نشرة “الإنسان والتطور”
نشرة الأحد: 26-3-2017
السنة العاشرة
العدد: 3494
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (177)
الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع
المتن (تقريبا):
ثانيا: مرحلة (مراحل) ما قبل المرض (1) (1)
مقدمة:
ذكرنا أمس كيف أن احتمال معايشة الفصام يكاد يكون قدر البشر دون استثناء، ولعل ذلك ظهر أكثر فى تعبير جاء أمس يقول “إن وراثة الفصام: هى وراثة الحياة” فمسيرة الفصام كما نقدمها تباعا ليست مرتبطة بشكل مباشر أو أكيد بظهور الفصام، وإنما هى تبدأ بالنظر فى دراسة حركية ومسارات الحياة الإنسانية التى يمكن أن تفرز ما هو فصام إذا لم تُتَحْ لها الفرص الإيجابية البديلة، وهذا يترتب عليه فتح صفحة التفاؤل لاحتمالات احتواء وتصحيح المسار حتى بعد بداية المرض، لهذا بدأنا نشرة أمس بالوراثة وهو ما أسميناه ما قبل الولادة، ونواصل اليوم إلى ما قبل المرض وهذا أو ذاك يمكن أن يدرج ما يذكر فيهما تحت ما يسمى تقليديا “العوامل المهيِّئة”، لكنها ليست بالضرورة كذلك إذ أنها عوامل مهِّددة أكثر منها مهيئة، ثم أنها هى هى: لها مسارات إيجابية إذا أحسنا توقيت رصدها واحتوائها وتوجيهها .
ونواصل اليوم المرحلة الثانية والتى أسميناها
“مرحلة (مراحل) ما قبل المرض”، وتشمل:
(1) تعسر الولادة الولادة النفسية، وتعطيل حركية برنامج “الدخول والخروج”:
يرتبط ظهور الفصام بالطريقة التى نشأ بها الطفل، فبقدر ما تطيل الأم من احتوائه بعد الولادة، تتدعم قوة المستوى (المخ) البدائى المُسْتَغْنِى عن الآخر مثلما كان داخل الرحم، ويصبح بذلك جاهزا أو قادرا على العمل مستقلا عن ما بعده إذا ما لاحت فرصة فشل أو إفشال ما بعده، سواء فى تحقيق استمرار النمو مع احتواء هذا المخ الجاهز للتراجع، أو فى أى نجاح تكيفى آخر.
وعلى النقيض من ذلك فكلما سمحت الأم والبيئة المحيطة للطفل بفرص ممارسة الحركية النابضة للاستقلال دون انفصال، وذلك بتنشيط برامج الدخول والخروج دون توقف، كلما حدث ذلك تدعمت قوة المستويات التالية، وخاصة المستويات الإنسانية الأحدث، المتعلقة بالتطور اللاحق حتى تخليق وتدعيم المخ الاجتماعى العلاقاتى التكيفى، فالمخ الجدلى الإبداعى لمواصلة النضج والنمو دون استبعاد المخ البدائى تماما بل مع محاولة إشراكه فى دورات الإيقاعحيوى باستمرار، ومن ثم فى مسيرة النضج.
وبقدر نجاح هذه المهمة الأخيرة تكون حصانة الفرد ضد الفصام، بل تكون قابليته لاحتواء قوة الفصام فى الكل التطورى النابض النامى باستمرار..
وبديهى أن العوامل التى ترجح أى العاملين أقوى تتعلق بظروف التنشئة ككل، وظروف احتياجات الأم بوجه خاص، ومدى نضجها، فالأم التى تحتوى طفلها أكثر من حاجته، وتلغى استقلاله بالامتلاك المفرط، وتسمح بإطالة الاعتمادية، لابد وأن تهيئ لتدعيم المستوى البدائى (المخ الانعزالى) بحيث يصبح هذا المستوى بما تدعَّمَ هكذا جاهزا متحفزا لأى فشل للمستويات التالية، فهو جاهز للعمل كبديل مستقل، لكنه بديل ناشز وفى النهاية عاجز عن أن يكون بديلا، بما يترتب على ذلك من إفشال وتفسخ ثم ضمور وتليف (فهو الفصام).
