نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 1-1-2017
السنة العاشرة
العدد: 3411
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (141)
تخطيط النفسمراضية التركيبية
تمهيد للتطبيق
مقدمة:
أنهيت نشرة أمس بأنه “لا مفر من أن نختار من بين هذه الآلاف فالملايين من الاحتمالات، والمعلومات، والأمخاخ، والثوانى، والأجزاء، والفروض، ما يمكن التعامل معه بشكل مباشر ويومى، نختار عددا معقولا يمكننا التعامل معه تحديدا، وقد اقتصر اختيارى – مضطرا – على ما اهتديتُ إليه من ممارستى فى حدود ما تبلورت فيه النظرية الإيقاعية التطورية وأمكن ترجمته إلى الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى، فى واقع الممارسة اليومية.
كان انطلاقى فى بداية البداية – كما ذكرت – من “نظرية العلاقة بالموضوع” وهى تقع على أبعد موقع عن النيوروبيولوجيا!! مع أن النيوربيولوجى هو مفتاح التطور ومحور كل هذا التنظير عندى، ومع أن الأمخاخ التى أتعامل معها ليست إلا أنظمة وعى فاعلة متفاعلة نيوروبيولوجية وجودية طول الوقت، وبرغم أن نظرية العلاقة بالموضوع هى نظرية “لا بيولوجية” حتى بالنسبة لبيولوجية الغرائز عند فرويد كما كررنا ، إلا أننى اعترافا بالفضل أقر أن مدرسة العلاقة بالموضوع Object Relational كانت البداية.
رحت أتعامل مع المرضى على أربع محاور أو مستويات للوعى (أمخاخ) لا أكثر، من بين كل ما ذكرنا، وأنا أخجل وأنا اعترف بذلك، لكن لم يكن عمليا ولا ممكنا غير ذلك فى حدود مهنتى وما تمليه علىّ أمانتى نحو نفسى ومرضاى، وكنت – ومازلت – حريصا طول الوقت ألا أستبعد غير ذلك فى سعيى إلى التطوير وإعادة النظر والتشكيل حتى اهتديتُ إلى المرحلة الحالية انطلاقا من هذه النظرية، لكن للأمانة لابد من الاعتراف بأن ما تم تطويره من هذه البداية من مدرسة العلاقة بالموضوع كاد يطمس معالم الأصل الذى بدأت منه، ومع ذلك ظل هذا الأصل هاديا لى طول الوقت، ولا أملك إلا الاعتراف بفضله.
تذكرة بالتطوير والتحديث:
وأوجز أهم معالم التطوير التى فصّلتها فى نشرات سابقة وهى التى استوحيتها من واقع الممارسة، خاصة مع الذهانيين وفى العلاج الجمعى فيما يلى:
أولاً: نبهت أن هذه المواقع التى بُنِيَتْ عليه أساسيات النمو من وجهة نظر نظرية العلاقة بالموضوع ليست تماما نتاجا لعلاقة الطفل بأمه، لكنها تمثل تاريخ التطور كله ثم التاريخ العائلى الشخصى، ثم تتنشط بعلاقة الطفل بأمه.
ثانياً: هذه المواقع التى أسمتها هذه النظرية “Positions” ليست مواقع ثابتة – كما يدل عليها اسمها – نعايشها ونتجاوزها، ثم نعود إليها ونتثبت عند بعضها فى حالات المرض، وإنما هى أطوار تتكرر باستمرار نبض الإيقاعحيوى عبر تاريخ التطور ثم على مدى عمر الكائن البشرى، فهى أطوار مستعادة نابضة، وليست مواقع ثابتة ولكنها منظومات فى أطوار شديدة الإحكام من المشتبكات والطاقة والبرامج الحركية، والبقائية، ولكى تكون منظومة تستحق التعامل معها مستقلة ومجتمعة، لابد أن يفترض فيها التناسق بما يتفق مع مواصفاتها، ومشتبكاتها، ووظيفتها المستقلة يوما فى تاريخ التطور والنمو، ثم المتكاملة فى الكل على مسار النمو، وهذه المنظومات هى ما اسميُتها مُضطراً “بالمخ” برغم الخلط المحتمل.
ثالثا: إن مدرسة العلاقة بالموضوع قد أسمت هذه “المواقع”(1)بأسماء شبه مرضية (الموقع الشيزيدى فالبارانوى فالاكتئابى) بما يحمل مظنة إبعادها ضمنا عن طبيعتها الايقاعية العادية، بل الابداعية الجدلية الخلاقة، لذلك اضطررتُ إلى تسميتها أولاً: أطوارا وأطلقت عليها أسماء أخرى، انطلاقا من ترتيبها، وذلك لإضافة الاختلافات الضرورية التى وصلتنى فى التنظيم والأداء والغايات لهذه الأطوار، وقد تغيرت تسميتى لها، لكن ظل يقينى فى استقبالها ومنهجى فى التعامل معها حتى وصلت إلى أنها منظومات وعى نيوروبيولوجية كما ورد سابقا، وكما سيأتى فى هذه النشرة وبعدها حسب تطور الممارسة والنتائج.
