نشرة “الإنسان والتطور”
نشرة الأحد: 26-2-2017
السنة العاشرة
العدد: 3466
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (165)
تبسيط وتطبيق عن التشخيص والصياغة
يوم الخميس الماضى، وأنا أكمل عرض حالة فى قصر العينى – غالبا سوف أنشرها لاحقا– وكنت قد أجّلت شرح التفسير النفسمراضى لما ألمّ بها، لمدة أسبوع نظرا لأهميتها وصعوبتها، وفيما يلى الخطوط العريضة للحالة، مع أنها شديدة الإيجاز قد لا تعين :
الحالة جمعت بين حيرة التشخيص كالمعتاد وبين نفسمراضية (سيكوباثولوجية) متداخلة تشتمل على نقلة من الاضطراب شبه الضلالى المتزامن Simultaneous disorder (“الذهانى” لولا شيوع محتواه فى ثقافة المريض وبين أفراد أسرته)، ثم نقلة إمراضية بعد سنوات بالنسبة لأفراد العائلة الذين شاركوا فى هذا الاضطراب البادىء وهم “الأب” و”الأخ” و”المريض”، الاضطراب البادئ تمثل فى اعتقاد الثلاثة أن جيرانهم قد وضعوا فى أكلهم جازا (بترول – كيروسين) به سحر وسموم، ثم تراجع هذا الاعتقاد بمرور الزمن (سنوات) وليس بالضرورة بالعلاج، لكنه ترك آثارا متبقية عند الثلاثة ثم هدأ تدريجيا لكن بعد أن ترك ما ترك مما يمكن أن يسمى “بقايا أعراض” ، وأيضا عند المريض الحالى: تحوُّل الزملة Syndrome Shift،
ظهرت الأعراض محوَّرة متخفية نسبيا فى الأخ، فى صورة أعراض جسدنة جسيمة، وصعوبة جنسية استدعت عملية دوالى حول الخصية (لا لزوم لها، ولا جدوى منها)، وغير ذلك، ثم ظهرت فى المريض بعد سنوات فى صورة ذهانية خطيرة، وهى حالته الراهنة، ولم يظهر على الأب بشكل معلن أو مباشر ما يشير إلى طبيعة “ما تبقى” (ومات بالسرطان قبل مرض ابنه الحالى).
كان يوم الخميس الماضى هو موعد المقابلة التالية للمريض، وجرى أثناء المقابلة نقلات متعددة متلاحقة: شديدة الدقة والدلالة فى مستويات حالات الوعى بيننا أثناء المقابلة، (شخصى <==> المريض) وقد قمنا بتصويرها – بإذنه طبعا – إلى آخر ما لا يصح اختصاره حتى نعرض الحالة بالتفصيل لاحقا.
قبيل نهاية شرح الحالة ومناقشتها مع الزملاء الأصغر طلبوا منى بإلحاح هذه المرة أن أمدهم بمرجع فى النفسمراضية كما شاهدوها رأى العَيْن، حتى يمكن أن يستعينوا به على متابعة ما أقول وما يجرى، وربما لمحاولة البدء فى ممارسة ما شاهدوه فى اللقاء، وبالذات ما يتعلق بالنفسمراضية أساسا بالعلاج كما ذكرت، وقد شعرت بحرج شديد لأننى لم أستجب لهذا الطلب الذى تكرر منهم قبل ذلك مرارا، لأسباب سبق تقديمها، أهمها ما وصلت إليه من أن هذه الخبرة لاتصل بالكتابة ولا بالشرح ولكن بالعرض والتدريب والممارسة والاشراف لكننى وعدتهم خيرا.
حين رجعت إلى نفسى وبيتى وحاسوبى رحت أبحث عن ما ورد فى ما نـُـشر فى النشرات الخاصة بالطبنفسى الإيقاعحيوى مما يمكن أن يعيننى على الاستجابة لطلبهم بشكل يتناسب مع حماسهم للمعرفة، مما قد يسهم فى تسهيل متابعتهم لما أحاوله معهم، وكنت أعلم كما ذكرتُ حالا أن من يلتقط هذا المستوى من التواصل هو قليل، ومن يستطيع أن يمارسه بدون عرض حالات ماثلة ومحاولات وتدريب وإشراف: أقل من القليل، ولكن برغم كل ذلك كان لا يمكن تكرار الاعتذار لمثل هؤلاء المخلصين المتحمسين الذين يمارسون تدريبهم تحت إشرافى فعلاً، ومن المحتمل أن يواصلوا الطريق، الأمر الذى جرَّبته مع متدربين آخرين فى موقع آخر، ونجح نسبيا.
