نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 5-2-2017
السنة العاشرة
العدد: 3445
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (156)
ما زلنا فى ملف الفصام
الفصام: حركية وعملية أم مصير ومآل؟ (2)
لماذا الفصام؟
أنهيت نشرة أمس بعزمى على تقديم استعمالى الباكر لمصطلح “طيف الفصام” Schizophrenic Spectrum ثم اكتشفت أيضا أننى استعملت مصطلح “مسيرة الفصام” March of Schizophrnia أصف فيها خطوات تطور المرض منذ قبل ظهوره، حتى منتهى سلبيته تناثرا وضموراً، ثم إنى عثرت مرة أخرى على ما يؤكد مركزية انشغالى بهذه القضية الجوهرية، ورفضى لاختزالها أوتقريبها، حيث أنها تكاد تمثل عندى مفتاح شفرة الوجود بحيث يصبح الإلمام بطبيعة هذا المرض وماهيته وأصوله وأبعاده هو الدافع الأكثر حفزا لمواصلة تحقيق عكسه وقبول تحدياته .
منذ واحد وثلاثين عاما ، وفى المجلة الأم لهذه النشرة “مجلة الإنسان والتطور” الفصلية، فى عدد يناير 1986 وبعنوان ” الإنسان والمخ: “لماذا الفصام” بدأت مقالى أنذاك بإعلان أننا نتبنى النظرية المصرية لهذا المرض الملغز، وهى النظرة التى جاءت بإيجاز شديد فى الدليل المصرى/ العربى للأمراض النفسية كما أشرنا أمس، وقد تم شرح هذه النظرة بما يؤكد ما جاء فى عنوان ومحتوى نشرة أمس من التنبيه على أنه لا يمكن الاحاطة بمفهوم الفصام إلا من خلال بعدين أساسيين هما الحركة (“العملية” “الحركية”) والمآل (نهاية تدهوره)، وقد وجدت فى هذا المقال عدة نقاط لا مفر من التذكرة بها ونحن نبحث لنواصل استكمال الطريق:
الأولى: فكرة أن ثمة نظرة مصرية /عربية، كانت تحاول البزوغ والمشاركة (وهى ما أشرت ما إليه أمس) .
الثانية: أن خطابنا من البداية كان موجها للشخص العادى (غير المتخصص) أملا فى مشاركة أوسع .
الثالثة: أن فكرة التطور وعلاقته بالمرض النفسى عموما وبالفصام خاصة كانت شديدة الوضوح والالحالح على وعينا جميعا.
الرابعة : أن نقدنا لوصاية الأمريكيين حتى منذ التقسيم الأمريكى الثالث DSMIII كان واردا من قديم وذلك قبل ظهور الدليل الخامس DSMV، الذى أخذنا عليه ماذكرناه أمس.
الخامسة: أن اهتمامنا بالفصام لم يكن لاعتباره مرضا نفسيا فحسب، وإنما بافتراض أنه يمكن أن يفك شفرة الوجود وتحديات الانقراض.
المقال بعنوان: “الإنسان والمخ: لماذا الفصام؟” وقد نشر فى مجلة الإنسان والتطور- عدد يناير 1986
وجاء فيه ما يلى عن الفصام (1):
“….نحن فى هذه المجلة نتبنى النظرة المصرية ، ونتجاوز بها ذلك الاختزال السطحى الذى رضى عنه الأمريكيون وفرضوه على العالم، وعلى زملائنا فى مصر، ولكن دون أن يقتحموا به حِـسّ العامة، ونحن نتجاوز النظرة الوصفية الى تَبَنِّى متواصلٍ ” تطورى/ تدهورى” من ناحية، والى تناول بُـعْـدٍ “غائى/ابداعى” من ناحية اخرى، كل ذلك من منطلق “بيولوجى فلسفى” إن صح التعبير. فالفصام عندنا:
(أ) هو اعلان تغير نوعى فى الوجود البشرى.. كبداية محتملة لتدهور متراجع نحو البدائى، والكلى الفج .
(ب) وهو تفسخ لنظام جمع مستويات العقل والوجود فى وحدة فاعلة فى وقت بذاته .
(جـ) وهو: (نتاج هذا وذاك) عودة بالفرد (الواحد / الوحدة) الى تعدد فى الوجود، متنافس ثم متباعد، مع سلب لقدرات ضامة، وفاعلة، ومنطقية، واحلال محلها قدرات أقدم، مع ما يشمل ذلك من ضمور فى المنطق العادى، وتفكك فى سَـلْـسَلـَةِ الأفكار، وانسحاب فى العواطف .
(د) وهو تحقيق غائى لانسحاب من الواقع ومن التوليف الأعلى، لأنه يتضمن تنشيط حفز الموت (أو ربما غريزة الموت) بإلغاء الفاعلية، وقتل الآخر بالترك والانسحاب والجمود .