رابعا: إن الطور الثالث (الاكتئابى بلغة مدرسة الموضوع) يكاد يكون خاصا بالانسان، فى طبيعة علاقاته المتفاعلة المتناوبة النامية الجدليه، وقد انتبهت إلى ما له من تجليات إيجابية على طريق التكامل، وأخرى عسيرة على طريق المعاناة فى إرساء علاقة بالموضوع، ولعل هذا الوجه الآخر هو المبرر لتسميته بالاسم الأول “الموقع الاكتئابى” حسب مدرسة العلاقة بالموضوع.
خامسا: الإضافة التى وصلتنى مؤخرا جدا، هى أن هذه الدورة ثلاثية الأطوار إنما تمثل أساسا أطوار البسط فى الإيقاعحيوى وهو ما يقابل طور الضَّخ فى دورة القلب، لكن هذه الأطوار مجتمعة تتناوب مع مراحل نبض النمو عامة، فانتبهتُ إلى أن ثم منظومة شديدة الأهمية ضرورية التواجد، وهى الجديرة بأن تسمى “المخ الاجتماعى” الذى وجدت أنه يتجلى عادة فيما تجدر تسميته: “المخ الاجتماعى التكيفى” وهو ما يمكن أن يوصف بأنه المخ التواصلى على مستوى استعمال دفاعات تكيفية أدائية ناجحة، وهو أقرب إلى ما يسمى “العادية”، وعلى أحسن الفروض “الذكاء الاجتماعى أو الانفعالى”.
إلا أن هذا المخ الاجتماعى نفسه له دوراته حين يقوم بوظيفته النمائية الإبداعية فى دورات إيقاعحيوية تجعل منه المخ التواصلى الجدلى النمائى الذى هو ليس مجرد الوجه الآخر للطور الثالث (الاكتئابى سابقا) وإنما هو يمكن أن يمثل المخ المحورى التواصلى الجدلى الابداعى الذى يكاد يحتوى جدلا كل حركية الأمخاخ فيما يجعله دائما فى حالة الـْـيَـتَـكوّن in-the-making، وهو أقرب إلى منظومة الوعى “الواحدية المرنة المتنامية المتواصلة الممتدة إلى دوائر الوعى الممتده من الوعى الشخصى إلى الوعى البينشخصى فالجمعى، فالجماعى، فالطبيعى فالمطلق، فالمجَرِّى، فالغيب “إليه”، وهذا التنظيم الأخير يعتبر آلية متطور أكثر منه حادثا قائما، وطريقا ممتدا أكثر منه واقعا ماثلا.
هكذا تبينت:
إن ما أسمته مدرسة الموضوع اكتئابا هو فى الأساس إعلان عن معايشة وعى “المأزق العلاقاتى البشرى”، وهو أحد وجهى هذا الطور
وحسب ذلك المأزق فإنه يمكن تصويره كما يلى:
حين يتجاوز الشخص آلية الانسحاب والتوجس، فلا يستطيع أن يتمادى فى استعمال الآخر كملاذ يختبئ فيه، ولا أن ينكره فيلغيه (الطور الانسحابى= الموقف الشيزيدى)،
وأيضا حين لا يعود يعتبر الآخر مصدر تهديد مستمر يحتاج للمواجهة والصراع المتجدد (الطور الكرّفرِّى أو الموقف البارنوى أو المخ انفعالى) فيتبين أن هذا الآخر (الموضوع) هو ضرورة حتمية لابد من الحفاظ عليها دون التهامها لتختفى، أو الاختباء فيها فيمّحى، وكذلك دون صراع معها طول الوقت، ومن ثمَّ لا يبقى إلا حفز مسيرة النمو (التطور الإبداع) لهما معا.
حين يحدث هذا، ثم ذاك، أو هما معا:
فإن الوعى بهذا المأزق فى هذا الطور بأى درجة هو المسئول عن ما لاحظتـْه مدرسة العلاقة بالموضوع من ثنائية الوجدان فى هذا “الموقع” (بِلُغَتِهَا)، الأمر الذى تطور من منظور الطبنفسى الإيقاعحيوى إلى “تعدد الوجدانات وتكثيفها” وهو تطور شديد الأهمية والدلالة والوعود فى التركيبة البشرية، إذْ يترتب عليه تجليات عديدة متنوعة ومتداخلة، من بينها الاكتئاب فى صورتيه الإيجابية والسلبية، جنبا إلى جنبا مع كل تجليات الوجدان المصاحبة والحافزة لاستمرار حركية الجدل الإبداعى فالنمو (التطور) (2)
وبعد
ليس بالضرورة أن نعى كل هذا التعدد ظاهرا أو نتعامل معه شمولا، لكن مجرد الاعتراف به، والسماح له بالاقتراب يُسهل مهمتنا فى التعرف على الطبيعة البشرية، ومن ثم محاولة الاسهام فى تصحيح مسارها.
……..
………
ونواصل غداً.
[1] – “الأطوار” باللغة الجديدة بعد التعديل.
[2] – سبق أن جاءت بعض الفقرات فى نشرات سابقة وقد تعمدت العودة إلىها تمهيد للاستفادة منها فى التطبيق.