نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد : 18-12-2016
السنة العاشرة
العدد: 3397
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (135)
عن الاستحياء والحياء
مقدمة:
أنهيت نشرة أمس بأنه :من هنا نبدأ:
“إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ”
وبعد
نعم، نبدأ بأن نتعرف على “الحياء” أولا من خالق الأحياء والحياء، فهو لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها، فكيف يزعمون أننا إذا تعلمنا من كل خلقِهِ مما بين السماوات والأرض، ما يفيدنا فى فهم أنفسنا وعلاج مرضانا، كيف يزعمون أننا بذلك تجاوزنا سماحه ودروسه وبرامجه التى حافظت على الحياة، ممن أتقن الحفاظ عليها من سائر خلقه؟
“وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ”!!!
هذا سماحٌ آخر، يمكن أن يعين مثلى إذا افتقد إلى من يسمع له، أو يصدّقه، أو ينقده، أو يرفضه، وهو – من هو مثلى – على يقين من أنه رأى الحق فى مرضاه، وقد تعرَّوْا يذكـِّرونه بحقيقة الأصل، ونبض الفطرة، وهم يتجرعون آلام الرؤية وحدهم حتى ينسحبوا أو ينهاروا أو يتمزقوا إربا، ثم يعودون فيحاولون إذا ما وجدوا من يراهم، ويدرك ما ذا يجرى بهم وبما حولهم، وهم فى جوعهم إليه، تاهو وهم يبحثون عن الأصل وأصل الأصل، ويعلمون فى أعماقهم أن “الله لا يستحى من الحق”، وينتظرون من يأخذ بيدهم وهو يشاركهم البحث والصبر والمثابرة!!! .
كيف بعد كل ذلك أستطيع أن أنكر ما رأيت وأرى فى خبرتى ومهنتى ونفسى، أو أن أستحى أن أسجل ما وصلنى، ولو فى صورة فروض عاملة ، تتحقق بشكل متزايد كل يوم ، ثم أستحى أن أسجل ما أرى، ثم أستحى أن أنشره لكل من يهمه الأمر، كيف يمكن أن أنكر على نفسى، وعلى من يشاركنى تجاربى، ويعايش خبراتنا، كيف يخطر ببالى أن أظل أحبسه خوفا من الرفض أو الشجب، أو تحسبا لاتهامات أصعب، هل يمكن لمثل هذا الشخص أن يسكت عما رأى تحت زعم أنه يستحى من المخاطرة، وهو يعلم أن الله لا يستحى من الحق.
على كل من رأى الحق ألا يستحى من الذى رآه وعايشه وتتبعه وتعلم منه، وخاصة إذا وجد له صدى فى فطرته، وفطرة من لم يتشوه من تلاميذه ومتدربيه؟ ونتائج مرضاه الحاسمة، التى لا تحسب بالأرقام وجداول الضرب وسياسة السوق، وإنما بالعودة إلى الحق، والقدرة على قوله، والسعى إلى تحقيق فروضه.
هذا عن الاستحياء، أما عن الحياء، فيبدو لى أنه أبعد عن الوعى البشرى الظاهر، وأعصى عن الوصف اللفظى الشارح، فهو كما قلنا أمس وجدانٌ بشرى راقٍ، وليس فضيلة أخلاقية ظاهرة إلا لمن أن يسبر حقيقة جوهرها، هى ظاهرة مثل الوعى، والإدراك، وأغلب الوجدان، نرى آثارها، ولا توصف فى ذاتها.