هممتُ أن أنسخ ما ورد فى وثيقة الطبنفسى التطورى عن هذه المواضيع التى طلبوها، لكننى فوجئت فعلا أن ما ورد فى الوثيقة لا يصلح لمطلبهم – كما هو – ثم جاءتنى التوصية الأولى التى وصلتنى فى الرسالة التى ظهرت فى نشرة أمس والتى توصينى أن أعطى الأصغر أولوية لما أملأ به ما تبقى لى من وقت، وقررت الاستجابة لهم كما يلى:
قررت أن أبدأ من اليوم فى نشر ما هو أبسط وأكثر مباشرة مما يمكن أن يقوم به الأصغر فعلا فى الممارسة اليومية، تمهيدا لتقديم النفسمراضية بعد ذلك لإمكان المقارنة، وفضلت أن أبدا اليوم بتقديم موجز (سبق نشر أغلبه متفرقا بالتفصيل) عن ما يتعلق بــ “التشخيص:
جاء فى تقديمى السابق للمقابلة الإكلينيكية قرب نهايتها ما يلى:
” فى ختام الفحص والاستقصاء يجد الفاحص نفسه مطالبا بأن يجمع المعلومات وينظمها تحت لافتة لها اسم يصلح للتعامل به كلغة مشتركة تتناسب مع طبيعة التخاطب فيما بيننا نحن المختصين، (ومع غيرنا) لكل ذلك لا بد من تحديد معالم ما يسمى “التشخيص” بما لا يسمح بالخلط أو التداخل، مهما ضؤلت فاعلية هذه الخطوة – خطوة التشخيص – فى العلاج أو حتى هـَمّشت بعض أنواع العلاج الأعمق، ومع تحديد معالمها لابد فى نفس الوقت التنبيه إلى رفض احتكارها غاية أولى أو وحيدة للممارسة الإكلينيكية!!
وفيما يلى بعض ذلك:
ا) التشخيص: هو فعل التعرّف على مرض بذاته من علاماته وأعراضه،وهو مرتبط بالتصنيف حتما، وبالتالى فالتشخيص يتحقق بمدى التوفيق بين الأعراض والعلامات التى ظهرت من خلال الفحص وبين المرجع التصنيفى الذى يستعمله الفاحص….، وهدف التشخيص الأساسى هو تحقيق أكبر قدر من الاتفاق بين فاحصين مختلفين أو أكثرهم. Reliability وهو لا يفيد بالضرورة درجة عالية من “المصداقية” Validity لأن نفس الإسم قد يسمح بأن يندرج تحته عدد هائل من المرضى يختلفون فيما بينهم اختلافا لا يسمح بالاتقاق على معـنى واحد محدد، وحتى فى البحث العلمى لا يكفى أن تجمع مجموعة تحمل نفس التشخيص لتجرى عليها أدوات بحث ما، وإنما ينبغى أن يضاف إلى التشخيص محكات أخرى خاصة تميز مجموعة البحث تمييزا يتفق مع الغرض المحدد من البحث.
وكل تشخيص ينبغى أن يتبع نظاما بذاته متفقا عليه من مجموعة علمية محددة، وأشهر هذه الأنظمة هو الدليل الأحصائى الأمريكى الرابع (1994) فالخامس (2013) و التقسيم العالمى (العاشر) للأمراض (1994)،….الخ هذا بالإضافة إلى دليل متواضع DMP I بدأ فى مصر واستعمل محليا على نطاق جيد لفترة من الزمن منذ 1974، كما ووفق على استعماله على مستوى الدول العربية 1975 (من حيث المبدأ)، ولكنه تقلص أمام انتشار وإحاطة وتفاصيل الدليل الأمريكى الرابع ثم الخامس . (وهكذا سَبْقنا الاقتصاد والسياسة على مسار العولمة للأسف).
