نشرة “الإنسان والتطور”
نشرة الأحد: 19-2-2017
السنة العاشرة
العدد: 3459
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (162)
الجهد المطلوب للتلقّى المسئول
مقدمة:
قدمت أمس مأزق المواجهة الذى واجهته حين حاولت تقديم هذا المنظور إلى من لم يـَـعْـتَـدْ لغته، واليوم أكمل بدءًا بتقديم الموجز للورقة التى قدمتها، وذلك قبل أن أتطرق لبعض محتواها وبعض ما كان(!)
موجز الورقة (تقريبا):
العلاقة الحتمية بين الماضى والمستقبل عبر الواقع الآنى
يكاد يكون من المستحيل أن نخطط للمستقبل أو نتنبأ به إلا من خلال قراءة واعية مسئولة فى كل التاريخ، مع التحفظات اللازمة ضد مبدأ أن “التاريخ يعيد نفسه” فهذا ما لانقصده، وإنما نريد أن نؤكد على أن التاريخ هو جذور الحاضر الذى هو بدوره جذور المستقبل، وفى حالة الطب النفسى تمتد القراءة إلى كل التاريخ الحيوى فالتاريخ البشرى. ما أعنيه بالقراءة الواعية المسئولة هو ألا نقتصرعلى رصد سلسلة التطورات والأحوال والأحداث التى جرت فى الماضى وتوثيقها، بل هى قراءة تشمل حمل امانة ما يصلنا: بالتعلم منه، والانطلاق إلى التعامل مع حاضرنا من خلال استيعاب دروسه وبرامجه: بما يسهم فى دفع عجلة الحياة والتطور – بمعطيات اليوم- إلى ما تعد به طبيعتنا البشرية كما صاغها خالقها إلى كل مجال، ومن بينها إتقان مهنتنا، تلك المهنة الفنية العلمية الإبداعية: الطب النفسى .
الطب النفسى هو فرصة علمية فنية إبداعية لقراءة تاريخ الجنس البشرى بل وتاريخ الحياة، فالمريض الذهانى خاصة (والفصامى بوجه أخص) يكاد يُطلعنا بشكل مباشر على تاريخ الحياة منذ حضور الدنا DNA داخل خلايانا، ومسئولية الطب النفسى مهنة، ثم ثقافة، هى أن نساعد هذا المريض، وكل من هو أخف محنة منه، على إضافة لغة أخرى إلى لغته الحالية يمدنا بها تاريخنا ليس على حسابه فردا يتمزق، وربما لو نحسن قراءته نتعرف – بفضله – على أصل البشرية وتحديات المستقبل الذى ينتظرها: إما الانقراض، وإما مواصلة التطور.
ما يسمى الطب النفسى التطورى حاول أن يبلغنا نصف الرسالة، أعنى: “من أين وكيف”، منبها إلى أن علينا أن نقرأ مرضانا من خلال احترام ما نسميه أعراضا نفسية الآن، فهى التى كانت فى يوم من الأيام برامج تطورية لازمة لمرحلة سابقة من تطور الحياة ، وقد أدت دورها بكفاءة حينذاك حتى أمكن إحلال ما هو أكثر رقيا وكفاءة منها دون الاستغناء عنها بل مع استيعابها فى “الكل الجديد”.
الطب النفسى الإيقاعحيوى التطورى يؤكد ذلك ويضيف إليه أن هذه العملية التاريخية تتكرر كل أزمة نمو، بل كل يوم وليلة ، بل بين لحظة وأخرى، وعلينا – كأطباء- أولا: أن نحسن قراءتها، ثم علينا أن نواكبها بكل ما لدينا من معلومات، وعلم، وفن ، وإبداع. وبهذا نعين مرضانا، إذ نعرفهم بالطول والعرض فنحترمهم، ونحن نحمل أمانة مهنتنا: نسهم فى صناعة مستقبلها فى القرن الواحد والعشرين إلى القرن الواحد والتسعين إلى ما شاء الله.
