديث يتجنب أكثر وأكثر مواجهة مثل هذه الخبرات وتسميتها باسمهما الأكثر دقة.