نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 7-1-2017
السنة العاشرة
العدد: 3417
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (143)
نحو تخطيط النفسمراضية التركيبية: حقائق وفروض
(الممكن المتاح من منطومات الوعى = الأمخاخ)
أكدنا فى النشرة الماضية (الأنثين : 2 يناير) أنه:
من مبادئ الطبنفسى الإيقاعحيوى البدء بقراءة النص البشرى برصد ما جرى فى التركيب الحالى (وخاصة للأمخاخ) بإيجابياتها وسلبياتها، فلم يعد يكفى أن نرصد نشاط المخ البدائى الارتدائى(1)، أو المخ القتالى الكرّفرّى…. وإنما علينا أن نرصد حالة ونشاط وتاريخ المخ الأحدث وهو المخ الاجتماعى التكيفى، والمخ الأقدر على التكامل والجدل والإبداع. : المخ التكاملى الجدلى الإبداعى: فى “اليتكوّن“.
واقع الحال أن الممارس لا يمكن أن يتعامل مع الكيان البشرى، أو المخ البشرى على أنه ممثل للحياة ولكل الأحياء، (هذا حسب الطبنفسى التطورى)، فما بالك إذا امتد هذا الفرض إلى الدعوة للتعامل مع جـُمّاع هذه الأحياء وكل الحياة “هنا والآن”، وهى تعيد سيرتها الأولى، (حسب الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى!) باعتبار أن المخ البشرى هو حديقة حيوان/ أحياء التاريخ الحيوى كله!! هذا بالإضافة إلى صعوبة التعامل مع وحدات الزمن متناهية الصغير، وكذلك مع مفاهيم غامضة لم يعرف العلم بعد أبعادا محددة لها بطريقه حاسمة، وبالذات مفهوم الوعى، بكل تجلياته وامتدادته، وتداخلاته، وجدله، وإبداعه.
ما هو المخ تحديداً :
لكن دعونا نبدأ بتحديد مفهوم ما نعنى بالمخ من جديد، لأننى أشعر بالحرج كلما تحدثت عن المخ وشعرت أن ما يصل إلى المتلقى ، وخاصة من الأطباء أو من هواة “سندوتشات الكبدة والمخ”(2)، والأصعب حين أستعمل لغة الجمع، وأتكلم عن “الأمخاخ”، وعلى الجانب الآخر ، يستقبل غير الأطباء المخ بمفهوم تجريدى صرف على أنه مرادف لما هو “عقل” ، وبرغم استعمال دانيال دينيت لهذا الترادف (الذى نبهت على رفضى له فى نقدى لكتابه “أنواع العقول”)(3)، إلا أن ما وصلنى منه برغم العنوان هو تأكيده على أنه إنما يتكلم عن مستويات الوعى، وهو ما أشار إليه فى العنوان الفرعى لنفس الكتاب: نحو فهم ما للوعى .
مرة أخرى ليست أخيرة:
“المخ: هو منظومة نيوروبيولوجية وجودية تطوريةـ لها مركز اساسى فى عضو داخل الدماغ (الشهير بالمخ)، كما أن له تجليات فى كل خلية، وكل عضو، وكل امتداد يصل إليه”
بالرغم من هذا التعريف اللاتعريف إلا أن هذا هو السبيل الوحيد الذى يمكن أن أواصل عرض خبرتى وفروضى من خلاله
عودة ورجاء:
كل ما أرجوه الآن هو التأكيد على ما يلى:
(1) البعد عن تصور أى موقع تشريحى محدد لأى مما نسميه المخ أو الأمخاخ
(2) التأكيد على حضور ما يسمى مخ فى شكل منظومة نيوروبيولوجية (بيوكيميائية تطورية مع وقبل أن تكون تشريحية نيورونية) لها معالمها وأهدافها السابقة (تطوريا)، ودورها الحالى (إيقاعحيويا)
(3) تأجيل الحكم مرحليا على ما نقدمه مقاسا بالمقاييس البحثية المميكنة، انتظارا لنتائج الخبرة الإكلينيكية المترتبة، ما أمكن ذلك.