(انتهى الموجز)
النشرة:
برغم طمأنيتى لتقديم هذه الورقة إلى مؤتمر عقد فى بيتى (فأنا اعتبر هذا القسم بيتى أكثر من بيتى) إلا أننى تبينت ما كنت أتوقعه عن مدى الصعوبة التى علىّ أن أكابدها لأوصِّل ولو لمحة أساسية مما أعيشه منذ ستين عاما، وهو ينضح منى رغما عنى – تقريبا – كل يوم: من واقع الممارسة، ومن أغلب ما أقرأه من العلوم الأحدث فالأحدث ليس فى مجال تخصصى فقط، ولكن فى التاريخ والتطور وبعض فلسفة العلم (1) وفى المنهج ثم فى المستحدث فى تخصصى، أما فى الممارسة فمن واقع ما ألقاه كل يوم، بل أكاد أقول كل حالة وخاصة تلك الحالات التى تصاحبنى عاما كاملا، ثم تتبدل بمجموعة جديدة عاما بعد عام لمدة 46 سنة، وأيضا ما أقدمه لزملائى الأصغر فالأصغر ونحن نتدارس الحالات التى أقوم بالتدريس بعرضها لبناتى وأبنائى الأطباء المقيمين (وأحيانا المدرسين المساعدين والمعيدين بالقسم)، ناهيك عن ممارستى الخاصة أتعلم من مرضاى ومن كل زميل ومتدرب أشرف عليه ويشرف علىّ، فى أى موقف أمارس فيه وجودى هذا، – أعنى مهنتى – قدمت موضوع هذه الورقة وأنا أعلم حجم الصعوبة وأتوقعها وأستعد لدفع ثمنها، ومع ذلك لا أنكر أن المفاجأة كانت أكبر، رحت أبحث بين الحاضرين عن وجوه بعض بناتى وأبنائى ممن يتابعونى أسبوعيا كل أربع وخميس بالقسم، ولاح لى بعض منها، كما لمحت وجوها أقل ممن أرجح أنهم يتابعون بعض ما أكتب فى الموضوع فى موقعى يوميا (2) فهدأت قليلا وتوكلت على الله.
هذا المأزق ليس حديثا علىّ، ولا أعرف له حلا سهلا حتى الآن، ويبدو أن عمق انتمائى إلى ما وصلنى، وهو يتجدد يوميا، ويتدعم بمختلف مناهل المعرفة الأحدث التى تتاح لى، هو الذى يصور لى أن الأمر سهل ومباشر، وأن كل ما عدَا ذلك هو الذى يحتاج شرحا وتبريرا، فى حين أن واقع الحال مما يصلنى من مثل هذه المؤتمرات هو أن الأمر يكاد يكون بالعكس تماما فهى مسئوليتى مهما كان الأمر ولا بد من البحث عن حلّ.
بدأت الورقة بالتذكرة بأن عمر الحياة على الأرض هو 35 بليون سنة، وأننا إن لم نستوعب ذلك فقد تكون رؤيتنا للمستقبل وللقرن الواحد والعشرين (عنوان المؤتمر) قاصرة!! ثم ألحقت ذلك مباشرة بأن العلم الأحدث فالأحدث وخصوصا العلوم الكوانتية Quantum Sciences أصبح يتعامل مع الجزء من ألف من الثانية ويعطى له أهمية قصوى ويؤثر ذلك فى دراسات النيوروبيولوجيا الأحدث، ودعوت أيا من الحاضرين حين يعود لمكتبه أن يستشير عمنا “جوجل” بسؤال مباشر عن “ماذا يحدث فى جزء من ألف من الثانية؟” وسوف يجد إجابات رائعة وكثيرة وغريبة ومزعجة لكنها حقائق مرصودة من أول سرعة الضوء وحتى رفّ جفون العينين.