التعقيب والتحديث:
بعد هذه العقود الأربعة تأكدت من مدى ارتباط تنظيرى طول الوقت، بما ينبع أساسا من مرضاى ونفسى وطلبتى، وكيف يرتبط بثقافتنا الخاصة، وخصوصا ثقافتنا الشعبية ، وقد كتبت فى نشرة سابقة منذ ثمان سنوات ما يضيف إلى هذه المعلومات التى جاءت فى هذه الفقرة ما يؤكد حضور معالم الولادة النفسية عند العامة عندنا، وكيف ترعاها الثقافة الشعبية وتؤكدها بطقوس بالغة الدلالة تحاول توعية الأم بمعنى ولزوم السماح بالولادة النفسية والاعتراف بأن كائنا جديدا قد حلّ فى الأسرة بعد أن كان قابعا فى رحمها وحدها، وكيف أنه لابد أن تبدأ الولادة النفسية بعد الولادة الجسدية مباشرة تقريبا، وأكتفى باقتطاف هذه اللقطة من ثقافتنا الشعبية وهى التى وردت فى إحدى هذه النشرات منذ تسع سنوات، وهى تؤكد ما ذهبتُ إليه سابقا، كما لعلها تدعم مصادر تنظيرى وفروضى بشكل مباشر:
طقوس “السُّبُوعْ”، وجدلية الانفصال/الاتصال (2)
الأسرة الإنسانية هى الرحم الاجتماعى الذى ينمو فيه الفرد سنين طويلة، وظيفة هذا الرحم الاجتماعى ليس مجرد إضافة حسابية لوظيفة أفراده، مثل أى وسط، الأسرة هى كيان ضام له شخصيته الكلية التى تتجاوز مجرد مجموع أجزائه.
هل يمكن للفرد البشرى أن ينشأ بدون أسرة؟
إذا كان يمكن للجنين أن ينمو تسعة أشهر ويولد بدون رحم لأم تحتويه فيصله من خلالها مشروع مقومات الوجود ثم يولد “ليكون” و”يصير”، إذا كان هذا ممكنا فإنه يمكن للكائن البشرى أن يوجد وينمو بدون أسرة. ……
الافتراضات الأساسية:
لتكون الأسرة أسرة (صحية) بالمعنى المتقدم أى “رحماً اجتماعيا”، علينا أن نطمئن إلى أن هذا الرحم يمكن أن يقوم بتوفير ما هو (1) والديّة (الوالدان) الرعاية المسئولة ، و(2) مجال معرفى، و(3) تواصل نمائى، و(4) حماية مرفأية (منْ مرفأ)، و(5) ولادة سليمة (سماح بالاستقلال) و(6) علاقة ممتدة.
(وبديهى أننى لن أتطرق إلى أى من ذلك بالتفصيل)
البداية: معالم الوالدية (ممثلة أساسا فى الأم):
الانتقال من رحم الأم النفسى إلى رحم الأسرة الاجتماعى/النفسى عملية ليست مرادفة تماما للولادة الجسدية، فالطفل داخل رحم الأم يمثل لها دعما، وتفوقا، وتألـُّها بشريا طيبا، ولنا أن نتوقع –أو نتصور- أنه بانفصال هذا الدعم الداخلى (السرى) عنها يحدث ما يلى:
(أ) إنها تقاوم الانفصال، فى نفس الوقت الذى تفرح به وتنجزه: ولعل ما يجرى أثناء الولادة هو ما يمثل ذلك جسديا بمعنى أن آلام المخاض يمكن أن تكون بمثابة إعلان عن هذه المقاومة، فى حين أن نجاح الوضع هو إعلان السماح بهذا الانفصال.
(ب) إنها لا تصدق هذا الانفصال بسهولة، وتكاد لا توافق عليه، حتى بعد أن يتم، لكنها تدعمه، فهى تحتاج إلى شحذ وعى الادراك، وإطلاق مزيد من قدرات السماح فى محيط من الأمان، حتى تصدق – جدا- أن هذا الانفصال هو حدث واقعى رائع آمِنٌ لصالحها، وصالح من انفصل عنها.
قراءة فى طقوس (الولادة) وحولها
أولاً: أثناء الولادة وبُعَيْدَهَا
قمت بقراءة طقوس الولادة ثم احتفالية “السبوع” كالتالى:
1- قبيل الولادة وأثناءها تحضر أم داعمة للأم الوالدة (سواء كانت الأم الحقيقية أو أى أم بديلة: “خالة”، شقيقة أكبر، جارة….الخ)، مما يتيح للأم أثناء طلق الولادة أن “تتقطف” على صدر أمها، وهى مسندة ظهرها إليها فى ثقة كافيه، وقد قرأت ذلك باعتباره بمثابة الدعم الخارجى وهو يطمئن الوالدة إلى أن خروج الدعم الداخلى منها لن يخل بتوازنها لأن هناك فى الخارج من يسندها ويساندها.