القواعد اللازم اتباعها بالنسبة للتشخيص:
1- بعد أخذ الشكوى وما وصفت به الحالة فى بداية المقابلة يمكن الوصول إلى انطباع مبدئى يوحى بتشخيص محتمل Preliminary Diagnosis ويعتبر ذلك فرضا مبدئيا قابلا للإثبات أو النـفى حسب ما يأتى به الفحص لاحقا، وأيضا بعد الحصول على معلومات أكثر فأكثر ([1]).
2- بعد نهاية كتابة المشاهدة وعمل بعض الاستقصاءات الإكلينيكية البسيطة يمكن الوصول إلى التشخيص الحالى (أو الجارى) Current Diagnosis
3- ثم يوضع التشخيص النهائى Final Diagnosis عند الخروج من المستشفى (أو الوفاة) أو استكمال الفحص والتشاور العلمى، وذلك بعد استقراء كل المراجعات والمتابعة والاستخبارات النفسية والبدنية التى عملت للمريض، وكذا متابعة الاستجابة للعلاجات المختلفة.
4- لا ينبغى الخلط بين لغة نظام معين للتشخيص ولغة نظام آخر، ولابد من الالتزام بنـفس الألفاظ والرموز الواردة فى الدليل التشخيصى المستعمل.
5- إذا وصل ترجيح أحد التشخيصات إلى أكثر من النصف (50 % احتمالات ) بالتقدير الإكلينيكى تقريبا، يوضع هذا التشخيص باعتباره التشخيص المحتمل الأول، ثم يلحق به أى احتمال آخر كتشخيص فارقى Differential Diagnosis بترتيب أرجحية الاحتمالات تنازليا.، أما إذا كانت كل التشخيصات المقترحة قريبة من بعضها البعض ولم يصل واحد منها إلى احتمال يفوق النصف، فيوضع عنوان التشخيص الفارقى مباشرة، ترتب التشخصيات تنازليا حسب الأرجح فالأرجح.
6- لا بد أن نتذكر أن تغير “الانطباع المبدئى والتشخيص المحتمل“ إلى ”تشخيص آخر” فآخر، هو أمر وارد ويدل على أن المقابلة الإكلينيكية قد حققت أغراضها فعلا، وأن الخطوات قد مضت فى اتجاه نُضْجٍ مرن يدل على درجة جيدة من التفكير الفرضى الاستدلالى.
7- لابد أن نتذكر أن التشخيص يمكن أن يكون جزءا من الصياغة، وهى لا تغنى عنه، ولا هو كاف بدونها، فهو ليس بديلا عنها، ولا مرادفا لها.
وبعد
لا أريد أن أنبه من جديد والخطاب موجه اليوم للزملاء الأصغر أن الهجوم على علاقة التشخيص (وضع لافتة) لا يصح أن يقلل من قيمة وضرورة التشخيص لأغراض إدارية وإحصائية وقانونية (أنظر بعد: تقرير الطبنفسى الشرعى مثلا) وتتبعية وتاريخية.
أما علاقته المباشرة بالعلاج فقد تقتصر على تحدي اختيار نوع العقاقير ومدة تعاطيها على أساس ما تخرجه المعامل أكثر منه على أساس التخطيط الهادف والمواكبة الإكلينيكية الأكثر ارتباطا بالنفسمراضية بأنواعها، كما سوف يتبين فى النشرات القادمة.
وغدًا نقدم موضوعا مكملا له أبعاد إدراية أكثر مما له توظيف إكلينيكى هو “التقرير” وأنواعه حتى نحدد معالم كل اللافتات قبل الدخول الأسبوع القادم فى مستويات النفسمراضية كما طلبها الزملاء وذلك لأن تحديد قيمة النفسمراضية إكلينيكيا ولاجا يتضح أكثر بالبدء بما هو ليس كذلك (التشخيص، والتقرير).
[1] – برغم تراجع تمسكنا باستقلالنا فما زلتُ أنصح بأنه يمكن أن يستعمل فى هذه المرحلة أبسط أنظمة التشخيص، مثل الدليل المصرى /العربى فى حالتنا هنا، وقد تستعمل لغة قديمة أو شائعة مفيدة مادام الأمر تشخيصا مبدئيآ (مثل استعمال كلمة عصاب مثلا بدلا من المجموعات الأحدث تحت مسمى “اضطرابات التكيف Adjustment Disorder)