الحقت هذا وذلك بالحقيقة “العلمية” التى أكررها باستمرار وهى أن ما تبقى من الأحياء كلهم هو واحد فى الألف من سائر الأحياء الذين وجدوا على الأرض ومن بين هؤلاء الأحياء الذين بقوا كائن يسمى “الإنسان”، وكل ما حوله من أحياء استطاعوا حذق استيعاب البرامج التى أتاحها خالقهم لهم ولنا بكفاءة تُبْقِى من يحسن استعمالها، وبالتالى نجحوا أن يقاوموا الانقراض حتى تاريخه (الآن)! إذن فنحن وهم لا نمثل إلا واحدا من ألف مما خلق الله فى حين فشلت الأغلبية الغالبة أن تتبع برامجه وقوانينه، فانقرضت.
توقفت قليلا ورحت أتطلع إلى الوجوه وأنا أعرض هذه الأرقام والأشكال والفيديو المسجِّلة لما أقول، فلم أجد ما تصورته من تعجب أو رفض أو انزعاج، ومع أن هذه الحقائق نشرت فى مراجع علمية رصينة فى علوم مختلفة متكاملة، لكننى استبعدت أن تبقى وتعاود محاولة أن تخطر ببال الشخص العادى، ولا العالم الجهبذ المستغرق فى دائرة اختصاصه بعيدا عنها، فما بالك بالزميل الطبيب النفسى المغمور بما يحيطه من مراجع وكيمياء وتقسيمات مليئه بالتشخيص الوصفى التجزيئى والأعراض ومضاداتها الكيميائية.
مثل هذا الدارس أو طالب العلم حين تصل إليه مثل هذه الحقائق مجردة واضحة: هو إما أن يحترم الأرقام لاحترامه مصادرها الموثقة دون أن يعايشها، وإما أن يتشكك فيها، ويزيحها أبعد ما تكون عن بؤرة منظومته العلمية، وبالذات عن تأثيرها على وعيه بوجوده، وبقدرة ربه، وبعظمة تاريخه الحيوى فالبشرى، وباحتمال مساره، وإما أن يشجب كل هذه المعلومات ويشكك فى منهج الحصول عليها، وفى أحقية العلوم التى أفرزتها بأن تدرج ضمن العلوم الأصيلة.
ما كل هذا؟
تعالوا نقرأ بايجاز هذه الأرقام ثانية:
- عمر الحياة 35 بليون سنة 000.000.000 بليون سنة
- واحد على ألف من الثانية تحدث فيه أحداث ودورات قد تغير مسار النمو والتطور
- من بقى من الأحياء كلها هو واحد فى الألف من مجموع الأحياء.
- ثم إنى أضفت عرض المعلومة التى وصلتنى مؤخرا من أحدث الأحدث فى النيوربيولوجية المخية وكيف أن المخ يعيد بناء نفسه باستمرار باستمرار ليل نهار!.
ما ذنب الحاضرين المؤتمر يتباحثون فى مستقبل الطب النفسى فى القرن الواحد والعشرين، وما علاقة كل هذه الأرقام التى تكاد تبدو أحاجى وألغاز لا لزوم لها بالممارسة اليومية لعلاج مرضى يعانون نفسيا بما شاع من أعراض وما سُمّىَ من أمراض؟
حين حضرتنى هذه الاحتمالات لوهلة كدت أتوقف وأنا أحترم اتساع المسافة التى تخلقت بين المتحدث – أنا – وبين المستمعين، ومع ذلك تماديت وأكملت لأدخل بسرعة إلى فروضى الخاصة النابعة من تضفر مثل هذه المعلومات مع حركية الوعى فى الممارسة الإكلينيكية، أكملتُ أُبـَيـِّنُ – بطريق غير مباشر- إن الإنسان هو الذى ورط نفسه بإعلان هذه الحقائق وتكرار هذه الأرقام، وأن سائر الأحياء من الواحد فى الألف الذين بقوا معه حتى الآن قد نجحوا فى البقاء من خلال استعمال نفس هذه البرامج وآليات الدفاع ضد الانقراض، ومن أهمها دفاعات التكافل من خلال نشاط كل مستويات الوعى وقنواته، وبالذات الوعى الجمعى، وهكذا عاشوا جيلا بعد جيل، ونوعا بعد نوع كل بما يناسبه، وكل حسب المرحلة التى توقف عندها، وقد نجحوا فى استيعاب كل ذلك، دون أن يقرأوا هذه الأرقام أو يعقدوا مثل هذه المؤتمرات!!