وقد انتهيت إلى ذلك، حتى تأكدت منه بعد أن لاحظت أن أغلب من يتكلم عن “الحياء”، وأيضا عن “قلة الحياء” يكاد لا يعرف شيئا عن حقيقة الحياء، وعمق الحياء ولا عن وظيفة الحياة وغايتها “إليه”،
وقد ثارت مؤخرا زوبعة فى مجلس الشعب المصرى تتهم كتابات نجيب محفوظ بخدش الحياء العام، وقد كتبت عن ذلك فى اليوم المخصص له فى الأسبوع قبل الماضى، ليس دفاعا عنه فقد تعلمت منه شخصا، (من 1996 حتى 2006)، ومن تداعياتى على تداعيات تدريبات عودته إلى الكتابة والتى بلغت (1334 صفحة A4) (من صفحة التدريب رقم (1) بتاريخ 31-12-2009) إلى (صفحة التدريب رقم (250) بتاريخ 18-8-2016)، تعلمت أشرف وأرقى وأنبل وأبدع دروب وتشكيلات الحياء، ثم إنى استشهدت له – حتى لا يظن أننى أدافع عنه- بقصة قصيرة كنت كتبتها ونشرتها من عشر سنوات “..الحياء العام والحياء الخاص!!!”(1) أعدت نشرها آملا أن أعلـِّم هؤلاء المزايدين الجهلة بدينهم، وبناسهم، ثم أستغفر الله العظيم قبل أن أقول “وبربهم”، ولم يصلنى أى تعقيب على النشرة، فرجحت أن معظم أصدقاء الموقع يعتبرون الخميس يوما خاصا بينى وبينه، مع أننى أستطيع أن أجمع من تداعياته فى تدريباته كتابا بأكمله يعلمنا طبيعة الحياء دون ذكر كلمة “الحياء”.
المهم:
لفت نظرى فى الاتجاه الآخر، ما عثرت عليه فى قصيدة من شعر عربى قديم تبدو فى ظاهرها من أعظم صور الحرص على أن يتمتع الشخص بالحياء كعلامة رقىّ بشرى، وأنه يستصعب بشكل بالغ المبالغة أن يضطر أن يتنازل عن حياء عينه (لاحظ تعبير “حياء عينه”، وليس قلبه، ولا قرار عقله!!)، وكانت القصيدة شديدة المبالغة استقبلتها بحذر، وإن كان قد بلغنى منها إيجابية هذا الوصف للحياء فى العين، والحرص على ألا يضيع منه، ثم إنني عتبرتها أرجوزة أقرب منها إلى الشعر العربى الرصين، وتشككت فى نسبتها إلى الإمام على رضى الله، وإن لم أتشكك فى قدر الحياء الذى كان يتميز به الإمام، برغم ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه امتدح حياء عثمان بن عفان رضى الله عنه، دون سائر الصحابة، إن صدَق الحديث الذى روى عن السيدة عائشة رضى الله عنها، وأنه عليه الصلاة والسلام قد قال لها حين فرَق بين استقباله أبا بكر وعمر رضى الله عنهما وهو على نفس الجـِلسة، وبين تغييرجلسته عندما دخل عليه عثمان، فسألته لمَ هذه التفرقة؟، فقال ما معناه “كيف لا أستحى ممن استحت منه الملائكة”
أنا آسف، بل إننى لا أحب مثل هذا الاستشهاد ونحن نعرف قصة السيدة عائشة مع على بن أبى طالب رضى الله عنهما وما أعقبها حتى الآن (نعم حتى الآن 2016 ميلادية!! ممنوع الكلام فى السياسة)
ما علينا، نرجع إلى القصيدة الرائعة فى مقصدها، الشديدة السوء فى شعرها، ذلك أننى ما إن قرأت هذا الشعر الخفيف الذى وصلنى كاريكاتيرا مرجوزا حتى شككت أنه شعر على بن أبى طالب أصلا، وإن كنت لم أعثر على ما يثبت لى ذلك،
مع تزايد شكى، لجأتُ من جديد إلى عمنا جوجل، فإذا به يتحفنى برواية أخرى تؤكد شكى، وتنسب القصيدة إلى متسول مجهول، احترمته من حيث المبدأ لأنه السائل الذى بلغ من عزته بحيائه، أن قرّع البخيل على بخله هكذا (كما سنرى فى الرواية).