2- أثناء الولادة يتواكب ويتناوب الألم مع السماح حتى ينتصر إعلان الإبداع البشرى بفضل خالقه، وللأسف فإن الاستسهال الطبى التوليدى الأحدث فالأحدث يحرم أغلب الأمهات المعاصِرات من هذه الخبرة الهامة، بإعطاء تخدير خفيف أو بالإكثار من عمليات القيصرية لأسباب ليست دائما موضوعية فى هذه الفترة.
3- تعد الأم الداعمة لابنتها الوالدة فرخة بأكملها (لا يصح أن تُجزَّأ أو تقطع أو يشاركها فيها أحد) لتأكلها “بحالها” وحدها، وكأنها رمز لملء الفراغ الذى تولّد عن خروج الطفل (الداعم) كاملا عنه، برمز كامل لكيانٍ أعدته الأم الداعمة.
4- يتم إعطاء فرصة سبع أيام كفترة انتقالية تتعرف فيها الأم على ما حدث لعلها تتأكد – بصعوبة وفرحة معا – أن مَنْ كان بداخلها أصبح الآن منفصلا عنها، وهنا تقوم الرضاعة الطبيعية “بدور” رائع، ليس لمجرد تغذية الطفل بما هو حقه الطبيعى، ولكن أيضا بالتدرج مع الأم، لقبول الواقع الجديد، من خلال الحركة اقترابا وابتعادا، الطفل ملتصقا بثديها يوصل إليها أنه مازال جزءا منها، لكنه ليس كذلك طول الوقت، فهو سرعان ما يبتعد، أو يُبعد بعد الرضعة، أو لتغير ملابسه وتجفيفه، لعل ذلك يؤدى إلى إقناع الأم أولا أن الخروج من رحمها ليس معناه الانفصال المهدد لها أو لهما، وإنما هو يعنى بداية رحلات حركية النمو ذهابا وإيابا! (برنامج الدخول والخروج).
طقوس السبوع
يأتى بعد ذلك دور احتفالية السبوع الرائعة، وقد قرأتها على الوجة التالى:
بعد السماح للأم بهذه الأيام السبعة لتتعرف من خلالها على ما حدث، يقوم الوعى (الشعبى/الأسرى) بما ينبغى لدعم ذراع الانفصال، بما يسمح أن يكون ذراع الوصل أسهل حركية وأنجح نماءً. يدرك الوعى الشعبى أن الوالدة مازالت لا تتبين واقع الانفصال بما يكفى، أو الأرجح أنها لا تريد أن تعترف به، (وقد تكون فى قرارة نفسها لا تريد أن تسمح به أن يتم فعلا)، وفى نفس الوقت هى حريصة على أن يتمادى الانفصال إلى غايته لتتم مهمتها شريطة أن يكون انفصال إلى عودة وهكذا.
يمكن فى الأحوال الطبيعية أيضا افتراض أن بعض الأمهات، مع كل رضعة، يتصورْن فى داخل الداخل إمكان استعاده الطفل، ومع كل تغيير (غِيَار) لملابس الطفل هى تستعيد السماح له بالتواجد منفصلا عنها وهكذا، تتعمق حركية السماح والاسترجاع، التى سوف تستمر بعد ذلك طول العمر بصور مختلفة كما سيأتى ذكره لاحقا.
اكتشفت أن طقوس السبوع قد صاغها الوعى الشعبى لمساعدة الأم على مزيد من الوعى الموضوعى كالتالى: “إنها لإبلاغ حواس (وحركة) الأم، أن ما كان بداخلها أصبح الآن منفصلا عنها، وأن عليها أن تقبل، ذلك وأن تتأكد من ذلك، وأن تفرح بذلك، فتسمح به لأنه بداية حركية تعيد إليها ما أنجزته على مستوى آخر فى رحم الأسرة.
ثم ننتقل إلى بعض تفاصيل طقوس “احتفالية السبوع” فنقرأ فيها تدعيما لهذه الفروض على الوجه التالى:
نقرأ معا:
أ- إن وضع الرضيع فى غربال تحمله الأم أو بين ذراعيها على مسافة أثناء التجوال بالمنزل إنما يعلن للأم أن مكانه لم يعد بالداخل (بشهاده الشهود الهائصين من حولها).
ب- إن دق الهون – مع الزغاريد والفرحة – إنما يبلغ سمع الأم أن هذا الكيان (الذى قد يبكى أيضا لسماع الدق) أصبح خارجها (بشهادة الشهود أيضا).