وهنا شعرت بمأزق جديد وخفت أن يُظَنَّ بى أننى أدعو أن ننهج نهجهم، وبالتالى نتازل عن اللغة والرموز لنحذو حذوهم، فتنبهت أن ذلك غير وراد أصلاً، وهو نكوص مرفوض وردّة تدهورية، فلكل مرحلة قوانيها، وآلياتها ودفاعاتها، وليس المطلوب الرجوع إلى التاريخ ولكن المطلوب هو استيعاب التاريخ والانطلاق منه من خلال حركية الوعى الإبداعية المتزايدة المتجددة باستمرار، كلٌّ بنوعية وجوده وتكامل طبقات وعيه.
أعتقدت أننى وقد وصلت إلى هذه النقطة أن الأمر يحتاج إلى الاستشهاد بأمثلة محددة، فقررت أن استشهد بما جاء فى نشرة الإثنين الماضى بعنوان “الأسهل أصعب” ودعونى أعترف مرة أخرى أننى كتبت تلك النشرة لأسهِّـل الفكرة، وإذا بى وأنا أراجعها أتصور أننى صعّبتها، فغيرت العنوان إلى ما ظهرت به النشرة “الأسهل أصعب”، ولكن بعد هذه المحاضرة أسفت لتغيير العنوان ولاح لى أن الأصعب أسهل!!.
ولكن دعونى أنقل المقتطف بِنَصِّهِ من هذه النشرة حرفيا وهو ما قلته مُـحْـرجًـا فى المؤتمر، كالتالى:
“..أنا لا أتردد أن أشرح لطلبتى الذين لا يشاهدون أسراب أو حتى فرادى العصافير، لا أتردد أن أشرح لهم نفس الفكرة بمثال قريب منهم مألوف لديهم ولو أنه مقزز – ولا مؤاخذة – لأوصّل لهم كيف أن تنشيط “الوعى البينشخصى” إلى “الوعى الجمعى”: هو من أعظم ميكانزمات البقاء، أشرح لهم ذلك بأن أذكرهم بمنظر الذباب وهو يطير فوق صفائح القمامة، ولا أجد حرجا فى ذلك وأنا أتذكر قوله تعالى “إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا”، وأنصحهم أن يتأملوا بقدر من السماح الطيب، بعد ضبط غرائز القرف والاشمئزاز، أن يتأملوا عددا من الذباب وهو يحوم حول صفائح قمامة “معا”، يرتشق منها ما تيسر ليبقيه حيا ضمن الواحد فى الألف (مثلنا)، كما أذكره أن يتذكر معى – بعد إزاحة الاشمئزاز كما اتفقنا – أن هذا الموقف يجمع مجاميع الذباب عادة على مثل هذه الوليمة فى نشاط وذكاء ملحوظين، وأنه (الزميل الذى اشرح له) لو تقدم وهشَّ الذباب من على القمامة ولو مرة واحدة، فإن الذباب سوف يبتعد ليعود حفاظا على بقائه!”
(انتهى المقتطف)
ونواصل غدًا.
[1] – آخر مثل ذلك كتاب شديد الأهمية بعنوان “الدراسات المستقبلية وفلسفة العلم الحديث” تأليف : ويندل ب. ترجمة أمينة الجميل ومحمد العربى، سلسلة مكتبة الاسكندرية وحدة الدراسات المستقبلية عن المؤتمر الدولى الثالث لمكافحة التطرف 17 – 19 – 2017
[2] – بالإضافة إلى زملائى وزميلاتى الأفاضل والضيوف العلماء والأطباء الكرام الذين تفضلوا بتشريفنا.