نشرة الإنسان والتطور
نشرة السبت: 8-4-2017
السنة العاشرة
العدد: 3507
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (181)
الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع
مسيرة الفصام:
النفسمراضية (السيكوباثولوجية) (6)
ذكرنا فى النشرة السابقة (الأثنين) أهمية النظر بدقة فى هذه التغيرات الطفيفة التى يمكن أن تعطى فرصة حقيقية للإسراع بالتدخل الإيجابى لتحويل المسار، وبرغم أن ما بدا: كيف أن رصْد بداية البداية هو أمر يشوبه الغموض: إلا أن الوعى بأهميته مع الخبرة الإكلينيكية هما السبيل إلى الاستفادة من هذه الملاحظة المبكرة.
وقد أوردنا فى نفس النشرة إشارة إلى ما شرحناه بأوصاف غير مألوفة مثل “الفجائية المستترة” والتغيرات الكيفية” و”البدايات الإيجابية المُنْذِرَة” وكل ذلك لا يُحَدَّدُ بتعريفات لفظية بقدر ما يمكن الاستهداء إليه بفنية الممارسة الكلينيكية الدقيقة التى نأمل أن تؤدى فى الوقت المناسب إلى التوجه إلى المسارات الإيجابية دون السلبية، انطلاقا من المرحلة المفترقية.
وأخيرا فقد حذرنا فى النشرة السابقة ايضا من أن ادعاء المريض “أنه يتصنع” هو أوْلى بالترجمة إلى: أنه يعرف بوعيه الأعمق بدوره فى اختيار المرض سيكوباثولوجيا، وما يتبع ذلك من شعور أعمق بمسئوليته عن النتائج السلبية لهذا الاختيار، مما يفسر أيضا إعلان بعض المرضى، ولوعرضا، نوعاً خاصا من الشعور بالذنب.
ونواصل اليوم فى نفس المرحلة “مرحلة البداية”: .
(ج) احتمال تذبذب البداية، وكأن المريض تراجـَعَ عن قرار المرض:
Fluctuation of the onset that seems like a trial to reconsider the pathological decision
يلاحظ أيضا فى هذه المرحلة أيضا أن المريض قد يكرر باصرار أنه “يريد أن يعود كما كان”, وأنه قد يشكو أنه لم يعد يُحب أو يكره مثل “زمان”, وأنه: ياليته يرجع إلى سابق عهده، إلا أن هذا التكرار الملح قد يحمل معنى أعمق عند التحليل المتأنى الأعمق، وهو أنه يريد أن يطمئن إلى أنه لن يرجع كما كان، أى أنه يريد أن يطمئن إلى أنه قد حرق كل مراكبه بمجرد أن تجرأ وأخذ قرارا رفَضَ ”ما كان” فيه: “أيًّا كان”..!!
وقد يحدث أحيانا حين يشكو المريض من أنه لايحس بأى مشاعر (لايحب ولايكره ولايحزن ولايفرح) أن يتطور النقاش مع الفاحص الفاهم الماهر فيسأله : وهل كان يحب أو يكره أو يفرح أو يحزن “زمان” (أى قبل هذه البداية) , فلا يجيب المريض بالإيجاب دائما، وإنما يرجح أن يقول “أهه والسلام”, أو “مثلى مثل الناس”, أو “كانت ماشية”, وكأنه فى موقعه الجديد هذا يرفض أن يدرك سطحية العواطف التى كانت غالبة، والتى كسَرَهاـ أو حاول أن يكسرها، بحثا عن بديل ، ففقد ما هو موجود قبل أن يجد البديل، والفاحص السطحى عادة ما يأخذ هذه الظاهرة على أنها من قبيل عرَض “اللامبالاة” أو “فقد الشعور” إلا أن العـُمق الكلينيكى ينبغى أن يدرك ويميز بين “فقد الشعور” وبين ”الشعور بفقد الشعور” الذى قد يشير إلى الحاجة إلى “ممارسة شعور أعمق” أو “شعور آخر”.