جـ- إن اللف بالوليد فى أرجاء المنزل حجرة حجرة، يُبلغ الأم أنه بالتأكيد أصبح خارجها، ليس فقط فى سريره (أولفـّته) بجوارها، ولكنه أصبح خارجها فى كل مكان فى البيت.
د- ثم تأتى خطوة لها دلالة عيانية حين يوضع الطفل على الأرض وتخطيه الأم ذهابا وجيئة سبع مرات، لعلها تتأكد المرة بعد الأخرى أنه أصبح، وبالرغم من أنه بين ساقيها، إلا أنه أصبح خارجها وأن الحركة المكررة، ذهابا وجيئه من جانبها هكذا، تكاد تكون رمزا لما سوف تنظم به العلاقة بينها إذ تؤكد الانفصال الطبيعى بينهما ليتخلق نوع آخر من التواصل الحركى الإيقاعى.
هـ – وقبيل انتهاء الاحتفالية توجِّه قائدة المحتفلين الكلام للطفل بما يشير إلى إدراك الوعى الشعبى لحاجة الأم إلى الاطمئنان إلى استمرار الضيف الجديد معها (وطوع بنانها!!)، فتقول القائدة أو إحدى الحاضرات الأكبر موجِّهة كلامها للطفل “إسمع كلام أمك، ولا تسمعشى كلام أبوك، عشان امك بتعرف عن أبوك”
هذه هى بعض معانى تلك الطقوس الدالة، والتى حُرِمت منها كثيرات من أمهات اليوم، بلا أى مبرر إلا التراجع عن عاداتنا سواء إهمالا أو تقليداً لعادات غيرنا، أو نتيجة للافتقار إلى منطق نفعى جاهز واضح يبررها.
وبعد
ما علاقة هذا بالفصام وما قبل بدايته؟
أولا: إنه تأكيد أن الثقافة الشعبية ، الأقرب إلى الفطرة، وإلى الطبيعة التطورية، قد التقطت أهمية الافتقار إلى مثل هذه الحركية لتأكيد أهمية برنامج “الانفصال الاتصال” فى النمو والتطور
ثانيا: إنها إشارة إلى أن ما ندعو إليه من احترام هذا البرنامج بالذات، والسماح بتنشيطه بسلاسة مسئولة هو من أهم مقومات الوقاية من نشاز المستوى البدائى ( المخ البدائى النكوصى) لأنه يطمئنه إلى حقه فى “الرجوع فالعودة” فلا يضطر إلى الرجوع رغما عن من يمنعه من مجرد حركية النكوص المشروع
ثالثا: ليس معنى ذلك أن من يمارس هذه الطقوس فى ثقافتنا هو أكثر مناعة ضد الفصام ممن تخلى عنها ، فلكل ثقافة طقوسها مما قد يقوم مقام ما نشاهده فى ثقافتنا، لكنه مجرد تأكيد أن ما يدعو إليه الطبنفسى الإيقاعحيوى هو محاولة قراءة السلوك البشرى بما هو أقرب إلى الطبيعة والفطرة ، وأن “برنامج الدخول الخروج” مثلا – الذى بدت بعض ملامحه هكذا هنا – هو يمثل حركية دائبة جارية طول الوقت ، وإضافة بعد الإيقاعحيوى إلى البعد التطورى، هو للتأكيد على دوامية الحركة وليس فقط الارتكان إلى التعلم من التاريخ الحيوى.
رابعا: إن السماح لهذا المستوى البدائى (المفروض أنه المسئول عن النشاز الأصل فى باثولوجية الفصام)، السماح له بالمشاركة فى الرجوع مع الطمأنينة للعودة، هو أصل ما نحاول أن ننبه إليه فى هذه النشرة بمعنى أنه ما هو إذا ما غاب هذا السماح أصبح التمهيد لظهور الفصام أجهز. (ما قبل المرض)
…………….
ونكمل غدًا فى نفس المرحلة:
ما قبل المرض
[1] – لن أعود ثانية ابتداء من هنا للاشارة إلي الوراثة علي أن نتذكر:-
(أ) أن كل هذه الخطوات تسهلها وتسرع بها وراثة إيجابية للفصام بالمعني السابق.
(ب) أن هذه الخطوات ذاتها تترك في الجينات الأثر الذي قد ينتقل إلي الجيل القادم.
[2] – نشرة الإنسان والتطور 22 -1- 2008 “طقوس “السُّبُوعْ”، وجدلية الانفصال/الاتصال”