نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 4-2-2017
السنة العاشرة
العدد: 3444
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (155)
ما زلنا فى ملف الفصام
الفصام: حركية وعملية أم مصيرٌ ومآل؟
يظل السؤال يتكرر: لماذا كل هذا الخلاف حول الفصام بالذات، الخلاف الذى وصل مؤخرا إلى حد إنكاره تماما كمرض مستقل فى مقابل اعتباره أصل كل الأمراض النفسية (تقريبا)، هذا الخلاف ممتد عبر التاريخ وهو يتزايد لا يتناقص مع اختلاف زوايا تناوله، وقد سبق لى أن حاولت تفسير هذا الاختلاف فى أكثر من موضع منذ ما جاء فى كتابى الأم “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” (ص 322 – 325)، وهو ما اقتطفت بعضه فى بعض النشرات الجارية وحتى تقديمى فرض حالات الوجود المتبادلة. (نشرة 25-6-2016) و(نشرة 25-6-2016) و(نشرة 25-6-2016)
التفسير الأكبر موضوعية هو أن لفظ الفصام يطلق على مرحلتين من تطور مساره مختلفتين – حتى التناقض –، فهو يطلق على بداية عملية مرضية مُنذرة، بقدر ما يطلق على المآل السلبى جدا لهذه العملية.
هذه التميزات تحديدا هى التى وردت فى التعريف الذى جاء لهذا المرض فى الدليل المصرى/العربى الأول DMPI “دليل تشخيص الأمراض النفسية” 1972/79 والذى جاءت مقدمته دالة على هذه المحاولات الباكرة لتأكيد ارتباطنا بلغتنا، وانتمائنا لثقافتنا، ومحاولاتنا المستقلة، وهذا بعض ما جاء من هذه المقدمة:
“بناء على توصية المؤتمر العربى الثانى للصحة النفسية المنعقد فى القاهرة سنة 1975 بتبنى الدليل المصرى كأساس لتصنيف الأمراض النفسية، وبناء على توصية المؤتمر العربى الأول للطب النفسى المنعقد فى القاهرة فى ديسمبر 1978 بضرورة توحيد المصطلحات والتعريفات العلمية، بما يشمل ذلك إعداد دليل موحد للأمراض النفسية مع أخذ توصية المؤتمر الثانى للصحة النفسية فى الاعتبار، ومسايرة لتعميق القومية العربية وتأكيدا للشخصية العربية دون الانفصال عن المسيرة العلمية العالمية، رأت الجمعية المصرية للطب النفسى أن تقوم بترجمة الدليل المصرى لتقسيم الأمراض النفسية وإصدارها جنبا إلى جنب مع إعادة طبع الصورة الانجليزية كما هى، وإرفاقها بالترجمة العربية؛ وذلك بهدف أن تصبح فى متناول الزملاء فى مصر والبلاد العربية للعمل بها مرحليا حتى إقرارها أو تعديلها..”
وقد حاولتُ عن طريق الشبكة العربية للعلوم النفسية “شعن” أن أدعو لتحديث هذا الدليل كما حدث فى الدليل الأمريكى بتلاحق متواصل DSM V & DMS IV & DSM III وأيضا الدليل العالمى مثلا: العاشر ICD 10 فالحادى عشر ICD 11 ، إلا أن المحاولة لم تلق ترحيبا أصلا برغم الحماس المبدئى لها من قبل رئيس الشبكة أ.د. جمال التركى، فحمدت له ترحيبه، وحمدت الله، ودعوت للجميع بالتوفيق.
جاء فى هذا الدليل عن: “الفصام” أنه:
“…مجموعة اضطرابات تمثل (أ) تطور عملية ذهانية مفسِّخة لتركيب الشخصية، و (ب) نتاج هذه العملية فى شكل عجز بالشخصية أو تدهور.
ويأتى عدم تجانس هذه المجموعة من أننا نقابل مظاهرها الكلينيكية فى أطوار ومراحل مختلفة من تطور هذه العملية، ويتوقف وجود أعراض معينة من عدمه على نوع الفصام البادى”
وأعتقد أن هذا سَبْقٌ مهم لأن التفرقة بين “العملية” الفصامية وبين “مآلها” قد يكون هو مفتاح حل لغز هذه الحيرة، كما أن الإشارة إلى أن تنوع أنواع الفصام إنما يرجع إلى اتساع عملية حدوثه على هذا المسار الممتد، هو أيضا يحسب لهذا التعريف المختصر المفيد.
فى الدليل الأمريكى الخامس حدثت خطوة إدماجية غريبة تحتاج إلى وقفة: حيث أورد هذا الدليل ما أسماه الطيف الفصامى Schizophrenic Spectrum وفيه ضمّ الفصام إلى ذهانات أخرى، وضمّن تحت هذا العنوان عددا من الأمراض والاضطرابات: شاملة عددا من اضطرابات الشخصية والانحرفات السلوكية الموقفية والذهانات قصيرة المدى Brief Psychotic Disorders والاضطراب شبه الفصامى Schizophreniform disorders ثم الاضطراب الفصاموجدانى Schizo affective disorders، وفى نفس الوقت تراجع عن تقسيم الفصام نفسه إلى أنواعه المعروفة، ولم أجد تفسيرا لهذا الجمع العشوائى بهذه الصورة، ولا هذا التراجع الغريب إلا أنه دليل غير مباشر على العجز عن تحديد الفصام كمرض مستقل له معالمه الجامعة المانعة، (مع أننى فرحت بفكرة استعمال هذا التقسيم لتعبير Spectrum “طيف الفصام”)، ربما لأن نفس هنا المصطلح هو الذى استعملتُه من ربع قرن فيما سبق أن حاولته ونشرته فى افتتاحية فى المجلة المصرية للطب النفسى عدد أكتوبر 1992 وقد استعملته بوصفه “طيف حقيقى” وخاص بالفصام أساسا، وكان العنوان هو:
على مدى الطيف الفصامى (متصل التعتعة التفسخ التدهور)
Along the Schizophrenic Spectrum
Dislodgement – Disorganization – Deterioration cant inams
إن هذا “الطيف” الذى قدمُته اختص تحديدا بكل أنواع الفصام المعروفة ، وانطلق من الإشارة الواضحة المحدَّدَة التى وردت فى الدليل المصرى العربى إلى أن الفصام “عملية” و”مآل” معا وقدمت على مدى هذا الطيف التدرج الحركى التفكيكى فالتدهورى، للأنواع النموذجية وغير النموذجية للفصام باعتبار أن “الطيف” يعنى هذا المسار المتدرج من أقصاه إلى أقصاه، ويبدو أن محاولاتى هذه لرسم هذا “الطيف” كانت انطلاقا من منطلق “نفسمراضى تركيبى” Structural Psychopathology ولم أكن قد تَبَنَّيْتُ هذا المصطلح بعد
فى هذه الورقة قدمت فرضا يبين مراحل تطور العملية الفصامية من قبل بدايتها إلى آخر تدهورها ضمورا وتليفا،
وبعد
وآمل أن أتمكن فى النشرات التالية من أن أبدأ بتقديم هذه المراحل الواحد تلو الآخر لنتبين حقيقة وأصل طيف الفصام الحقيقى، وما يترتب عليه من تطيبقات عملية على المسار العلاجى، وليس لمجرد تحديد فئة عن أخرى، وفصل محتوى مفهوم عن التداخل مع مفهوم الآخر، وليس كما جاء استعمال لفظ “طيف” فى الدليل الأمريكى الخاص DSM V فكان بمثابة فرط التداخل Overinelusion وليس “طيفا”.