لكننى عثرت فى هذا المصدر الأخير ما أضاع حماسى حتى وجدتني رافضا له ليس فقط لضعف شاعريته ولكن لعثورى على بيت شعر مدخول على النسخة الأولى التى نـُـسِبت إلى على رضى الله عنه، ذلك أنني لاحظت بيت شعر مُضاف بين الأبيات السابق لى الاطلاع عليها، فتقززت منه حتى أكــّـد لى استحالة نسبته إلى على رضى الله عنه.
الرواية الأولى التى نسبت إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه تقول:
واللــــه واللـــه مرتيـْن
لحفـر بــئر بإبرتيـْـن
ونقل بحرين زاخريـْن
الي صعــيد بمنـخــْليـن
وكنس ارض الحجاز طرا
في يـوم ريـح بريـشـتــيـن
ونـــزع طودين راسيين
وحـمـل ثـوريـن باليــديــن
ولا وقوفي علــــي لئيم
يضـيع منـه حـيـاء عـيــنـى
……………..
أما الرواية الثانية التى أكدت لى شكى ففيها بيت يستحيل أن يخرج من على بن أبى طالب ولا من أى إنسان يعرف معنى الحياء، ناهيك عن أنه يخشى أن يضيع منه حياء عينه، فيفضل كل هذه الصعوبات عن أن يعبر برأيه فى هذا البخيل مهما بدا قبحه
هذه الرواية الأخرى تقول:
رأي احد البخلاء فقيرا يمر امام بيته فابتدره قائلا: إياك أن تقف ببابى
فرد عليه الفقير وهو يواصل سيره:
واللــــه واللـــه مرتين
لحفـر بــئر بإبرتيــن …إلخ
لكن هذه الرواية الجديدة أضافت بيت شعر شديد القبح استفزَّنِى حتى نفرتُ من القصيدة كلها أكثر فأكثر، واستبعدت أن تصدر من فقير عربى مسلم ، وإن كنت لم أستبعد أن تصدر من السيد ترامب مثلا، حيث جاء فى وسط القصيدة ما يلى:
وغسْـلُ عبـديْن اسـوديْـن
حـتي يـصـيرَا ابـيـضــيـْـن
لعل هذا كان بعض ما أعنيه أن الحياء لا يـُعلن عنه، ولا يوصف، ومع تحفظى على نوع مثل هذا الشعر كما قلت إلى أن عثورى على النسخة الأخرى التى جاء فيها هذا البيت المقزِّز جعلنى أعيد فتح ملفات كثيرة عن مصداقية التراث، وعن ضرورة الحذر من نقله من مصدر واحد، وعن قياسه بأصل حقيقة الأحداث والمصادر، وليس فقط بسلامة الرواية، فلولا هذا البيت القبيح الذى كشف لى أن قائله لا يعرف معنى الحياء، ولا معنى الحياة، ولا معنى الإنسان، حتى لو نسبوه إلى هذا السائل المسكين الذى استعمله الشاعر السخيف، فانكشفت به علاقته بالحياء والأحياء، ومنظرته بالألفاظ وادعائه المستحيل حرصا على الاحتفاظ بما لا يعرفه أصلا !!
وبعد
ما علاقة هذا كله بالطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
لن أجيب على السؤال، وسأتركه ” فزورة” لمن يريد أن يساهم ولا يستحى أن يخطئ
………………..
(هل رأيتم فائدة “الورطة الصحية”، فأنا ما زلت معتكفا،
شكرا لدعواتكم
وأنا على يقين أنه سوف يستجيب لمن يخلص الدعاء كما استجاب فى المرة الثالثة لدعاء سيدنا موسى عليه السلام للمرأة العقيم، بعد أن رفضه مرتين، وقال سبحانه – كما تقول الرواية – لسيدنا موسى ما معناه أن هذه المرأة العقيم “…لا زالت تسألنى وتسألنى وتسألنى وتلح علىّ فى هذه المسألة حتى استحييت منها فاعطيتها سؤلها”.
(وهذا أيضا ضمن الطبنفسى الإيقاعحيوى)
[1] – نشرت فى الدستور بتاريخ 23-5-2007