وبعد
كما أوضحت مرارا أنه يستحيل التعامل إكلينيكيا وواقعا مع مئات أو آلاف الأمخاخ، لذلك فإنى سوف أثبت عددا محددا مما أمكننى التعرف عليه فى الممارسة الإكلينيكية (وغيرها من اجتهاداتى النقدية والإبداعية والشخصية) بأكبر قدر من الإيجاز ، آملا فى الرجوع إلى بعض التفصيل الممكن والإيضاح عند التطبيق عموما، وبالذات عند عرض الحالات (حالات وأحوال)
وفيما يلى تعريف موجز تماما لهذه الأمخاخ (منظومات الوعى) إلى أن نعود إلى تفصيلها
أولا: المخ البدائى الارتدادى
هو منظومة الوعى التى كانت مستغنية عن الأخر (الموضوع) ، حتى لغرض التكاثر، وراحت تحافظ على بقائها بالإنشطار الذاتى، وهى ليس لها تمثيل فى التركيب البشرى الحالى اللهم إلا إن كان ذلك فى “مخ” البويضة”، حتى قبل التلقيح، أو – تصورا– فى أى خلية منفصلة إن أمكن افتراض أنها تستطيع أن تبقى حية وهى منفصلة
هذا المخ يمثل أقصى درجات العدول عن الحياة بكل ما تمثله من وعود، وما تهدد به من مخاطر، وتتجلى فاعليته – إذا انفصل نشازا – فى قدرته على الاستيلاء على الطاقة الحيوية واستعمالها فى الارتدادا انسحابا من الواقع وإلغاء للآخر : بالاستغناء أو المحو أو بالهرب حتى الاختفاء من ساحة الحياة الماثلة
وهو إذ يسحب الطاقة ليستعملها فى الارتداد، يسحبها من سائر الأمخاخ بما يترتب عليه من إعاقة لوظيفة هذه الأمخاخ، وإخلال بتماسكها ، وتشتيت لمكوناتها
وهذا هو ما يظهر فى الفصام التدهورى السلبى المتمادى (وغيره بدرجات مختلفة حسب مرحلة التدهور وشدة الذهانية)
ولهذا المخ فى الحياة المسماة “العادية” حضوره المتخفى وراء ما تيسر من ميكانزمات انعزالية وانسحابية، ولكنه ليس حضورا صريحا لأن نشاطه فى هذا الحال ليس مستغلا نشازا تماما ولكنه نتيجة التلوث مع أمخاخ أخرى بما يمكن أن يترتب عليه ما يسمى “اضطراب الشخصية”، ليس فقط الشخصية الشيزيدية (أنظر بعد)
ثانياً: المخ القتالى الكرّفرى التوجسى
هو منظومة الوعى التى حافظت على البقاء بمواجهة الموضوع (الأخر) باعتباره خطرا محتملا أو ماثلا، عليها أن تواجهه بكل آليات القتال من كر وفر، وهجوم ودفاع، وتجسس وخوف من التجسس، وتآمر وتآمر مضاد، ويعتبر هذا الموقف القتالى هو جوهر آليات وبرامج بقائه ، حتى أنه إذا افتقر إلى “موضوع” للتقاتل، كآخر مهدد: قام باستعارته من واقع الداخل ليمارس معه آليات التقاتل التى حافظت على بقائه، ظنا منه أنه، بعد نشازه وغلبته، هى الأقدر على حمايته واستمراره،
وهو أيضا إذ ينشط نشازا، يستحوذ على الطاقة الحيوية ويستعملها، فمن ناحية هو يمنع المخ الارتدادى من الاستحواذ عليها، وهذا ما نعنيه من أن نشاط هذا المخ هو دفاع ضد ما هو أكثر إمراضية وهو نشاط المخ التدهورى الارتدادى
ومن هذه الوظيفة الدفاعية ضد التدهور والارتداد، يتبين لنا كيف أن علاقة هذه المنظومة (المخ) بالحياة، برغم تشوهها موجودة وحادة، ولكن بشروطها، فهو مخ يحافظ على بقائه بكل آليات الهجوم حتى القتل، والتآمر ، وتوقع التآمر، كما يظهر كل ذلك فى كل أعراض ما يسمى طيف “البارانويا” بأكمله.