(ء) الرِّضا السرىّ The secret content : وفى هذه المرحلة قد يبدو المريض للفاحص المتأنى وكأنه قد وصل إلى غايته بشكل ما، فعلى الرغم من شكواه وربكته الظاهرية فإن استقراره الداخلى وإصراره الفعلى على ماهو فيه (ما حققه بالحل المرضى) ، إنما يشير هذا وذاك إلى نوع من الارتياح لِمَا وصل إليه، ولاينبغى مواجهة المريض فى هذه المرحلة بالسؤال عن مثل هذه الراحة وإلا تصور أنه نوع من الاتهام، بل ينبغى أن يجرى البحث عن معالم هذه الراحة فى تصرفاته ومن خلال مشاركته مشاعره الأعمق، وتفسيرها لصالح احترام اختياره، دون احترام ما يمكن أن يؤدى إليه المسار المرضى لهذا الاختيار إذا ما تمادى.
(هـ) الربكة Perplexity: عادة ما يصاحب هذه المرحلة مشاعر ربكة واضحة، وقد يشكو المريض منها مباشرة، أو قد تبدو على تصرفاته، وأحيانا لا يشكو المريض من شعوره بالربكة بشكل مباشر، بقدر ما يلاحظها الفاحص ويكتشفها من تغييرات الوجه، والإجابات الغامضة أو المتضاربة.
(و) وقد يبدو المريض فى البداية وكأنه فى حالة “شبه حالمِة” Oneroid وقد يقرر هو ذلك بنفسه بقوله “كأنى فى حلم”، وإذا طالت البداية بهذا الوضع، لعدّة لأسابيع أو أحيانا شهور، فإنها قد تستحق وصف زملة مستقلة تسمى “الذهان الحُلْمِى Onerophrenia الذى قد يزول بإجهاض هذه البداية التى طالت، أو قد يتطور إلى الفصام ولو بعد مدّة (أو إلى أى ذهان آخر)
(ز) فى أحيان أخرى تصاحب هذه البدايات حالة يقين خاصّ سرعان ما يدل على ما وراه من تكوين سريع للمعتقدات التفسيرية الضلالية المبدئية وتسمى هذه المرحلة (تبعا لأريتى Arieti) Psychotic Insight ، أى “البصيرة الضلالية”، وهو اسم مُلْغِز كما يبدو ، لأنه لا يدل على أى بصيرة حقيقية، بل على العكس، فهو يعلن وصول المريض – فجأة عادة – إلى تفسيرات شاملة متكاملة لما هو فيه (أو لما بدأت به الحالة) وهو وصول منحرف خطير إذْ يعلن انتظام منظومة ضلالية متماسكة يمكن أن يعزو إليها المريض كل ما طرأ عليه من تغيرات لم يكن يجد لها مبررا أو تفسير فى المرحلة السابقة مباشرة، وقد لا يعلنها المريض صراحة خشية اهتزازها وهى ما زالت فى البداية.
(حـ) الشعور بتغير الذات: Depersonalization : وهو شعور موجود فى بديات كثير من الذهانات وخاصة الوجدانية ، وقد يصبح معقلنا إذا سارت الحالة إلى اتجاه تكوين حالة الوسواس القهرى الاجترارى، بدلا من أن يتمادى إلى أى ذهان، وإن كان الشعور هنا بهذا التغير قد يتميز بمصاحبته بهذه الراحة الخفية أكثر من مصاحبته بالانزعاج والدهشة كما فى الاكتئاب أو الوسواس القهرى، كما أن تغير الذات هنا قد يشمل الشعور “بذاتين معا” أكثر من الشعور بأن الذات السابقة هى هى، ولكنها تغيرت، وكل هذا مختلف عن حالات الانشقاق العصابى (الهستيرى) الذى تظهر فيه الذات الأخرى عادة بالتبادل، وعلى مستوى صناعة الخيال المعقلن لا معايشة الواقع الداخلى المتحرك.