(هـ) وكل ذلك يتم من خلال حركة “تنظيم سلبى/ لا تنظيم” خلايا المخ بمشتبكاتها، التى هى التحقيق العيانى لتنظيم “معلوماتى/كيميائى/حيوى” يجسد الوجود البشرى فى أبعاده المتداخلة المعقدة بما يحقق استحالة الفصل بين الظاهرة ومحتواها .
وبعد:
اذا كان الأمر كذلك ، فان دراسة هذا التحدى الخطير للمسيرة البشرية (الفصام) وخاصة فيما يتعلق بأسس العملية البيولوجية، هو البداية التى يمكن من خلالها ان نرى نقيضها، كما أن هذه الدراسة أيضا قد تظهر لنا “الخلل” الذى يضطر “الانسان الواحد الفاعل” أن يتفكك الى تعدداته الأسبق هكذا، وأن يرتد على عقبيه مرجحا ما هو “موت” وتحلل على ماهو حياة وواحدية .
ونحن اذ نرى الوجود الفردى متفسخا فندرس المقابل أو الأصل البيولوجى لهذا التفسخ، انما نستعيد الأرض التى تـُوَحـِّدُ بين الجسد والروح، بين المادة وزعم اللامادة، وكذلك نكاد نتحسس جسد “المعلومة” اذ هى كيان مرتب (أو لا مرتب) فى تنظيم المخ وخلاياه ومستوياته، وكيف أنها ــ كذلك ــ قادرة حتى على الانتقال عبر الأجيال مع تقدير فرص علاقة ارتباط تنظيم الخلية الجسدية بالخلية التناسلية (مما قد نتطرق اليه فى تفاصيل الحوار فيما بعد) .
واذا صدق ذلك على الفرد، فلم لا يصدق على المجتمع مع كل التحفظات التى تميز بين كيان الفرد وكيان المجتمع ؟
ومن هذا المنطلق، نجد المبرر الذى ندعو معه الناس الى مشاركتنا فى الاقتراب من هذا المرض باعتباره “التدهور المتحدى” .
ونجد أنفسنا ملزمين بايضاح أكثر لإصرارنا على وضع الفروض المخية المتعلقة بالفصام فى المقام الأول، برغم أنها قد تكون أبعد ما يكون عن تفكير ولغة الشخص العادى؟
وفى ذلك نعود ونقول:
أولا: اننا بذلك نقتحم موضوع العلاقة بين الوظيفة والتركيب، بين النفس والجسم، بين المادة وزعم اللامادة، بين الفيزيقى ووهم الميتافيزيقى ( الفيزيقى الأعمق)
ثانيا: اننا بذلك نؤكد على طبيعة الوجود البشرى المعقد، المواكبة لطبيعة البشر المركبة .
ثالثا: اننا نامل فى أن نجد “الوصلة” الهامة التى تربط التغيرات التى تحدث فى البيئة بالتغيرات التى تحدث فى خلايا المخ.
رابعا: اننا بذلك نؤكد على مسئوليتنا نحو أمخاخنا وما نوصله اليها ثم ما تتحور من خلال ذلك به الى ما هو تطور، أو ما هو تدهور.
خامسا: اننا بذلك ننبه على أنه بتحوير المخ هكذا، نتيجة لتحوير البيئة، فاننا نفتح ملف وراثة العادات المكتسبة وبذلك نضاعف من مسئوليتنا نحو أمخاخنا وأولادنا ونوعنا جميعا.
……………………………
……………………………
وبعد (أخرى):
فنحن نطرق باب الفصام التدهور، حتى نحفز التكامل التطور، ونحن نـَفـْهـَمـُنـَا من أشلائنا قبل ان تضمر وتختفى، فنختفى، ونحن نرفض التهويم فيما يلهينا عن مسئوليتها نحو ما هو نحن وما هو بعد……، ولكننا فى نفس الوقت لا نبالغ فى قيمة هذه المعطيات المتواضعة، ونحذر دائما من اختزال الانسان الى ما هو وحداته الأولية أو جزء منه دون كليته، سواء كانت هذه الوحدة هى الخلية الحيوية بجزئياتها العظيمة ومشتبكاتها، أم كانت وحدة المخ ككل، المخ البالغ التعقيد، (المخ التاريخ البشرى المجسد فى كيان عضوى متصاعد التنظيم).
……..
إلى هنا انتهى المقال
هل يا ترى بعد ثلث قرن مازلنا على الطريق؟
الحمد لله أنْ: نعم
[1] – حذفت الصفحة الأولى من المقال حيث جاء فيها ذكر المفاهيم الخاطئة حول المرض وهو ما سبق الإشارة إليه فى نشرة : 23-1-2017 .