هذا المخ له أيضا حضوره فيما يسمى الحياة العادية ، لكن بدرجة أقل خطرا، وأكثر تلوثا (4)فهو يستعمل نفس الآليات الدفاعية ولكن بدرجة أخف مثل سوء التأويل، وغلبة الشك، والنفخ فى الذات، وغير ذلك (أنظر بعد)
ثالثا: المخ العلاقاتى المتخوف
هذا هو المخ الذى رفضتُ أن أختزله فى الموقع الاكتئابى التى قالت به مدرسة العلاقة بالموضوع، وقد كتبت فى ذلك من قبل أنظر (نشرة 9-2-2016) و(نشرة 14-2-2016(، وبينت أن الاكتئاب الذى يظهر فى هذا الموقف هو نتيجة للاعتراف بأن الموضوع ليس خطرا على طول الخط، وفى نفس الوقت هو ضرورة للبقاء للاستمرار بشرا، ومن هنا تنشأ الصعوبة التى سميت خطأ “اكتئابا”، وأيضا من هنا يمكن تفسير ما يتميز به هذا المخ بما يمسى “ازدواجية الوجدان” ambivalence، فهذه الازدواجية ليست نتيجة تخلصه من مصدر الحب (الموضوع/الأم) ثم شعوره بالذنب لذلك كما تقول مدرسة العلاقة بالموضوع، وإنما هى ناشئة من صعوبة عمل علاقة موضوعية مع الموضوع “ككل” بما له وما عليه، ونتيجة لتحمل هذا الموقف والاستمرار فى حمل مسئوليته، ينتقل تناقض الوجدان إلى تحمل الغموض مع الاستمرار: بما يتواصل حتى تتخلق منظومات الوعى التالية: “المخ الاجتماعى التكيفى”، ثم المخ الإبداعى التكاملى الجدلى.
رابعا المخ الاجتماعى التكيفى
بصراحة لقد فوجئت مؤخرا – كما جاء فى نشرة الاثنين الماضى – بحضور هذا المخ بكل فاعليته، ووجدت أنه مخ (بالتعريف السابق مثل سائر الأمخاخ) بمعنى أنه منظومة وعى نيوروبيولوجية وجودية غائية تخلقت بالذات فى الطور البشرى للتطور، ثم هى قائمة لها دورها الإيجابى الخلاق الذى يتجلى من أول روعة العقل الروتينى فى الفعل اليومى والإسهام فى التنظيم الاجتماعى حتى بناء الحضارات وحفز التقدم.
ونشاط هذا المخ وقبول ايجابياته يساعد تماما فى إعطائه الحق فى التبادل مع الأمخاخ الأخرى، وايضا فى الجدل، وخاصة لتخليق المخ التالى وهو:
خامساً: المخ التكاملى الجدلى الإبداعى (فى اليتكوّن)(5)
هذا المخ ليس حاضرا جاهز مثل بقية الأمخاخ لأنه فى “اليتكوّن” in the making طول الوقت، وهو موجود عند كل الناس وليس فقط عند المبدعين، ويمكن الرجوع فى ذلك إلى نشرات “حالات الوجود المتبادلة” (نشرة 25-6-2016) و(نشرة 25-6-2016) و(نشرة 25-6-2016) وأيضا نشرات كيف أن الحلم هو إبداع الشخص العادى.(نشرة 23-4-2016)
ويعتبر هذا المخ بالذات فى حالة تخلّق باستمرار لأنه تكاملى يشمل كل الأمخاخ ليس بالتبادل فقط، وإنما بالجدل لتخليق معظم تجليات الإبداع بما فى ذلك الإيمان وأيضا لتخليق الخطوة التالية فى التطور، لكنه ليس مشروعا فحسب، بل هو يتخلق من خلال المشاركة فى الإيقاعحيوى النمائى طول الوقت، وفى نفس الوقت هو مشارك فى الإيقاع الحيوى النمائى باستمرار.
[1] – تم تغيير الاسم من المخ “النكوصى الانسحابى” إلى هذا الاسم المخ “البدائى الارتدادى” حيث وجدت أنه أكثر تناسبا لما سيأتى ذكره
[2] – كما كان يداعبنى الأخ المرحوم الصديق أ.د. محمد شعلان كلما كتبت له من باريس وهو فى أمريكا سنة 1968 عن فروضى فيما يتعلق بكلمة مخ بأنها تذكّره بمسمط فى سيدنا الحسين يعلق لافتة تقول: كل كبده ومخ زين .. وأقرأ الفاتحة للحسين”
[3] – Daniel C. Dennet : (1996) “Kinds of Minds Towards Understanding of Consciousness”
الكتاب المترجم “أنواع العقول” صادر عن “المكتبة الأكاديمية” القاهرة 2003 ، نقد الكتاب
[4] – أعنى بتعبير التلوث Contamination نوعا من التداخل بين أكثر من مستوى من مستويات الوعى يدعم كل منهما الآخر مع الجمود والتوقف دون حركية الجدل والتكامل.
[5] – مرة أخرى In the making