(ط) الشعور التجزيئى للجسد واستقلال بعض أجزائه: وقد يشعر المريض فى هذه المرحلة أيضا بجسمه “بشكل مختلف” فيعبر عن ذلك مباشرة، أو بتعبيرات دالة على عدم التحكم الكامل فى أعضائه مثل “عينى بتبص بعيد علىَّ” …. “حاسس إن إيدى ممكن تتحرك وحدها”, “زى ما يكون إيدى منفصلة عن كتفي”..الخ وإذا طالت هذه المرحلة فقد تستحق اسما مستقلا وهو “الأتونومية العقلية” Automatism Mental (1) ومعظم دلالات هذه البدايات إنما تشير إلى حضور كيانين معا فى الوساد الشعورى الأقرب إلى الظاهر.
هذا، و إذا استمرت هذه البدايات مدة كافية دون الاندفاع إلى مرحلة أخطر فإنه يطلق عليها عادة “الفصام الاستهلالي”Schizophrenia Incipient (أنظر بعد إلى أنواع الفصام)، ويتم ترجيح أن هذه البدايات هى أرجح أن تكون بداية فصام ، وبالتالى تستحق التسمية بالفصام الاستهلالى، إذا ما توفرت معلومات مساعدة مثل ما يلى:
(أ) إذا كان فى العائلة تاريخ إيجابى للفصام وخاصة من النوع المتدهور.
(ب) إذا كان فى العائلة تاريخ إيجابى لأى ذهان آخر، خصوصا إذا كان معاوِدًا.
(جـ) إذا كانت الشخصية قبل المرض تعانى من نقص (أو سوء) تغذية بيولوجية مزمن (الشخصية الشيزيدية أو العاصفية أو المهمَلة أو المجزّءة …سبق الكلام عنها الخ)
(د) إذا كانت علامات الرضا السرى واضحة لدرجة تلغى احتمال معايشة الوجدانات الحية التواصلية.
(هـ) إذا كان تغير الذات هو حضور “ثنائى” (أو أكثر) وليس فقط تغير نوعى فى الذات القائمة، شريطة ألا يكون هذا الحضور الثنائى نوعا من الانشقاق السطحى الأكثر تواترا فى عصاب الانشقاق الهستيرى (كما ذكرنا)
(و) إذا كانت الربكة البادئة تحمل قدرا أكبر من التذبذب والتردد الحاد, أى أنها لا تمثل صعوبة فى اتخاذ القرار بقدر ما تمثل تنقلا سريعا ومتكافئا بين قرارين، مما يشير إلى شلل الإرادة بدرجة جسيمة
(ز) إذا كان الشعور الجسدى التجزيئى غريبا وشاذا ومستمرا. مشيرا إلى تغير جسيم طارئ فى صورة (أو مخطط) الذات أو الجسد أو كليهما.
وبعد
يبدو أن هذه البداية التفككية بين كيانين أساسا (ثم أكثر فيما بعد) هى المبرر لاسم المرض الذى أطلقه “بلويلر” Beluler على الفصام باعتبار أنه انشطار العقل .. (Split-mind (Schiz=phrenia, ومع ظهور فكرة تعدد الكيانات ومقابلاتها العصبية كتركيبات متصلة ومنسقة ومتعاونة، أصبحت كلمة الانشطار أقل دقة فى الوصف، وأصبح من الجدير أن يرجح مفهوم سترنسكى Stransky عن “الهزع داخل النفس” Intra-psychic Ataxia إلى الظهور بشكل فينومينولوجى يتفق مع التقدم الذى أتيح فى فهم النفس والتراكيب العصبية المقابلة أكثر فأكثر لهذا الانشطار المتعدد، ويتوقف مسار الفصام بعد هذه الفترة الاستهلالية على ما يحدث فى هذه الكيانات المتعددة من تباديل وتوافيق وتشتت وشرذمة وإزاحة.
وهذا ما سوف نتعرف عليه تباعا مع التمادى مع المسيرة الفصامية
[1] – وهو مصطلح كان يستعمل فى الطبنفسى الفرنسى أكثر قبل الإعارة الأمريكية على التقسيمات الوطنية